مَن منَّا لا يعرف طرفة (جُحَا) حين مرَّ عليه أحد أصدقائه وهو يبحث عن شيءٍ ضاع منه، فقال له صاحبه: هل فقدتَ ذلك الشىء فى هذا المكان؟ قال جحا: لا؛ بل فقدتُه فى الشارع المجاور! قال صاحبه متعجِّبًا: ولماذا لا تبحث هناك؟ قال: لأنَّ الشارع هناك مظلم، أمَّا هنا فالمكان يسبح فى النوركما ترى! أخشى ما أخشاه أنَّ مؤسسة الرئاسة مارست هذا الدور (الجُحَوي) بعلم أو بدون علم، فى أزمة النائب العام. لقد سمعتُ الرجل متحدثًا على إحدى القنوات، كان يتحدث بثقةٍ فى موقفه واعتزازٍ بمنصبه بلا حدود، وكلامه – لا شكَّ – منطقيٌّ، وسيجعل أى إنسانٍ مُنصف يتعاطف معه، فالثقوب تملأ (القِربة) التى كان قضاة المجلس الرئاسى ومستشاروه يحاولون أن يتخلصوا منا بإلقائها فوق كتفى النائب العام، فإذا بها تُغرقهم من (ساسهم لرأسهم) بمن فيهم سيادة الرئيس نفسه! النائب العام – كما أوضح القانونيون؛ ومنهم المستشار مكى نفسه – لا دخل له بأحكام البراءة التى حصل عليها قوَّاد الجمل، والقاضى – أى قاضٍ – لا يحكم بقناعاتٍ بقدر ما يحكم بما أمامه من أدلة، والشرع نفسه علَّمنا ذلك، فالنبى صلى الله عليه وسلَّم لم يحكم بالاستئناس فى قضية الملاعنة المشهورة فى صدر سورة (النور)، حين اتَّهم الرجل زوجته بالزنا، فنزلت آيات اللعان، فتلاعنا، ورغم أنَّ الشكوك القوية المُبرَّرة كانت تُحيط بالمرأة من كلِّ جانبٍ، وخصوصًا بعد أن وضعت ولدَها شبيهًا بالرجل الذى اتُّهمت بالزنا معه، إلا أنَّ النبى صلى الله عليه وسلَّم لم يفتح ملفَّ القضية مرة أخرى، وقال قولته الخالدة:«لولا ما مضى من كتاب الله لكان لى ولها شأن»، فالأحكام لا تُوقَّع بالشُّبهات والاستئناسات وغلبة الظنّ، ثمَّ إنَّ الخطأ فى البراءة أخفُّ من الخطأ فى العقوبة، وهى قاعدة شرعية وقانونية لا تُسقطها – ويجب ألا تسقطها - الشرعية الثورية التى يُطالب بها البعض، وإلا ظلَّت هذه الشرعية الثورية المزعومة سيفًا مُصلتًا على كلِّ مغضوبٍ عليه من البعض، حتى إن كان بريئًا، والتاريخ بتجاربه خير شاهد على ذلك. إنَّنا نفترض تورُّط القضاء فى أحكام مُجحفةٍ، مع أنَّ أى أحد منا كان سيجد نفسه مكان القاضى لن يسعه إلا أن يحكم بما حكم به نظرًا لعدم كفاية الأدلة. نعم؛ نعترف أنَّ القضاء به بعض الفساد، ولكن تطهيره لن يكون إلا من داخله، وإلا لو تُرِك القضاء لمعارك تصفية الحسابات فلن يتبقى منه إلا ما يُرضى فئة معيَّنة على حساب الآخرين، حتى إن كانت تلك الفئة هى الأغلبية. استبشرنا خيرًا حين رأينا فى صدارة المشهد اثنين من رموز تيَّار استقلال القضاء، وتوقعنا مشاريع قوانين ثورية لتطهير القضاء والمحافظة على ثوب العدالة الأبيض الناصع، فهل كان تفاؤلنا فى غير محلّه، أم أنَّ علينا الانتظار لوقتٍ إضافيّ؟ أمَّا المكان الذى كان يجب تطهيره حقًّا، فهو المكان المظلم، جهاز الشرطة ووزارة الداخلية. هذه الحقيقة التى ما زال الكثيرون يتجاهلونها؛ ويتوجهون بتطهيرهم إلى أماكن لا تحتاج للتطهير بنفس الدرجة التى تحتاجها الشرطة .. الشرطة التى رآها العالم كله على شاشات الفضائيات تسحل وتستهدف العيون والرءوس والصدور العارية، الشرطة التى لا يختلف اثنان على مسئوليتها المباشرة عن إتلاف الأدلَّة الخاصة بوقائع الثورة وغيرها من الأدلة الخاصة بالفساد الذى ما زلنا نعانى منه حتَّى الآن، الشرطة التى كانت تُزوِّر الانتخابات وتقصف الأقلام وتحصد الرءوس دون أن يطرف لها رمش، فى الوقت الذى كان شرفاء القضاة يناضلون – جنبًا إلى جنب مع الوطنيين الحقيقيين - من أجل التصدى لمخطط التوريث وفضح الفساد وإنقاذ الوطن. يا سيادة الرئيس الكثيرون يتعاطفون معك؛ حتى من داخل القضاء نفسه؛ فلماذا تستعديهم عليكَ بخطواتٍ غير مدروسة، وقد عهدناك مُوفَّقًا فى معظم قرارتكَ السابقة؟ سيادة الرئيس؛ نرجوك توجَّه بالتطهير للمكان الصحيح قبل فوات الأوان.