يتأكد لدى كل يوم أن إخوتنا الأقباط الذين اختلفوا مع الكنيسة وانخرطوا فى الحياة العامة حتى اصبحت صورتهم الأخيرة كمواطنين تحركهم الدوافع الوطنية الخالصة لم يكونوا كذلك بنسبة 100% ..إذ ظل انتماءهم للكنيسة(كحالة دينية وليس كتنظيم واكليروس)يتقدم أى انتماء أخر..وهذا لا ينفى عنهم أبدا صفة الوطنية الصادقة المعطاءة..ولكن هكذا كانوا وهكذا كانت حياتهم..وأنا وغيرى لا أعيب عليهم ذلك ولكنى حقيقة أعتب عليهم ذلك لماذا؟؟.. لأن طريقهم هذا أفقدنا قدر كبير من جهدهم وعطاءهم فى المجالين الدينى والوطنى.. فقدنا جهدهم داخل الكنيسة وشعب الكنيسة فخلت الساحة تماما لقيادات وزعامات لها اجندتها وحساباتها وطموحاتها وأفكارها, وفقدنا جهدهم داخل الوطن..لأنهم فى واقع الحال لم يستطيعوا إقناع انفسهم ولا إقناعنا ولا إقناع أحد أنهم قادمون من بوابة المجتمع والناس.. بل ظلوا على هذه الحالة التى راحت وجاءت وجاءت وراحت.. مدفوعون بالكثير من الدوافع الخفية والعلنية التى اختلط فيها الذاتى والشخصى بالدينى والاجتماعى على نحو لم يحقق المأمول والمرجو منهم.. كونهم جميعا كانوا من اصحاب القدرات والمواهب والطاقات الكبيرة .. وفعلا : مهما يكن عند إمريء من خليقة **وإن خالها تخفى على الناس تعلم ..كما قال عمنا زهير بن ابى سلمى فى معلقته الشهيرة... وان لم تعلم اليوم ستعرف غد او بعد غد ومن قرأ الحلقات الاربع لأوراق ومذكرات الدكتور ميلاد حنا والتى نشرتها جريدة المصرى اليوم بدأ من الاثنين الماضى 18/6 وحتى الخميس21/6 سيخرج باستنتاجات قريبة مما ذكرتَه فى السطور السابقة ..إن لم يخرج بالاستنتاجات نفسها ..على أن الاوراق تضمنت غير تلك الاستنتاجات أشياء أخرى على قدر كبير من الأهمية التاريخية والسياسية ..والاجتماعية أيضا ,,إذ انك فى كل الاوقات ستجد ما هو اجتماعى حاضر دائما على خلفية المشاهد ومن أمامها ومن فوقها ومن تحتها..هكذا هم الناس وهكذا هى الدنيا . سنرى العلاقة اللدودة الودودة التى تجمع الشاب ميلاد ميخائيل حنا بالشاب نظير جيد روفائيل(البابا الراحل شنودة الثالث فيما بعد) وكيف جمعتهم الطموحات الشخصية والذاتية والعائلية والدينية مبكرا ,, هكذا سنعرف من سيرة حياتهم ..د ميلاد يحكى عن نفسه فى ذلك ويقول أن(مدارس الأحد)جمعتهم واحتضنتهم ورعتهم.. ومدارس الأحد ايها الاصدقاء قسم هام فى الكنيسة القبطية وهو نظام بروتستانتى فى الاساس بدأ فى انجلترا فى القرن ال18 وأخذت به الكنيسة القبطية من عام 1918 (احتفلت بمئويتة الكنيسة القبطية فى مايو الماضى) وقام بتأسيسه القس حبيب جرجس .. وهو يعد مخزن البطارقة والباباوات ..كانت تجربة حسنة النية لكنها لم تكن تبصر الواقع وما يتطور اليه هذا الواقع من مستقبل مقلق. وعلى قدر ما هى مفيدة من الناحية الاخلاقية والعقائدية الا أن تأثيراتها الاجتماعية والوطنية ليس بهذا القدر..والدارس للشأن القبطى سيلحظ أنه كلما تم التركيزعلى قوة حركة مدارس الأحد(تنظيميا وفكريا)كلما ضعف الاندماج وتأثرت الوحدة الوطنية..وهو ما حدث بالفعل وكرد فعل طبيعى بعد ظهورالتيار الاسلامى المنظم فى الثلاثينيات..إذ تحولت مدارس الأحد الى نسخة من التيار الاسلامى المنظم (الأسرة والشعبة والمنطقة..)مع فارق مرعب وهو أن التيار الاسلامى المنظم يتكون ويتحرك فى مجتمع الأغلبية المفتوح (كما بدأت مدارس الاحد فى انجلترا) أما حركة مدارس الأحد فى الكنيسة القبطية فتكونت وتحركت فى مجتمع أقلية مغلقة..الأمر الذى جعلها تتحول الى حالة سياسية منعزلة فكان طبيعيا ان يتنج عنها ما عرف بعدها بجماعة (الأمة القبطية)التى سرعان ما غيرت من برامجها وأهدافها بعد الصدام مع الدولة عام 1953.. الحاصل ان د/ميلاد انضم لمدارس الأحد ودرس فيها الانجيل وتاريخ الأقباط وتقاليد الكنيسة الأرثوذكسية..ويقول د/ميلاد بدهائه المشهوروبعد التحاقى بمدارس الاحد (اكتشفت أننى قد صرت فى جماعة من الشباب تبغى ترقية أحوال الأقباط فى مصر وكان من بين أقرانى فى تلك الحقبة كثير من الشخصيات التى قادت الكنيسة القبطية فيما بعد وفى مقدمتهم البابا شنودة الثالث والذى كان يرى أن أحوال الاقباط لن تتصلح ما لم تصلح أحوال وثقافة رجال الدين )طبعا الدكتورميلاد يتحدث هنا أنه (اكتشف)أنه صار عضوا فى جماعة(الأمة القبطية) المتطرفة ولا يدرى احد كيف(اكتشف)هل أخذ على غرة كما يقولون؟ الصحيح انه انضم لجماعة (الامة القبطية) بمحض اختياره كما فعل(نظير جيد روفائيل)الباب شنودة الثالث وكما فعل(سعد عزيز) الانبا صموئيل فيما _ بعد أقرانه الثلاثة الذين حكى عنهم فى أوراقه المنشورة. ويلفت نظرنا دكتور ميلاد الى أنه هو البابا شنودة كانوا متأثرين بشده بالزعامة والشهرة والوجاهة السياسية و الاجتماعية التى حققها الزعيم القبطى(مكرم عبيد) وتمنوا لو يكونا مثله فى مستقبلهم الواعد خاصة وانهم من اصحاب المواهب والقدرات المميزة ,, فلماذ لا ينالا حظا فى الدنيا ومكانة بما يناسب هذه المواهب وهذه القدرات؟؟؟؟؟(ستروى لنا الحكايات عن جيل السبعينيات قصص مرعبة كان تبدأ وتنتهى بهذا السؤال نفسه) ,,المهم أيها الاصدقاء أن بعد الصدام الشهير بين جماعة الأمة القبطية والدولة افترق الرفاق واتفقا اتفاقا صموتا على ان يلتقوا بعد عشرين عاما..وكل واحد وقدراته ..ولنرى من سيكون قويا فى اللعبة المقبلة.؟ لعبة القوة والنفوذ والزعامة.. وكانت المنطقة العربية قد بدأت ايها الاصدقاء سنوات الظلام الدامس الدميس..سنوات الخيبات الكبرى والأنظمة المنتصرة على شعوبها .. يقول د /ميلاد بفخر شديد فى تميزه على أقرانه فى مدارس الأحد أنه كان أول فرد منهم يلتحق بوظيفة معيد فى كلية الهندسة1945 وأول من سافر فى بعثة تعليمية الى انجلترا 1947 وأول من حصل على الدكتوراه 1950..لاحظ أن السباق والطموح والغيرة هنا لم يكن فى المجتمع الفسيح ,, كانت فى مجتمع مدارس الاحد وكان الأمر ملىء بالأهداف الغامضة والنزاعات المكتومة. نظير جيد روفائيل كان شابا قوى العزيمة على الشىء الذى يرى أنه ينبغى عليه عمله و كانت له نظره أوسع فهو دارس للعلوم الاجتماعية(التاريخ) وتخرج بامتياز ويمتلك من القدرات الشخصية فى السيطرة قدرلا بأس به وتمترست أفكاره على أن أحوال الاقباط لن تصلح الا بصلاح رجال الدين (لذلك علينا كشباب لن نلتحق بالأديرة كرهبان ومع الزمن سيصير واحد منا بطريركا أو أسقفا وعندئذ سنبدأ كأكليروس وشعب عملية الاصلاح..وأراه قد حقق رؤيته كما حقق ذاته..)هكذا قال د ميلاد فى اوراقه نصا وفصا أيها الاصدقاء..(حقق ذاته) وآه والف أه من ذاته وذاتى وذاتك وذاتنا كلنا !!هنا لا يهم كنيسة أوجماعة أو(تنظيم)أو(تيار) أوشعب أو وطن أو مجتمع..أو أى (أو) أخرى أو حتى (نًو) أو (هًو)..وأنا بالمناسبة لا ألمح من بعيد لمسألة الطموح والمجد ناقدا أو ساخرا.. كلنا كذلك أيها الاصدقاء..لكن الموضوع يحتاج منا تجاه انفسنا بشكل مباشرإلى قدر كبير من التزكية والتهذيب والمراجعة..وأيضا تجاه بعضنا البعض يحتاج الى النصيحة والتنبيه والتقييد والمنع أيضا إذا احتاج الأمر..وهو عادة يحتاج .. أما أن تترك الأمورهكذا ونقول كما قال ابو العلاء المعرى:الدهر كالدهر والأيام واحدة والناس كالناس والدنيا لمن غلبا..لا أيها الاصدقاء وألف لا..لو تركت الأمورهكذا بلا ضوابط ولوائح وقيود حاكمة ومانعة ..ستكون الخسارة هائلة وسيكون ثمنها رهيبا ومرعبا وها نحن نحتاج الى عقود حتى يتم تصحيح ما تركة غبطة البابا الراحل فى الكنيسة أو تصحيح ما تركة البعض فى التيار الاسلامى العريض..وسنذكر هنا الأيه الكريمة التى تنصح المؤمنين..ولا حظوا جيدا تنصح المؤمنين وتخاطبهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى? إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ * كَذَ?لِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا *إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)..عرض الحياة الدنيا أيها الأصدقاء..وضع ألف خط وخط تحت(عرض الحياة الدنيا ) والعبرة كما تقول القاعدة(بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)..وعلى فكرة البابا شنودة ود/ميلاد كانت ثقافتهم الاسلامية كبيرة..ناهيك عن أصدقائنا فى التيار الاسلامى العريض..كلنا بشر.. لسنا من طينة أخرى..لكن الكارثة الكبيرة أن نرى أحدهم بقدرات مميزة(مادية أو شخصية أو فكرية)وتتنازعه التنازعات ولا نوقفه عن حدوده التى يجب ان يقف عندها لصالحه ولصالحنا جميعا . ستحكى لنا الأوراق عن مرحلة هامة من مراحل حياة د/ ميلاد وهى مرحلة السلطة والدولة حيث انخرط فى شبكة العلاقات والرجال الأقوياء والتى بدأت بالتنظيم الطليعى مع شعراوى جمعة فى أخر الستينيات وانتهت بدولة ونظام حسنى مبارك فى أخر التسعينيات ..ولكونها مهمة للغاية نتركها لمقال منفصل إن شاء الله الأسبوع القادم.