أعني ببناء الذات البناء السياسي والمادي معاً وأعني بالارتماءات الارتهان الي الغير إن ما نشهده من سيطرة وتدخل عسكري لقوي السيطرة في العالم في أماكن عدة من هذا العالم ما هو إلا نتيجة لقصور ذاتي تعاني فيه هذه الأماكن جعل من التعامل معها علي هذا المستوي من التدخل المباشر وربما العنف غير المبرر. فأسلوب التعامل السياسي في عالم اليوم تحدده درجة بناء الذات التي وصلت إليها الأطراف المتباينة فبالتالي إذا كانت هناك ثمة وسيله تمارسها القوي المسيطرة في العالم لبقاء سيطرتها علي غيرها من القوي والمجتمعات فهي في إعاقة إكمال بناء الذات لهذه القوي وتلك المجتمعات، وتبدو الأمور أكثر مأساوية عندما يرتبط هذا الهدف الخارجي بمصالح لدي الداخل تساعد علي تحقيقه واستمراره. وفي تاريخ الأمة الحديث أدي قصورها بناء الذات إلي إرتهان الأمة وارتمائها في أحضان الغير في احلك الساعات واصعب المواقف فعكس النتائج المرجوة وحطم الآمال المعقود عليها سواء في مبادرات الحرب أو السلام التي قادتها الأمة أو فرضت عليها. فخلال الانعطافات الهامة والمصيرية في تاريخ الأمة كان قصورها الذاتي كما عرفته في البداية يفرض عليها نمطاً من الارتهان في أحضان الغير رغم إمكانياتها العظيمة. فكان القصور السياسي سبباً في هزيمة 76م وكان القصور المادي سبباً في محدودة نصر 73م وكانا كليهما سبباً مباشراً في ارتماء الأمة وارتهانها الي الغير خلال كارثة الخليج الثانية ولا ننسي ان القضية الفلسطينية عبر تاريخها كانت مؤشراً واضحاً لضعف بناء ذات الأمة في الحفاظ والدفاع عن حقوقها المشروعة، أنا اعتقد ان الدول العربية تعاني من عدم تراكم الخبرة السياسية أو تطورها عند البعض الآخر فكل ما نشهده أنصاف تجارب أو تجارب مجمدة عند مرحلة معينة لا تتعداها لأسباب عديدة. الإعاقة الخارجية التاريخية لبناء الذات العربية: نطاق هذه الإعاقة هي مرحلة ما بعد الاستعمار وتشكل النخب الحاكمة فحين كانت مرحلة الاستعمار مرحلة تواجد وعسكرة كانت مرحلة ما بعد الاستعمار مرحلة تشظ وصراع بين جوانب الأمة المختلفة نتيجة لما ترك ذلك الاستعمار لها من قنابل موقوتة ومشاكل مستعصية سواء تلك المشاكل الحدودية بين معظم أقطارها أو التقسيم السياسي لها بحيث تصبح مجزأة الي حد يمكن السيطرة عليها خاصة وأنه حاول التدخل في اختيار حتي نخبها الحاكمة. فلا توجد دولة عربية علي الأقل ليست لها مشاكل حدودية مع جاراتها العربية أو مع نخبها الحاكمة بدرجة أو بأخري ويبدو أن طريق الخلاص طويل اليوم بعد انصهار الاقتصاد العالمي داخل بوتقة واحدة تصب في دائرة المصلحة الغربية والشركات الأجنبية ويبدو مثل هذا القصور في بناء الذات سمة ملازمة أبدية لهذه الأمة في هذه المرحلة المعولمة ما لم تحصل عملية Break down وإعادة بناء من جديد كما يتم في أجزاء من أوروبا الاشتراكية سابقاً والاتحاد السوفييتي. الإعاقة الداخلية والارتهان الي الخارج: نطاق هذه الإعاقة يتمثل في ثلاث نقاط، الاقتصاد الكنز (الريع) وعدم تطور فكر النخب الحاكمة فيها واعادة إنتاج الأزمة. شكل الاقتصاد الريعي في الأقطار البترولية من الأمة علي بقاء الأوضاع علي ما هي عليه استخراج ثروة وتوزيعها واستعمال هذا الأسلوب بدرجات مختلفة تعلو لدي الأزمات وتخفت في المراحل الأخري في حين عجزت النخب الحاكمة في أقطار الأمة عن تطوير ذاتها وشكل هذا العجز مدخلاً مبرراً لإعادة إنتاج دورة العنف والعنف المضاد فتوالت الانقلابات والثورات هنا وهناك في أجزاء هذه الأمة فحصلت إنكسارات فاصلة بين المراحل أدت دائماً الي البدايات من الصفر وحرمت الأمة من ميزة التراكم السياسي والتطور التاريخي المرجو. اصعب مراحل بناء الذات: نطاق هذه المرحلة يتمثل في فشل التيارات الحاكمة العربية بعد مراحل الاستقلال وبروز التيار الإسلامي وانفلات الأمور بعد ذلك. حين ندرك مدي فداحة الثمن الذي تدفعه الأمة اليوم ندرك مدي فداحة الخطأ الذي ارتكبته النخب الحاكمة في دولنا العربية بتياراتها المختلفة في عدم قبولها للتطور وقبول الآخر وهي تيارات في الأساس فكرية إنسانية وهناك كامل المشروعية لرفضها أو القبول بها أو التعديل فيها ومع ذلك كانت ترفض تلك النخب ذلك وتطلب التعامل معها كعقيدة dogma في حين أن كثيراً من دول العالم استطاعت أن تحول تياراتها القومية والماركسية والشيوعية الي تيارات ديمقراطية دستورية بالرغم من احتفاظها بأسمائها التاريخية وبمرتكزاتها الفكرية. ولكن بروح أكثر تطوراً. فكان التيار الإسلامي بديلاً لفشل تلك التيارات وهزائمها والمتكررة ورأينا ازدواجية في التعامل مع هذا التيار من قبل النخب الحاكمة تبعاً للطيف الذي يمثله فهناك قبول لبعض أطيافه ورفض للآخر وكلها تدعي احتكامها الي دستور الأمة الخالد وأن الإسلام هو الحل. لذلك تبدو هذه المرحلة من اصعب مراحل بناء الذات لاتساع المرجعية وللظروف الخارجية كما أشرت أو لظروف الأمة الداخلية نظراً لانخفاض شعبية أنظمتها أمام شعوبها وهو ما أثبتته الانتفاضة وأحداث الأرض المحتلة وتدهور مستوي طبقات الأمة الوسطي (د. رمزي زكي علم الفكر 96) وازدياد التطرف الديني والمناداة بشعار الحاكمية لله من جديد بعد فشل التيارات المتعددة ونخبها في تطوير الأمة وتجنيبها المآسي والنكبات. فالوضع يبدو الآن مأساوياً حيث لا برامج معلنة أو سرية حول كيفية بناء الذات بالرغم من أن تلك التيارات رغم فشلها كانت لها برامج فالتيار القومي في مصر والعراق مثلاً قطع شوطاً كبيراً في بناء الذات مادياً ولكن سبب انهياره كان في عدم توازن ذلك مع التطور السياسي المطلوب فدمرت الذات السياسية غير المكتملة الذات المادية الواعدة واتت عليها. الان ما العمل؟ ليست هناك خلطة سحرية تخرج الأمة من أزمتها. فجميع هزائم الأمة كانت مقدره قبل حدوثها ومتوقعة قبل وقوعها لسبب بسيط وهو عدم تصالح نخبها مع شعوبها هناك من نخب الأمة المثقفة من سجد لله شكراً علي هزيمة 1967م وهناك من الشعوب من يترحم علي أيام الاستعمار من ظلم أولو القربي وهناك من يرهن نفسه ووطنه للأجنبي مخافة جاره العربي المسلم أي مأساة بعد هذا؟ من العجب ان ننَتصر، بل ذلك يعتبر خرقاً لسنن الله في الكون ونحن علي هذه الشاكلة نخب تسود وتغني وشعوب تكدح وتشقي فنقطة البداية في بناء الذات في المصالحة التاريخية بين النخب الحاكمة والشعوب ومن يدعي ان النخب في مأمن فهو غير مدرك لما يجري اليوم ان الاتهامات الغربية اليوم تزداد وتيرتها يوماً بعد آخر ضد اقرب الأصدقاء والمتعاونين فهم علي أدراك تام بان الكلمة الأخيرة للشعوب ولن يقفوا طويلاً ضد أرادتها ولكنها مرحلة الاستفادة العظمي من النظام قبل الاستجابة لإرادة الشعوب. فالفرصة مؤاتية لخلق بنية مناسبة لإيجاد مثل هذا المصالحة التاريخية بين الجانبين لتكتمل الذات وهي الطريقة التي سلكتها الأمم التي نشهد اليوم قوة بأسها واشتداد عودها ولكن الاختلاف كان في الثمن الذي دفعته كل أمة لذلك تبعاً لإدراكها ووعي شعوبها. ---- صحيفة القدس العربي اللندنية في 20 -10 -2005