هيهيه.. أخيراً توارت جبال القمامة من شوارع القاهرة، ولم تعد الحشرات الهائمة تجد وليمتها علي الطرقات، وكانت قد جرؤت علي مدي الأشهر الماضية علي الزحف حتي إلي أرقي الاحياء واجملها لتنتقم منها، أخيراً تحركت يد النظافة وبدأت أحد الوعود الرئاسية الخمسة في التنفيذ، والوعود الخمسة هي إعادة الأمن، النظافة، ضبط المرور، انخفاض الأسعار، توفير المحروقات، ولأني لست متطيرة، وأيضاً لا أشطح بخيالات تفاؤلي، أعتقد أن الرئيس سيبذل ما بوسعه للوفاء بوعوده، ولكن الأهم من تنفيذ الوعد هو أن يجد من يساعده للتنفيذ، واستمرارية التنفيذ وعدم اقتصاره علي مرحلة مؤقتة عملاً بمثل جدتي «كل غربال جديد وله شدة»، لنجد فيما بعد أن كل شيء عاد كما كان وكأنك «يا أبوزيد ما غزيت». ورغم أن الوعود الخمسة سالفة الذكر ليست فقط هي كل ما تحتاجه مصر بل بجانبها الكثير والكثير علي المديين القصير والطويل، كإعادة النظر في الحد الأدني وفي سقف الأجور، بدء خطة عاجلة لمكافحة العشوائيات، اتخاذ عدة قرارات جريئة لدعم وتشجيع الاستثمارين الداخلي والخارجي، وكذلك السياحة، إزالة التعديات علي أملاك وأراضي الدولة التي أصبحت مباحة ل «زيد وعبيد»، وإزالة الطوابق العليا المخالفة بالبنايات التي تمت إضافتها بفعل جشع الملاك وغياب الدولة في الفترة الماضية، التي باتت تشكل تهديداً لحياة آلاف المواطنين. إعادة النظر في منظومة التعليم ككل، الأساسي منها والعالي، بما في ذلك نظم التعليم الأجنبي أو الدولي التي باتت «سبوبة» المدارس الخاصة والطريق السهل لثراء أصحاب المدارس علي حساب إفقار، بل إفراغ جيوب الآباء، وشمول المدارس العامة بعين الرعاية الحقيقية، فقد تحولت هذه المدارس إلي ما يشبه «الإصلاحيات»، فهي قذرة متهالكة «تسد نفس» أحباب الله، ولا تشجعهم أبداً علي الفهم والتحصيل، بل تسهم في تدمير نفسيتهم وعقولهم وتشعرهم بالقهر، ناهيك عن قطاع الصحة الذي لا يمكن تفضيله أبداً عن قطاع التعليم، فالمرضي يبيتون الليالي أمام أبواب المستشفيات العامة ليفوزوا بالمثول أمام الطبيب، لا يجدون الأسرة ولا الأطباء ولا حتي «الشاش» والقطن، ولا قطرة دماء تنقذ مريضاً أو مصاباً في لحظة فارقة بين الموت والحياة. أما المصالح الحكومية ولا حرج، فقد تحولت إلي أشهر أماكن في العالم لتعذيب المواطنين وإذلالهم وإهانة كرامتهم، فالموظف العام يعتبر نفسه «إلة» أو فرعوناً خلف الزجاج الحاجز، ناهيك عن البيروقراطية وتعطيل مصالح خلق الله بلا سبب، في المرور مع تجديد تراخيص السيارات، في استخراج البطاقات الشخصية، الشهر العقاري، المعاشات مكاتب البريد، وغيرها الكثير حتي «لا ينسيني» الشيطان شيئاً فأعود لأعتذر عنها! فالمنظومة الإدارية في مصر تحتاج إلي «تفوير» وليس فقد إعادة هيكلة أو تنظيم، بل تحتاج إلي بنائها من الصفر لتكون آدمية، تتعامل مع بشر حقيقي وليس مجرد «قطيع» مغلوب علي أمره، وأطالب في هذا بتوريد آلاف «الأقفال» الحديدية لتلك الإدارات والمصالح لإغلاق «الأدراج» المفتوحة التي تستقبل الرشاوي السرية من المواطنين مقابل «تخليص» مصالحهم، بجانب فرق أطباء «جهابذة» لمعالجة الحالة المستعصية للأيادي الممدودة في تلك المصالح، والمستعدة دوماً لاستقبال جنيهات «الإكرامية»، و«مدعي اشتراكي» من نوع خاص لمصادرة جملة أصابتنا بعقدة نفسية مزمنة وهي «كل سنة وأنت طيب» التي يطاردنا بها عشرات البشر يومياً علي أرض مصر في مناسبة وبدون مناسبة، حتي لو تصادف وكان اليوم ذكري هزيمة 67، وهي جملة متفق عليها بين المصريين ولا تجد مثيلها في أي بقعة أخري في العالم، وتعني بدقة أنك لا بد أن تمد يدك في جيبك لتخرج «المعلوم» وتقدمه لصاحب الجملة وأنت تغتصب الابتسامة. وقبل أن أطالب رئيسنا وحكومتنا المرتقبة بكافة وزرائها وقطاعاتها إصلاح ما فسد وتقويم ما أعوج، علينا أولاً إصلاح الضمائر والعقول، تغيير ثقافة كثير من المصريين التي جبلت علي «الأنماليزم» وهو مصطلح مبتكر مشتق من مقولة «أنا مالي»، هذه الثقافة تدفع قائد السيارة الفارهة الذي يرتدي «آخر شياكة» إلي فتح زجاج سيارته وإلقاء منديل قذر أو عبوة مشروب فارغة في عرض الشارع الذي تم «كنسه» للتو، وهي الثقافة التي تدفع ربة البيت إلي إلقاء كيس القمامة علي بعد أمتار من منزلها وكأنها تضعه أمام باب يهودي، وتدفع صاحب المصلحة إلي دفع الرشوة «صاغراً» للحصول علي حقه دون اللجوء للشكوي لأنه «مش عايز مشاكل»، وتدفع الأب أو الأم علي عدم «نهر» الولد وهو يخرب بأصابعه أو بآلة حادة مقعد الأتوبيس أو القطار، وتدفع المرؤوس إلي تجاهل إهدار رئيسه للمال العام واستخدامه هواتف المصلحة أو سياراتها في أغراضه الشخصية «ولنا في سيارات الشرطة أكبر مثل»، وأيضاً غيرها الكثير، مطلوب إصلاح الضمائر أولاً وتغيير منظومة «الأنماليزم» لأنه «مالنا» مصرنا.. وطننا الذي نحلم بإصلاحه وتغييره بالفعل وليس بالشعارات، مطلوب ثقافة جديدة للشعب من الوعي والانتماء والوطنية، وإلا لن «تفلح» مصر ولو نفذ الرئيس ألف وعد.