أصبح نجاح الحوار الفلسطيني في لم الشمل وتجنيب الشعب الفلسطيني ويلات الفتنة الداخلية أمرا في غاية الأهمية بالنسبة لجميع الفاعلين الفلسطينيين في الداخل والخارج: قوى سياسية وفصائل مقاومة وأسرى ومجتمع مدني, لكون مخاطر الفشل ستكون لها انعكاسات كارثية على الجميع. ومن ثم كان التأكيد على ضرورة نجاح هذا الحوار في أقرب الآجال, لتوظيفه في تعزيز الموقف الداخلي والخارجي لكسر العزلة الدولية المفروضة على الشعب الفلسطيني إقليميا ودوليا. في السياق العام ذاته, ظهرت وثيقة الوفاق الوطني الصادرة عن الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال, كمساهمة جريئة في إرساء معالم ميثاق وطني, صالح لأن يكون أرضية للنقاش الجاد والبناء, لكونها قد أكدت في بعض بنودها الثمانية عشرة على ثوابت الشعب الفلسطيني المتمثلة في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وعودة اللاجئين وتحرير الأسرى (البند الأول), وفي حقه في المقاومة (البند الثالث). إلا أن البندين الرابع والسابع قد أثارا حفيظة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ودفع أسراهما في سجون الاحتلال إلى إصدار بيانين منفصلين لنفي أي علم لهما بهذه الوثيقة، وإبداء الاعتراض على بعض البنود والتحفظ على البعض الآخر. هذا في الوقت الذي رحبت بها حركة فتح ودعا رئيسها السيد أبومازن إلى تبنيها أو الوصول إلى حل توافقي في أجل أقصاه عشرة أيام, هدد بعدها, بصفته رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية والمسئول الأول عن الشعب الفلسطيني, بطرح وثيقة الوفاق الوطني الصادرة عن الأسرى على الاستفتاء العام، لكن السؤال المطروح الآن هو: ما هي خيارات الحكومة الفلسطينية أمام الحوار؟ أمام الحكومة الفلسطينية وحركة حماس خياران: إما القبول بوثيقة الأسرى أو التوصل لحل توافقي. لكنهما أمران أحلاهما مر أو لنقل صعب المنال, فالقبول بوثيقة الأسرى سيصطدم بصعوبات تنظيمية وفكرية, ذلك أن اتخاذ أي قرار داخل حماس لابد وأن يمر بأربعة مستويات تنظيمية, وتشاورية, تبدأ بمشاورات واسعة على مستوى قواعد وقيادات الحركة في قطاع غزة والضفة الغربية, وفي سجون الاحتلال, وفي الشتات بتنسيق مع القيادة السياسية في الخارج, ولكل مستوى من هذه المستويات الحق الكامل في النقاش وإبداء الرأي بكل شفافية واستقلالية, لذا فإنه ليس من السهل أن تحسم حركة حماس بسرعة في موقفها النهائي من هذه الوثيقة, خصوصا بعدما أبدى معظم أسرى الحركة اعتراضهم وتحفظهم على بعض بنودها من خلال البيان الذي أصدروه, إضافة إلى المواقف المبدئية التي ما فتئت تعلن عنها قيادة الحركة في الخارج. أما من الناحية الفكرية العقدية, فإن الحركة ستجد نفسها في اصطدام مع ثوابتها التاريخية التي تربت عليها أجيال القسام, واستشهد عليها قادة أبطال من أمثال الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وأبوشنب ويحيى عياش والقائد صلاح شحاذة...إذا ما هي قبلت الاعتراف بشرعية دولية (غير عادلة) كما جاء في البند الرابع من الوثيقة, لأن ذلك سيشكل مدخلا قانونيا للاعتراف بالكيان العبري وبحقه في دولة على جزء مغتصب من أرض فلسطين التاريخية, وتناقضا صارخا مع ميثاق الحركة الذي يعتبر فلسطين أرض وقف إسلامية لا يجوز التفريط بشبر واحد منها أو بحبة رمل من رمالها. وأن كل قرار متسرع بقبول الحركة لوثيقة الأسرى دون تعديلات, سيساهم في إرباك صفوف الحركة وخاصة جناحها العسكري الذي يعتبر قوتها الضاربة. أما التوصل إلى حل توافقي, فهو ذلك السهل الممتنع، لكثرة الخلافات في الرؤى والبرامج بين الحركتين الأساسين: فتح وحماس, وهو مبتغى وأمل كل الشعب الفلسطيني، خاصة في هذا الظرف الدقيق من تاريخ القضية الفلسطينية. والنجاح في رفع تحدي الخلافات يقتضي من الجميع تغليب المصلحة العليا للوطن أولا, وإبداء المرونة السياسية اللازمة ثانيا, بهذين الشرطين فقط, يمكن للحوار الفلسطيني أن يخرج من النفق المظلم الذي ظل حبيسه لمدة طويلة, ويمكن للشعب الفلسطيني أن يخطوا خطوات إلى الأمام على طريق التحرير والنصر, وما عذا ذلك, مزيد من التشتت والضياع والخسران المبين. وتواجه حركة حماس اليوم أخطر التحديات, فإما أن تنجح في إقناع قواعدها بضرورة اعتماد تكتيك سياسي مرحلي, لا يخل بما هو إستراتيجي من جهة, ويوفر الأرضية لنجاح الوفاق الوطني من جهة ثانية, بما يضمن تحقيق أهدافه السياسية والنضالية داخليا وخارجيا. وإما أن تفشل في هذا المسعى, وتكون بالتالي مضطرة إلى ترك الحكم والتضحية به عوض التضحية بالحركة, بسبب عدم توفر الظروف المناسبة لممارسة الحكم دون تقديم التنازلات: اختلال موازين القوى العسكرية لصالح الكيان الصهيوني, انحياز أمريكا وجزء هام من المجتمع الدولي (أوربا) لصالح "إسرائيل", تراجع الدعم العربي وانخفاض موجة التعاطف الشعبي العربي والدولي مع القضية الفلسطينية, وجود اتفاقيات وقرارات مجحفة في حق الشعب الفلسطيني (خارطة الطريق). إن دخول حركة حماس تجربة الحكم, جلب لها وللشعب الفلسطيني الكثير من المتاعب, بدأت بعدم اعتراف المجتمع الدولي بالحكومة التي شكلتها ما لم تعترف هي الأخرى بالاحتلال الغاصب لفلسطين وتلقي السلاح (أي الاستسلام), ثم مرت بفرض الحصار الاقتصادي على الشعب الفلسطيني عقابا له على اختياره الديمقراطي, وبفرض العزلة السياسية على وزراء الحكومة, وانتهت بإثارة القلاقل والفتن الداخلية. إنها جملة من الضغوطات والإجراءات الهدف منها, إما ابتزاز الحكومة للحصول على تنازلات مجانية لفائدة الاحتلال, وإما العمل على إسقاطها إذا ما هي أبدت ممانعة وصمودا المصدر : العصر