إن استشراف المستقبل لأصحاب البصائر، ما هو إلا حصاد مبكر لنبت الحاضر ،وليس ثمّة تنجيمٌ أو ضربٌ بالغيب . لطالما اعتراني إحساس ما برابط لازم بين الحكمة أو بالأحرى العبقرية وسعة الخيال، وبتوالي الأيام وقع في طريقي عشرات الدراسات التي تؤكد على العلاقة المطردة بينهما، فبزيادة أحدهما تزيد الاخرى، وكان ختامها ما نقله جوناثان بيت في كتاب العبقرية (تاريخ الفكرة) عن يوسف أديسون صاحب مقالات(صور من حياة الإنجليز الاجتماعية في القرن الثامن عشر) قوله:" فشكسبير بين الإنجليز قد فاق بطريقة لا نظير لها كل الآخرين برسمه المتفرد لشخصياته معتمداً على ذلك القدر الهائل الممتاز من الخيال الذي امتلكه" . فهو يعزي عبقرية شكسبير إلى سعة خياله؛ مما جعل الاستنتاج عندي يرتقي لليقين. فانظر إلى سعة الخيال والرؤية المستقبلية عند عمر بن الخطاب فكما ذكرنا سابقاً عن موقفه من الحطيئة الشاعر ، وأنه لم يريد قطع لسانه حتى لا تكون سنة أو تكأة لمن بعده من الحكام في إسكات كل مخالف في رأي . وأيضاً فيما ذكره بن خلدون في كتاب تاريخ بن خلدون:" دخل عمر بن الخطاب بيت المقدس، وجاء كنيسة القيامة، فجلس في صحنها، وحينما حان وقت الصلاة فقال للبطريرك صفرونيوس : أريد الصلاة ،فقال له: صلِّ موضعك، فامتنع وصلى على درجة الباب منفرداً، فلما قضى صلاته قال للبطريرك: لو صليت داخل الكنيسة أخذها المسلمون من بعدي وقالوا هنا صلي عمر" فامتناعه عن الصلاة فيها لكي لا يأتي أحد بعده، فيفسد عليهم عبادتهم أو يستولي عليها بحجة ما تمثله تلك البقعة من مكانة روحية عند المسلمين ل صلاة عمر بها. ولعله يجول بالخاطر سؤال: هل كان تحرز عمر (رضي الله عنه) في عدم الصلاة في مكانه أم أنه جانبه الصواب؟ قبل أن نشرع في الاجابة لابد أن نطرح سؤالاً غاية في الأهمية : هل ثمّة كنائس تحولت إلى مساجد ؟! الإجابة , و بكل أسف, نعم. الكثير والكثير منها, فعلى سبيل المثال لا الحصر: كنيسة أيا صوفيا في إسطنبول التي حولها العثمانيون بعد فتح القسطنطينية إلى مسجد أيا صوفيا الذى تحول أخيراً 1935 م إلى متحف وهو من أهم التحف المعمارية في تاريخ البشرية، و كذلك كنيسة نيقولاوس في قبرص الذي تحول إلى (جامع لالا مصطفى باشا) ومازال حتى الآن مسجداً، وأخيراً وليس أخراً كنيسة مريم العذراء في جزيرة سالونيك اليونانية تحولت إلى مسجد التجار. وكي تتضح الصورة وتكتمل الفكرة، وحتى لا يكون ذلك مشابهاً لقولنا " لا تقربوا الصلاة" دون أن نكمل "وأنتم سكارى" ؛ فكما تحولت كنائس إلى مساجد فأيضا تحولت مساجد إلى كنائس: ف مسجد قرطبة الكبير الذي كان واحداً من أفخم وأكبر مساجد مدينة قرطبة، و البالغ عددها ألفاً حينما سقط الحكم الأندلسي تحول المسجد إلى كاتدرائية مريم العذراء، وكذلك مسجد اشبيلية الذي تحول إلى كنيسة "سانتا ماريا" وذلك على غرار مئات المساجد في طول الاندلس وعرضها. وهنا يتبادر للذهن سؤال كيف تتكلم عن استشراف المستقبل عند عمر بن الخطاب ولا تستشهد بحديث "يا سارية الجبل" ، الذي فيه عمر أبصر من زرقاء اليمامة ؟ و يُقصد به أن عمر كان واقفاً على المنبر يخطب في الناس فإذا به يقول: "يا سارية الجبل، يا سارية الجبل ، ومن استرع الذئب ظلم" فتعجب الناس ولم يجدوا تفسيراً إلا بعد شهر حينما جاء البشير بالفتح من نهاوند ناحية فارس وقال: لقد مررنا بالجبل وكدنا أن نُهزم فلما سمعنا صوت عمر عدلنا إلى الجبل وريثما اعتليناه كان النصر حليفنا .. وهذا الخبر لا أميل للأخذ به ، من باب الأمانة العلمية؛ فهذا حديث قيل في طرق سنده: إما واهٍ أو متروك وحتى و إن كان حسنه الألباني وبن حجر عن طريق واحد ، الذي فيه "يحيى بن أيوب الغافقي" الذي قال عنه الحافظ: صدوق ربما أخطأ وكان الإمام أحمد وغيره يجّرحونه كما في التهذيب. وفيه أيضاً "محمد بن عجلان" الذي قال عنه الحافظ :صدوق إلا أنه يُختلط ، وقال العقيلي كما في التهذيب: يضطرب في حديث نافع . فهذا أيضاً طريق لا يصح كما قال كثير من أهل الحديث، بناء على القاعدة " ما تطرق إليه الإحتمال بطل به الاستدلال ". أما من حيث المتن ففيه عدة أمور تثير الإنتباه: إذا كان الحادث يوم جمعة وعمر يخطب على منبر الرسول فلماذا يأتي الحديث من طريق واحد والجلوس كثر، وبه أمر خارق للعادة، فكان ولابد أن تَلُكُه ألسنة الناس صباح مساء، فيبلغ حد التواتر في الوصول إلينا، وهذا لم يحدث. والأعجب أنّي بحثت كثيراً ولم أجد ثمّة علاقة بين شطر الحديث الأول "يا سارية الجبل" وشطره الثاني "ومن استرع الذئب ظلم" فهذا مثل يضرب لمن يولي غير الأمين فما علاقته بسارية أو المعركة؟! هب جدلاً أننا صدقنا بتلك الخارقة أو الكرامة لعمر بن الخطاب فلم نُكذبها أبداً حيال أئمة أهل البيت المذكورة عند الشيعة ؟ وهل عمر أرفع درجةً من النبي(صلى الله عليه وسلم) ؟! الذي كان في أمس الحاجة لتلك المعجزة او الخارقة ؛لتحذير جيشه يوم غزوة مؤتة( 8 ه) حينما مات ثلاثة من قواده، وفناء جيش المسلمين بات وشيكاً، وتفتق الحل ليس عن خارقة أو كرامة بل عن فكرة عبقرية أو مناورة حربية من خالد بن الوليد فانسحب ونجى ومن معه من أتون الهلاك.