يلاحظ المراقب أن التصريحات السياسية والتحليلات الإعلامية لمسألة انتشار قوات مصرية في سيناء علي حدود فلسطين الافتراضية تتسم بالمجاملات والاختصار واللهجة الدبلوماسية التي تضيع معها الحقيقة. تشترك الفضائيات والصحف والإذاعات العربية، في معظمها، مع السياسيين والقادة في محاولات إخفاء حقيقة هذا الانتشار. في المنطقة، فقط وسائل إعلام إسرائيل وتصريحات الساسة الإسرائيليين هي التي تتحدث عن الدور الأمني المصري في تلبية متطلبات الأمن الإسرائيلي. واضح إعلاميا وسياسيا أن لا أحد يريد أن يُغضب النظام السياسي المصري أو يدخل معه في عداوة أو مشاحنة أو توتر. وعلي المستوي الفردي، لا يريد أحد أن يغامر بملاحقة أجهزة الأمن المصرية له ولو في مسألة منعه من دخول مصر. بين المصالح المتبادلة، والمصلحة الفردية، وحك الظهر المتبادل بين قادة العرب تضيع الحقيقة. أبرز من يحاول التورية علي الحقيقة هم قادة الفصائل الفلسطينية الذين يعلنون غير ما يسرون، ويقفون أمام العدسات يشيدون بدور مصر الشقيقة في استعادة الحقوق الفلسطينية. أما مصر فلا تكف عن الحديث عن وقفتها الأخوية المتفانية من أجل شعب فلسطين، ومن أجل القضايا القومية العربية. القوات المصرية تنتشر علي الحدود الافتراضية الفلسطينية المصرية للدفاع عن الأمن الإسرائيلي وفي مواجهة مهربي السلاح من مصر إلي فلسطين والمقاومين الفلسطينيين الذين يمكن أن ينتقلوا من هذا الطرف إلي ذاك لأسباب عدة. هذه القوات ليست موجودة لملاحقة مهربي المخدرات لأن شرطة الحدود المصرية تستطيع القيام بذلك، ولا من أجل دعم المقاومة الفلسطينية من أجل تحرير المعابر وتأمين حرية الانتقال بين غزة ومصر، ولا من أجل تدريب المقاومين. وفق الاتفاقيات المعقودة بين مصر وإسرائيل، لا يجوز لقوات الجيش المصري أن تنتشر في سيناء، والانتشار مسموح فقط لقوات الأمن المدني مثل الشرطة وحرس الحدود ووفق معادلة تعلمها إسرائيل، وإذا كان لأي تغيير في الانتشار أن يحصل فعلي مصر أن تبلغ إسرائيل. أي أن مصر تمارس نوعا من الحكم الذاتي علي سيناء، ولا يسمح لها بإدخال أسلحة غير الأسلحة الفردية. حتي تستطيع مصر إدخال قوات الجيش إلي سيناء لا بد لها أن تطلب تعديل اتفاقية كامب ديفيد، أو أن تتوصل إلي اتفاق مع إسرائيل. وهذا بالضبط ما جري. طرحت أولا مسألة التعديل، ولكن الدولتين انتهتا إلي اتفاق منفصل ومؤقت.لإسرائيل طبعا حق تقييم أداء القوات المصرية، ولها أن تقرر فيما إذا كان علي مصر سحب قواتها أو الإبقاء عليها. التقييم الإسرائيلي هو تقييم أمني وفق مصالحها الأمنية. أرادت إسرائيل أن تنسحب أحاديا من قطاع غزة، علي أن تحتفظ لنفسها بسياسة أمنية في مواجهة فصائل المقاومة الفلسطينية. هبت السلطة الفلسطينية معترضة خشية أن تتسلم فصائل المقاومة السلطة المدنية في القطاع، وحصلت علي دعم مصر، وطلب الطرفان من إسرائيل التريث وضرورة التنسيق قبل الانسحاب. استعدت إسرائيل مدعومة من أمريكا للتنسيق، لكنها أوضحت أنها لا تستطيع الاعتماد علي السلطة الفلسطينية في القضايا الأمنية لأنه ثبت فشلها. اتفقت الأطراف في النهاية علي أن تقوم مصر بدور أمني علي الحدود وداخل القطاع وإنما بطريقة غير فاضحة حتي لا تلحق أضرارا بالنظام المصري أو يُستفز الشارع الفلسطيني. هناك الآن ضباط مصريون في غزة يدربون القوات الفلسطينية علي ملاحقة الإرهاب، وهناك قوات علي الحدود تقوم بذات المهمة. ومن المتوقع أن يتسلل مزيد من الضباط المصريين إلي القطاع دون إعلام ودون اتفاقيات معلنة، خاصة إذا احتاجت القوات الفلسطينية دعما لتجريد الفصائل الفلسطينية المقاومة من السلاح. أول الغيث قطرة. تم قتل فلسطيني وجرح آخر في رفح. نفت مصر أن تكون قواتها قد فعلت ذلك، لكن شهود عيان أفادوا بعكس هذا. لم تكن هناك قوات إسرائيلية في المنطقة ولا اشتباكات بين أطراف متخاصمة ساعة وقوع الحادث. أما إذا كان الادعاء ضد القوات المصرية غير صحيح، فإجراء تحقيق محايد يحل المشكلة. ومن ناحية ثانية، احتجت إسرائيل علي عبور الناس بين شطري رفح علي جانبي الحدود. استجابت السلطة الفلسطينية للاحتجاج وقررت منعهم من العبور، وكذلك فعلت مصر. علما أن هؤلاء عبارة عن أقارب وأصدقاء وجيران دفعهم الاشتياق والحنين للزيارات المتبادلة. أبدت إسرائيل انزعاجها من هذا الأمر، فانزعج العرب مصريون وفلسطينيون. فإذا كان لمصر ألا تصمد أمام هذا البعد الإنساني، فكيف بها ستتصرف إذا كان هناك تهديد فعلي للأمن الإسرائيلي؟ أصابت إسرائيل حساسية أمنية من أشواق الناس، وبالتأكيد ستكون حساسيتها متشنجة جدا إذا قرر هؤلاء الاستمرار في المقاومة. الخطوة المطلوبة تاليا هي تجريد فصائل المقاومة من السلاح وتحويلها إلي أحزاب سياسية تشارك في العملية السياسية التفاوضية. ماذا سيكون الموقف إن رفضت هذه الفصائل، وقد أعلنت الرفض فعلا؟ رئيس السلطة الفلسطينية يهدد، وهو يعلم كما تعلم الفصائل أن مصر لا تري ضرورة لحمل السلاح وقتال إسرائيل. من الصعب التكهن بذلك بخاصة أن مصر لا تريد أن تدخل أيضا في صراع شعبي مع الفلسطينيين أو أن يتم اتهامها بالخيانة علنا من أوساط فلسطينية، لكنني أرجح وقوفها إلي جانب السلطة بشكل أو بآخر. ------- صحيفة القدس العربي في 5 -9 -2005