مضت الانتخابات الرئاسية المصرية بدون ضجيج كبير، ولا احتفالية كبري. ولم يكن المفترض ان تستقبل هذه الجولة من انتخابات الرئاسة بهذا الفتور. هذه أول انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ الجمهورية (ويحلو للبعض القول في تاريخ مصر)، وهي المرة الأولي التي ينتخب فيها رئيس الجمهورية انتخاباً مباشراً من الشعب. ولكن الفتور مفهوم ومبرر. فقد أفرغ التعديل الدستوري، الذي مهد لهذه الانتخابات، من محتواه، مما أفضي إلي شعور عام باللاجدوي. وفي النهاية، خاض الرئيس مبارك معركة إعادة انتخابه بدون منافسين أكفاء، وخلت المعركة الانتخابية بالتالي من عناصر التدافع السياسي المتكافئ. لم ير المصريون في أي من منافسي الرئيس بديلاً يستحق عناء التصويت، ووسط توقع واسع بنجاح مبارك، لم يتكلف عموم المصريين عناء الذهاب إلي صناديق الاقتراع. وإن كان يقدر للسلطات المشرفة علي الانتخابات نشرها الرقم الحقيقي لمن قاموا بالتصويت، فإن نسبة المصوتين لابد ان تقرأ ليس باعتبارها عزوفاً عن السياسة، بل باعتبارها عدم اكتراث بالمعركة الانتخابية. هذا وجه واحد لهذه الانتخابات، ولكن هناك وجوهاً أخري. أهمها، بلا شك، ما يتعلق بالمعضلة الكبري للسياسة المصرية: الأخوان المسلمون. بالرغم من وجود عشرة مرشحين، فقد اقتصر التنافس، إعلامياً وفعلياً، علي ثلاثة منهم: الرئيس مبارك، زعيم حزب الوفد د. نعمان جمعة، والسياسي الطموح، المنشق علي الوفد، أيمن نور. بخلاف التوقعات، حصل نور علي المرتبة الثانية. ولكن مجموع الأصوات التي اعطيت لجمعة ونور لا تتعدي عدة مئات من الآلاف. وفي ظني ان العملية الانتخابية كانت في عمومها عادلة، ولم تشهد تجاوزات علي النطاق المعتاد. الأصوات التي حصل عليها كل من المتنافسين هي الأصوات التي يستحقها، سواء لاقتناع أصحاب هذه الأصوات بصلاحيته للرئاسة أو لمقاصد تكتيكية. وهذه الأخيرة هي التي تفسر تفوق نور المفاجئ علي جمعة. فبين من تجشم عناء الذهاب إلي صناديق الاقتراع، صوت لنور كل من لم يرغب في التصويت للرئيس مبارك، بما في ذلك بعض الإخوان المسلمين وأنصارهم. وكان المرشد العام للإخوان قد امتنع عن إعلان دعم الجماعة لأي من المرشحين و ترك خيار التصويت حراً، ولكن موقف جمعة الغامض والفوقي من حقوق الإخوان السياسية أثار استياء الكثير من عناصر الجماعة وأنصارها. المسألة الهامة في هذا كله، ان العزوف الواسع عن التصويت لم يشمل الحزب الوطني وقدرته علي الحشد. فأولئك الذين صوتوا، كانوا في اغلبهم من الحزب الوطني ومناصريه والمرتبطين به علي نحو أو آخر. بمعني ان الرئيس مبارك حصل علي ما يمكن لآلة الحزب الوطني ونفوذه الحكومي الهائل ان تحشده. ولكن المنافسين الآخرين هم الذين عجزوا عن حشد عدد كاف من الأصوات، علي الأقل لإظهار أدائهم السياسي بالمظهر اللائق. خلف نعمان جمعة يقف حزب الوفد بتاريخه الحزبي الطويل، بوصفه أقدم الأحزاب المصرية المتواجدة الآن علي الساحة السياسية. كما ان جمعة نفسه، عميد كلية الحقوق السابق، هو بحد ذاته شخصية محترمة تبعث علي الاطمئنان، حتي وإن افتقد الكاريزما. وقد حاز نور خلال الشهور القليلة الماضية علي تغطية إعلامية كبيرة، تفوق قدراته وتتجاوز سجله وتاريخه بكثير. بعض هذه التغطية قدمته الدولة نفسها، عندما اعتقلته ووجهت له تهمة التزييف أثناء التحضير لتأسيس حزب الغد. وبعضها الآخر ساهمت فيه الأوساط الأمريكية والأوروبية التي رأت في نور ممثلاً لليبرالية المصرية الجديدة، مهما كان المقصود بهذه الليبرالية. وبالرغم من ذلك كله فقد فشل الإثنان في تقديم أداء يليق بأول انتخابات رئاسية تعددية، تقوم علي الانتخاب الشعبي المباشر. وأحسب انه حتي لو شاركت أحزاب المعارضة الشرعية الأخري، التي قاطعت الانتخابات، مثل التجمع والناصري، لما كانت النتيجة مختلفة بكثير. فما الذي يعنيه هذا؟ الحقيقة التي يحاول كثيرون، في أوساط الحكم والمعارضة علي السواء، تجاهلها ان الإخوان المسلمين هم المنافس السياسي الحقيقي الذي كان يمكن ان يضفي وجوده علي الانتخابات الجدية التي افتقدتها. ثمة قوتان رئيسيتان في مصر مطلع القرن الحادي والعشرين: الحزب الوطني وآلة الدولة التي تقف وراءه، والأخوان المسلمون. هناك عدد من القوي والأحزاب الأخري، بالطبع، علي رأسها الوفد، والتيار الناصري الذي بات موزعاً بين كتلتين مختلفتين، ولكن أياً منها لا يشكل قوة قادرة علي لعب دور رئيسي في توازنات الساحة السياسية. وبدون ان تعاد للإخوان المسلمين شرعية العمل والتنظيم والفعالية السياسية، فستبقي الساحة السياسية المصرية أسيرة الفتور وغياب الحماس والتفاعل الشعبيين. ستبقي السياسة المصرية، بكلمة أخري، مغلقة، تفتقد دور إحدي قوتيها الرئيستين، وتفتقد حق محاسبة هذه القوة علي برامجها ورؤاها. وهذه هي مسألة المسائل، التي لا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي بدون التعامل معها، ولا يمكن التعامل معها بالمنطق الذي ساد طوال ربع القرن الأخير، أي قبول الإخوان كأمر واقع، وحرمانهم من الشرعية السياسية في الوقت نفسه. إحدي أهم التطورات في هذا الشأن كان الاجتماع الذي عقدته قيادات المعارضة السياسية الشرعية مؤخراً. وقد كانت أحزاب المعارضة الشرعية قد شكلت هيئة تنسيقية منذ ما قبل التعديل الدستوري، أقصي عنها الإخوان المسلمون. ولكن التنسيق بين أحزاب المعارضة لم يكن تحالفاً ملزماً. فبالرغم من اتفاق الأحزاب علي مقاطعة انتخابات الرئاسة، فوجئ الوسط السياسي المصري بقرار الوفد ترشيح رئيسه نعمان جمعة في الانتخابات. وما ان انتهت الانتخابات بالنتائج التي انتهت إليها حتي أدركت قوي المعارضة انها بحاجة إلي الارتفاع بأدائها، وهو ما أدي إلي عودة مسألة الإخوان المسلمين إلي البحث من جديد. ويبدو ان الاجتماع الاخير لقيادات الأحزاب شهد تبايناً حاداً في الرأي بين رفعت السعيد، المعارض الأساسي لانضمام الأخوان المسلمين لهيئة التنسيق، من جهة، وضياء الدين داوود، رئيس الحزب الناصري، ونعمان جمعة، من ناحية أخري، اللذين يرغبان في دعوة الإخوان للانضمام. ثمة عدد من الأسباب التي تقف خلف هذا التطور. فحزب التجمع، الذي يرأسه سعيد، قد انتهي إلي منتدي صغير لعناصر يسارية قديمة، بعد ان وجدت العناصر الليبرالية والقومية مواقع أكثر فعالية ومصداقية لها في حركة كفاية والأحزاب الناصرية. ولم يتبق للتجمع من مبرر وجود إلا هجومه العصابي علي الإسلاميين، بمناسبة وغير مناسبة. من ناحية أخري، تتوقع الأوساط السياسية المصرية ان تنجح مجموعة الناصريين الشبان، التي يقف علي رأسها حمدين صباحي وأمير اسكندر، في الحصول علي ترخيص لحزب الكرامة، الذي يخوض الآن معركة قانونية لتوكيد شرعيته. وهناك مؤشرات عدة علي ان الإخوان المسلمين قد يختارون التحالف مع الكرامة في الانتخابات البرلمانية القادمة، وهو ما قد يضعف الحزب الناصري وقيادته، ويترك حزب الوفد الذي تعصف به الآن عواصف الفشل في الانتخابات الرئاسية، في العراء. ولعل هذا، إلي جانب إحساس أحزاب المعارضة المتفاقم بالأزمة، هو ما يدفع هذه الاحزاب الآن إلي إعادة التفكير في قرارها السابق استبعاد الإخوان من هيئتها التنسيقية. مهما كان السبب، أو الأسباب، وراء التحول في موقف أحزاب المعارضة من الإخوان المسلمين، فإن هذا التحول ان حدث فعلاً هو مؤشر علي تطور إيجابي كبير في بنية السياسة المصرية. علي الإخوان أولاً ان لا يترددوا في الانضمام لأحزاب المعارضة الأخري، بحجة ضعف هذه الأحزاب وهامشيتها، كما تشير الآن بعض الأصوات. القيمة الرمزية لهذا التطور في السياسة المصرية هي أكبر وأهم بكثير مما تعنيه بمقاييس الأصوات والمقاعد. الدلالة الأولي لهذه الخطوة هي حسم شرعية الإخوان السياسية علي مستوي المعارضة. أما الدلالة الثانية فهي المضي خطوة اخري في اتجاه بناء إجماع مصري سياسي جديد. وهذا هو الأهم. إحدي أبرز العقبات التي تقف أمام عملية الإصلاح في بلداننا ان هذه البلدان تفتقد الإجماع، وليس ثمة من تغيير جوهري يمكن إحداثه في بنية السياسة والدولة بدون قاعدة وطنية إجماعية. إن حكماً ما لا يمكن له ان يسمح بتداول سلمي علي السلطة ان كان هذا التداول يحمل نذر الانقلاب الدستوري والبنيوي الشامل. عندما تمثل القوي السياسية أقطاباً متناقضة، فإن العلاقة بينها تبني علي الصراع والنفي، لا علي التنافس السلمي والحوار. كل الديمقراطيات الغربية ترتكز إلي دائرة إجماع واسعة النطاق، تشمل الاتفاق علي بنية الدولة ومؤسساتها، بنية القانون وأهدافه، العلاقة بين السلطات، قيم التعليم والثقافة السائدة، والأهداف الكبري للسياسة الخارجية. بدون هذه القاعدة الإجماعية، التي تخضع لتغيير بطيء بمرور الزمان، لا يمكن ان يكون هناك استقرار ولا عملية سياسية. في أغلب الدول الغربية، ولد الإجماع من حصيلة عقود طويلة من الحروب الأهلية، الانقلابات، والمعارك الداخلية والقارية الدامية. وهناك خياران رئيسيان أمام الدول والشعوب العربية والإسلامية: الأول، ان تواصل طريق الصراع الداخلي إلي ان تستطيع إحدي القوي الرئيسية حسم الصراع لصالحها، لتصبح رؤيتها هي قاعدة الإجماع الوحيدة الممكنة. والثاني، ان يحدث تقارب واتفاق تدريجيان بين القوي والتيارات والرؤي الفكرية والسياسة الرئيسية، يؤسسان لإجماع واسع حول مسائل الأمة والدولة والعلاقة بالعالم. في وضعها الحالي، لا تحتاج مصر ولا تحتمل استمرار حالة الصراع وعدم اليقين السياسي، لاسيما ان كانت هذه الحالة تحمل في داخلها بذور انفجار العنف. وهناك دلائل عديدة علي ان الحياة السياسية والفكرية المصرية تشهد تقارباً حثيثاً وتجاوزاً حقيقياً لكثير من قضايا الاستقطاب السابقة. ليس هناك قوة مصرية سياسية رئيسية تدعو إلي انقلاب شامل علي الدولة، ما تختلف حوله هذه القوي هو مدي واتجاه الإصلاح. وليس ثمة قوة تتبني وسائل العنف لإحداث التغيير السياسي. قضايا الافتراق بين العروبة والإسلام جري ويجري تجاوزها إلي حد كبير، بعد ان أصبحت القوي القومية تدرك عمق الجذور الإسلامية للشعوب العربية، وبدأت التيارات الإسلامية تأخذ في الاعتبار عمق الهوية العربية للمنطقة وطموحات الشعوب في الوحدة. هناك اتفاق كبير علي دور مصر الإقليمي ومسؤولياتها العربية والإسلامية، علي ضرورة الحفاظ علي استقلال القرار الوطني، وعلي أولويات السياسة الخارجية المصرية، إقليمياً ودولياً. ما يزال الطريق طويلاً، بالطبع، لتوليد ثقافة اتفاق وتفاهم حول مسائل عديدة أخري، ولكن الاتجاه العام للسياسة المصرية هو اتجاه تبلور الإجماع لا الافتراق والصراع. وهذا ما ينبغي البناء عليه. إن كان التعديل الدستوري وفتور أول انتخابات رئاسية تعددية قد أصابت الكثيرين بخيبة الأمل والإحباط، فإن حراكاً متزايداً في الساحة السياسية المصرية يبعث فعلاً علي الأمل. وما تعيشه مصر اليوم لا يتعلق بها فحسب، لأن وقائع مصر واتجاه حركتها سرعان ما سينعكس علي المنطقة العربية كلها. هكذا هي تقاليد هذه المنطقة وتاريخها، مهما بذلت من جهود لتشويه هذه التقاليد. ------- صحيفة القدس العربي اللندنية في 6 -10-2005