بقلم : طلعت رميح الثلاثاء الماضى، كان يوم اعلان صدق المحاكم الاسلامية، بأن انسحابها من المدن الصومالية لم يكن إلا تغييرا فى خططها الاستراتيجية بعد غزو القوات الاثيوبية للاراضى الصومالية بسبب موازين القوى العسكرية التى اختلفت عن حالة الصراع مع امراء الحرب، وكذا اعلانها انها بدات معركة تحرير الصومال من الاحتلال الاثيوبى، وان صحة تقديرها بان اثيوبيا ليست الا وكيلا عن الولاياتالمتحدة فى عدوانها على الصومال، وان الحكومة الانتقالية ليست إلا العوبة فى يد الامريكيين والصوماليين.
وكان ذات اليوم، هو يوم اعلان كذب الادعاءات التى اعلنتها الحكومة الصومالية الانتقالية -صنيعة الاحتلال الاثيوبى والخاضعة للاملاءات والاوامر الامريكية - بتحقيق الانتصار على قوات المحاكم، وايضا زعمها بأن قوات المحاكم انهارت وتفرقت وانتهى امرها وانها لهذا طلبت من الحكومة الكينية اغلاق الحدود حتى لا يعبر من هرب من افراد وقيادات المحاكم عبر الحدود، وكذا مزاعمها وادعاءاتها بأن الشعب الصومالى فرح ومبتهج باطاحة سلطة المحاكم، وان البلاد ستشهد استقرارا تحت حكمها وان القوات الاثيوبية ستنهى مهمتها وتنسحب باعتبارها قوات صديقة للصومال.. الخ.
ففى هذا اليوم جرى امران هامان، اولهما، وقوع عدوان امريكى على معسكرات لقوات المحاكم قيل ان "مطلوبين " من تنظيم القاعدة كانوا فيها ضمن مجموعات من مقاتلى المحاكم الاسلامية،بما مثل اعترافا -بغض النظر عن الحجة الامريكية التى لا تتغير من بلد لاخر ومن عمل عدوانى لاخر-بان قوات المحاكم قد انسحبت الى قواعد لها فى جنوب البلاد جرى مهاجمتها، كما جاء تاكيدا لاخبار متواترة عن استمرار المعارك بين قوات الاحتلال الاثيوبية ومجاهدى المحاكم فى تلك المناطق، وان القوات الاثيوبية لم تتمكن من التقدم خطوة واحدة فى تلك المعارك رغم خسائرها الكبيرة ورغم استمرارها لخمسة ايام متواصة، اضطرت بسببها الى طلب اسناد جوى امريكى لها.
وثانيها ان هجوما عسكريا هو الاول من نوعه قد جرى ضد قوات الاحتلال الاثيوبية فى العاصمة الصومالية مقديشو -قتل فيه احد الجنود -بما انهى خرافة ان القوات الاثيوبية هى قوات صديقة، وثبت مرة اخرى فكرة ان قوات المحاكم قد غيرت استراتيجيتها ولم تهرب او تنهار بالطريقة التى تحدث بها ميليس زيناوى رئيس الوزراء الاثيوبى او غيره، كما هو ثبت الرؤية الصحيحة القائلة بان الصومال بدا مرحلة اعقد من الاضطراب السياسى، خاصة وان الهجوم جاء بعد انهيار خطة الحكومة الصومالية المؤقتة الهادفة الى جمع السلاح من ايدى المواطنين، وبعد وقوع تظاهرات متعددة ضد الاحتلال الاثيوبى باتت فى تصاعد وتجدد نتج عنها سقوط ضحايا، وكذا لأن هذا الهجوم جاء بعد وقوع عمليات حرق وسلب ونهب فى داخل العاصمة ايضا، بما يشير الى عدوة مقديشو الى حالة من عدم الاستقرار.
صدقت المحاكم الاسلامية اذن، وكذبت المعلومات والتقديرات التى تحدثت عن نهاية المحاكم، ودخل الصومال مجددا فى حالة من المقاومة والتحرير وفى حالة عدم استقرار -لا شك ان مؤشراتها تدل على حدوثها على نحو كبير ومتفاقم -كما اضطرت الولاياتالمتحدة للدخول مباشرة على خط القتال. فهل جاء التدخل الامريكى بسبب دخول القوات الام=ثيوبية وعملية الاحتلال فى مأزق استراتيجى ؟ وهل تضطر الولاياتالمتحدة الى الدخول على خط الصراع بشكل اعلى من فكرة القصف الجوى، بالتواجد على الارض ؟
أثيوبيا.. الخطأ الاستراتيجى ! حينما بدأت المحاكم الاسلامية تحركها الواسع، كان الامر الواضح للجميع ان الولاياتالمتحدة قد اوكلت مهمة الحرب ضدها الى اثيوبيا، وفى ذلك راى الكثيرون ان الولاياتالمتحدة لا يتوقع منها التدخل مباشرة فى القتال البرى، بالنظر الى سابق تجربتها الماساوية فى هذا البلد حين حاولت استخدام غطاء الاممالمتحدة فى عام 1992، لانزال وابقاء جنودها فى الصومال فإنتهت مغامرتها الى جرجرة جنود المارينز الى معركة خاسرة وسحل بعضهم بطريقة سجلتها الافلام الامريكية لا وقائع الاحداث فقط، بما جعل الامريكيين تقشعر ابدانهم اذا قيل لهم ان الجنود الامريكيين سيقاتلون مجددا فى الصومال، وكذا بحكم ان تقديرات استراتيجية رات ان التدخل العسكرى الامريكى فى الصومال امر يخلق لها مشكلات مع حلفاء -سابقين -كما هو الحال بالنسبة لاريتريا التى تعتبر الدخول العسكرى الامريكى ضد المحاكم دعما لاثيوبيا وكذا لان مثل هذا الغزو يعطى اشارة ذات مغزى للسودان بشان قضية دارفور بما يربك الخطة الامريكية هناك ويجيش الاوضاع ضد القوات الدولية هناك. ومن قبل ومن بعد راى البعض ان الرئيس الامريكى ليس فى حاجة الى صداع عسكرى جديد فى ضوء الحالة المفزعة التى وصل اليها قراره بالعدوان العسكرى على العراق. كان التقدير العام ان الولاياتالمتحدة ستعتمد على احد "القادة الجدد" الذين دعمتهم واوصلتهم للسلطة فى افريقيا -زيناوى فى اثيوبيا وموسوفينى فى اوغندا.. الخ -وانها فى ظرف لا يسمح لها بالدخول العسكرى المباشر.
وهكذا جاءت الاحداث فى بدايتها لتؤكد صدق تلك الرؤية وهذه التوقعات، اذ جرت عملية الغزو اثيوبيا تحت غطاء امريكى سياسى واعلامى -وان كانت صور الاقمار الصناعية وطائرات التجسس الامريكية كانت هى المرشد للقوات الغازية-بل هى جرت وسط اعلانات اثيوبية بان الولاياتالمتحدة كانت تحذر اثيوبيا -من الغزو العسكرى "الانفرادى، وهو ما اشار اليه ميليس زيناوى رئيس الوزراء الاثيوبى من ان الولاياتالمتحدة كانت تفضل ان يكون الغزو من قبل قوات افريقية متعددة الجنسيات، بسبب التاريخ الاثيوبى -الصومالى المليء بالمرارات بما يمثل حالة نموذجية لاشتعال حرب مقاومة ضدها. لقد غلبت الحسابات الاثيوبية فكرة التدخل العسكرى الانفرادى، حتى تضمن السيطرة المطلقة على الحكومة الانتقالية وعلى امراء الحرب حيث وجود قوات من دول متعددة كان يعني فرصة مواتية لحدوث تفلتات فى داخل تلك الحكومة من فكرة السيطرة الاثيوبية المطلقة تفاديا للرفض الشعبى للوجود الاثيوبى الانفرادى، كما أنه يعطى فرصة لامراء الحرب للتحرك فى ظرف مواتي بحكم تعدد ارتباطاتهم مع دول الجوار ودول اخرى فى القارة، وكذا رات اثيوبيا ان تدخلها وحدها انما يمثل فرصة لتفريغ الصومال من وجود اية قوة اخرى غيرها-حيث اخراج قوات المحاكم من المعركة يعني ان هذا البلد اصبح فى حالة الفراغ الكامل، بما يجعل توقيتات وطريقة انسحابها امراً فى يدها كليا. وهى جميعا اهداف حددتها طبيعة المصالح الاستعمارية الاثيوبية، اذ هى تحاول تعويض خسارتها الاستراتيجية فى اريتريا عن طريق التواجد فى الصومال وادارة مقوماته الاستراتيجية خاصة موقعه الجغرافى لمصلحة اثيوبيا.
لكن ما جرى بعد الغزو، من انسحاب استراتيجى لقوات المحاكم، ثم بدء عمليات المقاومة فى المدن وفى مناطق محددة خارجها على مساحة انتشار قوات الاحتلال الاثيوبى، ثم عدم قدرة الحكومة على نزع السلاح وعودة الميليشيات للظهور، كلها عوامل بدأت تغير المعادلة بما اثبت وقوع القيادة الاثيوبية فى خطا استراتيجى متعدد الاتجاهات. فمن ناحية لم تنجر القوة السياسية والعسكرية الوليدة فى الصومال او المحاكم الاسلامية، الى الفخ الذى نصب لها بما فوت الفرصة على القوات الاثيوبية فى احداث فراغ استراتيجي فى الصومال، بل كانت النتيجة ان تثبت الخصم الاستراتيجى للاحتلال الاثيوبى. ومن ناحية اخرى فإن عدم قدرة قوات الاحتلال وقوات الحكومة على انجاح خطتها فى السيطرة وتحقيق الامن الذى حققته المحاكم،كما الرغبة الاثيوبية فى الانفراد بالسيطرة على الصومال قد انقلبت الى حالة معارضة لدورها من قبل دول المحيط وعلى صعيد مواقف الاطراف العربية التى باتت تطالب بقوة افريقية من دول خارج دول الجوار. لقد اصبحت اثيوبيا ب،امام خيارين كلاهما مر، اما ان تنسحب قواتها ليدخل محلها قوات من دول اخرى -هى ليست من بينها -بما يعنى ان كل ما فعلته لم يتعد تسليم الصومال لآخرين، واما ان تبقى كقوة احتلال تحت رفض خارجى وعمليات رفض ومقاومة داخلية تجعلها فى حالة استنزاف لاشك أنها هى الخاسرة فيها خاصة وانها ما تزال فى حالة حرب فعلية مع اريتريا التى لاشك انها عند مرحلة معينة من استنزاف اثيوبيا ستدخل معركة جديدة ضدها.. الخ.
هنا كان من الضرورى ان تهرع الولاياتالمتحدة الى استخدام قوتها العسكرية بالقصف الجوى، وهو ما ثبت صدق المحاكم وفتح الباب واسعا امام اعمال عسكرية دائمة ضد القوات الاثيوبية على الارض حيث دخول الولاياتالمتحدة الى جانب اثيوبيا، يصعد الاوضاع ضد اثيوبيا وضد الحكومة الانتقالية ايضا.
امريكا.. القصف والمبرر؟ المبرر الامريكى الذى جرى على اساسه دخول القوات الجوية الامريكية المعركة ضد المحاكم الاسلامية، هو ان القصف جاء بسبب وجود اعضاء من تنظيم القاعدة -سبق ان ساهموا فى عمليتي تفجير السفارتين الامريكيتين فى كينيا وتنزانيا-فى المعسكرات التى قصفت فى جنوب الصومال. وفى ذلك فإن الاتهام ليس جديدا فى حد ذاته لا من زاوية ان الولاياتالمتحدة تعتمد فكرة الحرب على القاعدة فى كل عملياتها العدوانية الدول الاخرى اذ جرى الغزو والاحتلال لكل من افغانستان والعراق، ولا من زاوية اتهامها لبعض الفصائل الصومالية بإيواء عناصر من القاعدة اذ هذا الاتهام ظل يتكرر منذ وقوع عمليتى التفجير فى 1998 ، ومن ثم فإن السؤال الجوهرى حول التدخل العسكرى الامريكى لم يعد من داخل ما تقوله الولاياتالمتحدة تبريرا لدخولها الحرب -خاصة وان القصف تجدد مرة اخرى فى اليوم التالى -بل هو اصبح يدور حول فشل القوات الاثيوبية وحدها فى المواجهة مع المحاكم الاسلامية، بل حول المازق الاستراتيجى الذى وصلت اليه الاوضاع بشكل متسارع فى الصومال على صعيد عدم قدرة قوات الاحتلال الاثيوبية على البقاء طويلا فى مواجهة حرب استنزاف لا قبل لها بها، وعلى صعيد عدم قدرة الحكومة الانتقالية التى دخلت مقديشو على ظهر الدبابات الاثيوبية لفرض هيمنتها على الاوضاع الداخلية. ولعل اهم ما كشف عن ارتباط التدخل العسكرى الامريكى فى الصومال، هو التصريحات التى ادلى بها كل من الرئيس الصومالى ونائب رئيس الوزراء، وحيث اعلن اولهم عن حق الولاياتالمتحدة فى قصف مواطنين على ارض بلاده، كما طالب الآخر بنزول القوات الامريكية على الارض فى الصومال. لقد جاء التصريحان ليؤكدا حقيقة المأزق الاستراتيجى الراهن بكافة ابعاده وفى ملخصه ان عملية الغزو قد فشلت وان جميع الاطراف المشاركة فيها قد وصلت الى مازق. وهنا فإن السؤال المباشر بات يدور حول احتمالات التدخل العسكرى الامريكى بشكل دائم وعلى الارض فى المعركة فى الصومال -استجابة لنداء نائب رئيس الوزراء ولخروج اثيوبيا من المازق الراهن -وعمَّا اذا كانت الولاياتالمتحدة ستكتفى بالقصف من بعد لقوات المحاكم، مع الاسراع بعملية بناء الجيش الصومالى الموالى للاحتلال الاثيوبى بامداده بالاسلحة وبتوفير الدعم المالى للحكومة الانتقالية لتحويل الحرب فى الصومال الى حرب داخلية؟.
وفى كلتا الحالتين،فإن المشكلة التى تعانى منها الولاياتالمتحدة، هو ان استراتيجيتها فى تلك المنطقة من العالم لا يمكن لها ان تكون خطة ثابتة الملامح بسبب ان المنطقة تعانى من حالة عميقة من الاضطراب والتشرذم والتشظى العرقى والقبلى والسياسى كما هى منطقة تنافس دولى واقليمى شديد، بما يجعل من كل اجراء تتخذه الولاياتالمتحدة عبارة عن سير فى حقل الغام بلا خريطة. الموقف الكينى باوضاعه الداخلية الضاغطة من الغزو الاثيوبى وكذا الموقف الاريترى الناشط على الصعيد الاقليمى فى مواجهة هذا الغزو -ولارتباط الغزو بمشكلة الصراع الحدودى مع اثيوبيا -وكذا التداخل بين مشكلة الصومال ومشكلات دارفور والتعقد فى العلاقات اليمنية الاريترية.. الخ، كلها عوامل تعقد الموقف والتحرك الامريكى. وكذا الامر فى وضع الدولى، اذ التدخل الامريكى فى الصومال هو امر يتعلق بمواقف ومصالح اطراف دولية عديدة، كان رد الفعل الاوروبى ومن قبل الاممالمتحدة الرافض للقصف الامريكى لقوات المحاكم هو احد مؤشرات ان التدخل الامريكى ايا كانت طبيعته هو دخول فى حقل الغام.
ومن ثم وفى ضوء تعقيدات الموقف فالاغلب ان الولاياتالمتحدة، اذ دخلت بالقصف الجوى لتخفيف طبيعة المازق الاثيوبى ولمنع تحوله الى موقف انسحابى من الصومال بما يهدد كل الاستراتيجية الامريكية فى القرن الافريقى بل ربما فى منطقة وسط افرقيا، لكنها لا تضع فى اعتبارها حتى الآن، ان تصل مساهمتها فى حد الدخول بقوات برية لحماية الحكومة الحالية -ربما تلجأ الى انماط من نشاط القوات الخاصة-وهذا ما يفهم من الاصرار الذى تبديه المسؤولة الامريكية عن الملف الصومالى التى تركز فى كل تصريحاتها على ضرورة اشراك مختلف القوى فى العملية السياسية الجارية بما يكشف ان الخطة الامريكية تقوم على تشكيل تحالف اوسع للحكم فى الصومال.
عزل المحاكم وتقوية الجيش وخلاصة القول، إننا امام صورة متعددة الجوانب وبالغة الارتباك، يمكن تلخيص اطرافها وملامحها الجوهرية فى التالى: نحن امام تحالف اثيوبى امريكى يحاول تحويل السيطرة المؤقتة الحالية على الصومال الى حالة دائمة، من خلال تقوية الحكومة الانتقالية وتثبيتها، وفى الطريق الى ذلك يواجه هذا التحالف تعقيدات خطيرة من داخل الصومال ومن دول الاقليم ومن الدول الاوروبية الساعية لمواقع نفوذ لها فى داخل الصومال ايضا، وهى لذلك تركز على اضعاف المحاكم الاسلامية وشق صفوف مؤيديها واكتساب بعضهم الى داخل تلك التشكيلة. كما هى تتحرك بسرعة لإنهاء خطتها التى اعتمدتها منذ البداية والقائمة على جر المحاكم الى معركة مبكرة -قبل ان تثبت اوضاعها فى الصومال-وتغيير الواقع السياسى وتحالفاته انطلاقا من حالة الفراغ التى خلفها الانسحاب السريع للمحاكم.
وفى المقابل، فإن المحاكم تعمل على اطالة الوقت واستثمار عوامل الاضطراب والتفكيك والتناقضات داخل التحالفات الجارية، لمنع الوصول الى حالة من التحالف الشامل بين القوى الداخلية على حسابها، كما هى تسعى بصمودها الى اثارة التناقضات بين الولاياتالمتحدة واوروبا ودول الاقليم، ولذا هى تعطى اشارات ومؤشرات على استمرار وجودها، الذى فى حد ذاته كفيل بإرباك كل المعادلات.