فقدت مصر الأسبوع الماضي شيخا كبيرا من شيوخ الفقه والفكر ورجل دولة من الطراز الرفيع إنه د/احمد كمال أبو المجد الذى عاش في الدنيا 89 سنة قضى منها سبعون عاما تقريبا في الحياة العامة كلها تقريبا كانت في جمهوريات يوليو الأربعة (نجيب/جمال /السادات/مبارك)حياة الدكتور أبو المجد الخاصة كانت موفقة وسعيدة وهو ما ساهم كثيرا في ان يشق طريقه الطويل في دروب الحياة آمنا مطمئنا وهو يسعى إلى إقامة صرح الإسلام من ركام الخراب المادى والأخلاقي والنفسي الذى يعانيه المسلمون . كنت أتصور أن الراحل الكبيرعاش بلا أعداء ليس لكونه سياسيا (السياسي له أعداءه أيضا )أو لكونه فقيها كبيرا في القانون والإسلاميات مترفعا عن الخصومات ولا يمنح شرف خصومته لأحد ..بل كنت أتصور ذلك لدماثة خلفه وعفة لسانه ودقة عباراته. لكن للأسف اكتشفت أن له أعداء خاصة عندما اختار الرجل أن يكون جسرا للتصالح السياسي بين الفرقاء والمتخاصمين من أبناء الوطن الواحد. وهو قد حمل هذا العبأ كونه رجل دولة ورجل فكر ويعلم أن الخصومات في تاريخ السياسة من طبائع الأشياء وأنها تشتعل وتخفت وتعاود بين هذا وذاك وأن السياسة كما فيها من صراعات وخصماء فيها أيضا العقلاء والحكماء, لكن هناك أنواع من الناس لا يعرفون هذه الثقافة أولا , ويخدمون على مصالح معينة ثانيا , وطبيعتهم (ملوثة) ثالثا ,, لا يعرفون السياسة ولا الأمانة ولا النظافة لا في أياديهم ولا في ضمائرهم. كان د/ أبو المجد معروفا بميوله الإسلامية وهو ما جعل الدولة فى الستينيات تختاره مع مجموعة من الرواد ليكونوا أعمدة ما عرف وقتها ب(منظمة الشباب) في منتصف الستينيات . كان زمن الثورة قد مضى وجاء بعده زمن الدولة وسيد الدولة. وكان سيد الدولة يؤمن إيمانا عميقا بأنه لا شيء فوق الدولة !؟ ومثل ما فعل ريشيليو وزير لويس الثالث عشر ملك فرنسا الذى أراد أن يذيب المواطنين فى الدولة. كان الزعيم الخالد يرى أن (التنظيمات) ضرورة من ضرورات السلطة والسياسة وتكوين المجتمعات لكنه وكما وصفته السيدة كريمته في أحد الحوارات كان يريد دائما أن تكون (كل الخيوط في يده) لذلك فكان يريد للمجتمع أن يكون ملئ بالكيانات والتنظيمات لكن تحت عينه هو مباشرة , ذلك أن(مسألة الأمن) كانت بالغة الأهمية بالنسبة له ولسلطته ودون الابتعاد عن موضوعنا سيقول الباحثون والمتخصصون في تاريخ الحركات الاجتماعية والسياسية أن تلك اللعبة كان يتقنها كثيرون وكثيرون جدا . لكن الدهشة المدهوشة ستستغرقك حين تعلم أن التيارات الإسلامية كانت مليئة بهذه الألاعيب الخلفية والسفلية. وعموما فكرة إنشاء منظمات للشباب تحديدا فكرة قديمة مصريا وعالميا ويقولون أنه في الثلاثين الذهبية لمصر والمصريين (1919-1949) تقريبا كانت كل الأحزاب والحركات لديها تنظيمات شبابية سرية وعلنية وكانت هذه الفكرة وافدة علينا من أوروبا خاصة ألمانيا وإيطاليا اللتين كانتا مليئة بالمنظمات والتشكيلات الشبابية . بدأت التحضيرات لنشأة المنظمة أواخر عام 1963وعهد بها الى أخطر رجال الزعيم الخالد وعينه وسمعه في كل الاماكن بالغة الحساسية(زكريا محى الدين) ,, يقول د/عبد الغفار شكر في كتابه الهام عن المنظمة(منظمة الشباب الاشتراكى - تجربة مصرية فى إعداد القيادات 1963 – 1976)أن زكريا محى الدين قال له : كلفني جمال عبدالناصر بتأسيس تنظيم للشباب ولم يعطني أى تفاصيل وكان هذا أسلوبه فى العمل يكتفى بطرح المهمة دون التطرق إلى تفاصيل ويضيف: رأيت أن نبدأ بتحديد الفكر الذى سيدرسه الأعضاء لأننا عندما ننشئ تنظيمات للشباب لابد وأن نعطيهم فكرا ولأن ثورة 23 يوليو ليست يمينا أو يسارا رأيت أنه من الأوفق أن أستعين بمفكرين من كل الاتجاهات السياسية ماركسيين وإسلاميين وقوميين وطلبت منهم إعداد البرنامج الفكرى كما تقرر أن نبدأ باختيار مجموعة من الرواد الذين سيقودون المنظمة بعد ذلك وقررنا تنظيم معسكرات لهم فى أماكن منعزلة للتفرغ تماما لهذه الدراسة , وتشكلت سكرتارية مؤقتة وكان لتنوعها الفكرى أثره الإيجابي ضمت شخصيات موضع ثقتنا مثل اللواء أنور بهاء الدين أحد الضباط الأحرار وكان موضع ثقة جمال عبدالناصر شخصيا( قل أيضا أنه كان عين الزعيم الخالد على المنظمة) والعقيد كمال الحديدى مدير التدريب بكلية الشرطة ود/حسين كامل بهاء الدين المدرس بكلية الطب جامعة القاهرة (وزير التربية والتعليم فيما بعد) وضمت ماركسيين مثل د/محمد الخفيف و د/إبراهيم سعد الدين ود/عبدالرازق حسن وليبراليين مثل د/أحمد صادق القشيرى ومن التيار الإسلامي د/أحمد كمال أبو المجد ..أغلب كوادر منظمة الشباب هم الذين تشكلت منهم عظام الدولة المصرية طوال العقود الخمسة الأخيرة ,,عاشوا حياتهم وهم يؤمنون أن طاعة الدولة وتبجيل الرئيس هو خط الحدود الواضح لعالمهم ..لا يتجاوزونه وإلا سيضيعون,, وما بدأ كمحاولة توحيد للأمة انقلب إلى مجرد مغامرة تتميز بالهدم والتأمر . وليتأكد لنا كل يوم أن الفكرة ليست الأساس بقدر كيفية تطبيق الفكرة. وعفوا للاستطراد في هذا الجانب من جوانب حياة الراحل الكبير لأنه من أهم جوانب الحياة السياسية في مصر طوال عهود الجمهوريات الماضية. لكن ما لفت نظرى هو استحضار الإسلاميين في هذا التشكيل السياسى الخطير رغم أن الدولة كانت في خصومه عنيفة مع الإسلاميين الذين كانوا في السجون والمعتقلات وقتها ,, وأن يمثلهم شخص بقامة د/أبو المجد ووقتها كان الرجل أستاذا في حقوق القاهرة وهو ما يؤكد أن الخصومة لم تكن دينية ,, إنما كانت سياسية وحالة(صراع تقليدى)على السلطة انتصر فيه الأقوى والأسرع ,, وهو ما سيجعلنا ننظر الى الحركة الواسعة التى تمتع بها في الخمسينيات و الستينيات أشخاص مثل الشيخ محمد الغزالى والشيخ محمد البهى والشيخ البهى الخولى ود/ عبد العزيز كامل وكلهم كانوا من قدامى وأقطاب التيار الإسلامي السياسي. لكن جاء بعدها من أخذ يلح إلحاحا لحيحا لحوحا ومن يؤكد بالحق والباطل أن هذه الخصومة كانت دينية أولا وثانيا وعاشرا,, وسيتكرر ذلك كثيرا في فترات لاحقة.. وهو محض إدعاء ولن أصفه بغير ذلك . ولنا وقفة ان شاء الله مع هذا الموضوع تحديدا رغم اختلافى التام مع كل أطرافه. كان الراحل الكبير ذو رؤية سياسية عميقة وواضحة فكان يرى أن المشهد الإقليمي والدولي ليس مطمئنا لأن هناك غياب توازن على كل الساحات وإذا غاب التوازن يصعب إقامة العدل على الأرض والتوازن غائب على ساحة المنطقة العربية طالما ظلت إسرائيل قوة نووية ومعها تأييد أميركي غير مشروط ,, حسابات القوة ليست في صالحنا ونحن في موقف ضعف بسبب الهيمنة الأميركية على العالم وبسبب النفوذ الصهيوني على القرار الأميركي وعندما تبدأ دولة مثل إيران نشاطا نووياً سلميا تقوم الدنيا ولا تقعد. وكان يرى أن فكرة(الدولة اليهودية )تعني عملياً إلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين وفي نفس الوقت الحصول على قبول من المجتمع الدولي لأنه يعامل غير اليهودي معاملة أقل من اليهودي وهذا تكريس لظاهرة العنصرية والاستعلاء العرقي واذا استمر التأثير الصهيوني على السياسة الأميركية والأوروبية فيهود العالم سوف يتعرضون لأزمة واضطهاد ومآس كبيرة لأن الحركة الصهيونية أضرت ومازالت تضر يهود العالم والمنطقة .. ويروى لنا الراحل الكبير أنه قال هذا الكلام لبرنارد لويس نفسه وما أدراكم ما برنارد لويس !! كان الراحل الكبير يرى أن إحراز التقدم الاجتماعي على حساب الحرية السياسية أمرغير مقبول إن لم يكن مستحيل .. فيقول لنا أن الناس في مصر تهدر طاقتها كلها ضد بعضها البعض ويغيب الانتماء ,, والانتماء ليس نشيداً نغني فيه مصر مصر مصر..إنما هو علاقة أخذ وعطاء بينك وبين المجتمع ,,والناس معذورة لأنها تطبق ما قاله شاعر عربي : لا أزود الطير عن شجرٍ..قد بلوت المر من ثمره . ويقول مٌعرفا لأفة الأفات في حياتنا المعاصرة (الفساد) :الفساد هو أن يصل(غير صاحب الحق) إلى حق (صاحب الحق) وأن يحرم صاحب الحق ويجلس حسيرا مهزوما وهو يرى حقه يغتصب وغيره يأخذ ما ليس له وينعم به .. وكان يحذر من ظاهرة اسمها(العصيان المدني السلبي) فالمواطن الآن لا يعطي أو ينتج إلا بقدر ضئيل لأنه ليس مستريحا ولا آمنا على نفسه.. المقهور أو المهمش أو الغاضب أو التعيس لا تنتظر منه شيئا, الله قد رفع التكليف عن الخائف والمحتاج وعندما منً الله على قريش قال(أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)لأن الجوع والخوف هما مدخل الذل للإنسان وهما مدخل الاعتزاز إن استغنى وآمن على نفسه. وكان يرى أن المثقفين والنخبة شريحة لا تمثل الشارع في مصر والكثير منهم منفصلون تماماً عن الناس ولا يعلمون شيئاً عن معاناة مئات الآلاف من الأسر التي تسكن العشوائيات أو الأطفال الذين ينامون أسفل الكباري ويقول لنا أيضا: التدين السائد لدى عامة الناس يميل إلى (الهم والغم والنكد) لأنهم يضعون الدنيا في مواجهة مع الآخرة ,,مع أن البشر لا يعرفون طريقاًِ أخر للآخرة لا يمر بالدنيا,, فهل يمكن أن نحرم الدنيا وهي الطريق الوحيد للآخرة؟ الإسلام لا ينتزعك من الحياة ولا يسلب منك الحياة وإنما هو يعطيك الحياة كلها بين يديك وفي عقلك وقلبك لتنهل منها فتسعد وتسعد وترحم وترحم وتحمد الله. رحم الله الفقيه والمفكرالكبير .. وخالص العزاء لأسرته وعائلته وتلاميذه ومحبيه.