عاجل- بورصة الدواجن: 89 جنيها سعر كيلو الفراخ اليوم الخميس    عضو الأهلي السابق: طفشت أمونيكي من الزمالك بعرض خارجي كان بيعكنن على الأهلاوية    وزارة الحج والعمرة تطالب ضيوف الرحمن بضرورة حمل بطاقة نسك في كل خطوات رحلة الحج    طيران الاحتلال يقصف مناطق عسكرية ل«حزب الله» (فيديو)    حريق هائل يلتهم مصفاة نفط على طريق أربيل بالعراق    انخفاض أسعار النفط بعد مفاجأة المركزي الأمريكي بشأن الفائدة    موعد مباراة الأهلي المقبلة أمام فاركو في الدوري المصري والقناة الناقلة    طائرات مسيرة تطلق النار على المنازل في حي الشجاعية والزيتون بمدينة غزة    توقعات المركز الوطني للأرصاد السعودي: هذه حالة طقس مكة المكرمة والمشاعر المقدسة اليوم الخميس    ضربات أمريكية بريطانية على مجمع حكومي وإذاعة للحوثيين قرب صنعاء، ووقوع إصابات    قرار عاجل من فيفا في قضية «الشيبي».. مفاجأة لاتحاد الكرة    يورو 2024| أغلى لاعب في كل منتخب ببطولة الأمم الأوروبية    بريطانيا تقدم حزمة مساعدات جديدة لأوكرانيا بقيمة 309 ملايين دولار    انتعاش تجارة الأضاحي في مصر ينعش ركود الأسوق    نشرة «المصري اليوم» الصباحية.. تحذير شديد بشأن حالة الطقس اليوم: جحيم تحت الشمس ودرجة الحرارة «استثنائية».. مفاجأة في حيثيات رفع اسم «أبو تريكة» وآخرين من قوائم الإرهاب (مستندات)    متى موعد عيد الأضحى 2024/1445 وكم عدد أيام الإجازة في الدول العربية؟    حظك اليوم برج الأسد الخميس 13-6-2024 مهنيا وعاطفيا    لأول مرة.. هشام عاشور يكشف سبب انفصاله عن نيللي كريم: «هتفضل حبيبتي»    محمد ياسين يكتب: شرخ الهضبة    حامد عز الدين يكتب: لا عذاب ولا ثواب بلا حساب!    عقوبات صارمة.. ما مصير أصحاب تأشيرات الحج غير النظامية؟    الوكيل: تركيب مصيدة قلب مفاعل الوحدة النووية ال3 و4 بالضبعة في 6 أكتوبر و19 نوفمبر    عيد الأضحى 2024.. هل يجوز التوكيل في ذبح الأضحية؟    تصل ل«9 أيام متتابعة» مدفوعة الأجر.. موعد إجازة عيد الأضحى 2024    مفاجأة مدوية.. دواء لإعادة نمو أسنان الإنسان من جديد    في موسم الامتحانات| 7 وصايا لتغذية طلاب الثانوية العامة    طبق الأسبوع| من مطبخ الشيف أحمد الشناوي.. طريقة عمل اللحم المُبهر بالأرز    محمد عبد الجليل: أتمنى أن يتعاقد الأهلي مع هذا اللاعب    المجازر تفتح أبوابها مجانا للأضاحي.. تحذيرات من الذبح في الشوارع وأمام البيوت    هل يقبل حج محتكرى السلع؟ عالمة أزهرية تفجر مفاجأة    التليفزيون هذا المساء.. الأرصاد تحذر: الخميس والجمعة والسبت ذروة الموجة الحارة    شاهد مهرجان «القاضية» من فيلم «ولاد رزق 3» (فيديو)    حزب الله ينفذ 19 عملية نوعية ضد إسرائيل ومئات الصواريخ تسقط على شمالها    أبرزها المكملات.. 4 أشياء تزيد من احتمالية الإصابة بالسرطان    مؤتمر نصف الكرة الجنوبي يواصل اجتماعته لليوم الثاني    24 صورة من عقد قران الفنانة سلمى أبو ضيف وعريسها    الأعلى للإعلام: تقنين أوضاع المنصات الرقمية والفضائية المشفرة وفقاً للمعايير الدولية    بنك "بريكس" فى مصر    لماذا امتنعت مصر عن شراء القمح الروسي في مناقصتين متتاليتين؟    صدمة قطار.. إصابة شخص أثناء عبور شريط السكة الحديد فى أسوان    .. وشهد شاهد من أهلها «الشيخ الغزالي»    التعليم العالى المصرى.. بين الإتاحة والازدواجية (2)    حازم عمر ل«الشاهد»: 25 يناير كانت متوقعة وكنت أميل إلى التسليم الهادئ للسلطة    محمد الباز ل«كل الزوايا»: هناك خلل في متابعة بالتغيير الحكومي بالذهنية العامة وليس الإعلام فقط    هاني سري الدين: تنسيقية شباب الأحزاب عمل مؤسسي جامع وتتميز بالتنوع    سعر السبيكة الذهب الآن وعيار 21 اليوم الخميس 13 يونيو 2024    مدحت صالح يمتع حضور حفل صوت السينما بمجموعة من أغانى الأفلام الكلاسيكية    أستاذ تراث: "العيد فى مصر حاجة تانية وتراثنا ظاهر فى عاداتنا وتقاليدنا"    الأهلي يكشف حقيقة مكافآت كأس العالم للأندية 2025    الداخلية تكشف حقيقة تعدي جزار على شخص في الهرم وإصابته    اليوم.. النطق بالحكم على 16 متهمًا لاتهامهم بتهريب المهاجرين إلى أمريكا    انتشال جثمان طفل غرق في ترعة بالمنيا    مهيب عبد الهادي: أزمة إيقاف رمضان صبحي «هتعدي على خير» واللاعب جدد عقده    «الأهلي» يزف نبأ سارًا قبل مباراة الزمالك المقبلة في الدوري المصري    بعد ارتفاعه في 9 بنوك.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 13 يونيو 2024    «رئيس الأركان» يشهد المرحلة الرئيسية ل«مشروع مراكز القيادة»    فلسطين تعرب عن تعازيها ومواساتها لدولة الكويت الشقيقة في ضحايا حريق المنقف    قبل عيد الأضحى.. طريقة تحضير وجبة اقتصادية ولذيذة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ولد يتيماً وعاش أباً للملايين ... البابا شنودة من المهد إلى اللحد
نشر في أكتوبر يوم 25 - 03 - 2012

«ولد يتيماً وعاش أباً للملايين» لعل هذا هو أبلغ وصف لمثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الذى تنيح الأسبوع الماضى وشيعته مصر كلها بمسلميها ومسيحييها بالدموع الغزيرة فى جنازة وصفت بأنها جنازة القرن وأعادت إلى الأذهان جنازة الزعيم جمال عبد الناصر .... ورقة صغيرة سحبها الشماس أيمن منير الذى كان عمره وقتئذ لا يتجاوز 7 سنوات وهو معصوب العينين من صندوق صغير به 3 ورقات، كانت معها الكنيسة القبطية على موعد مع واحد من أعظم بطاركها على مر العصور أطلق عليه كثير من تلاميذه ومعجبيه «قديس العصر»، خليفة مارمرقس البابا شنودة ولكن هذه لم تكن بداية الرحلة لصاحب سيرتنا، كانت البداية فى 3 غسطس من عام 1923 عندما رزق المقدس جيد روفائيل و زوجته السيدة بلسم جاد بأصغر أبنائهما الذى أطلق عليه الاب اسم نظير، ولم تمض 3 أيام على ولادته حتى تعرضت الأسرة لصدمة رهيبة بوفاة الأم متأثرة بحمى النفاس، ويذكر المقربون من البابا أن الأسرة كلها انشغلت عنه وعندما انتهت مراسم العزاء أخذوا يبحثون عن الطفل فوجدوه عند الجيران حيث قامت سيدات القرية بإرضاعه، ولذلك فقد أصبح أخاً بالرضاعة لكثير من أطفال القرية مسيحيين ومسلمين وهو ما بذر بذور الوحدة الوطنية فى نفسه منذ صغره.
ويصف البابا مدى آلامه لوفاة والدته ونشأته يتيماً بأنه ألف فى إحدى المرات فى بداية شبابه قصيدة بعنوان «أمى» كان مطلعها يقول «احقاً كان لى ام فماتت.. أم أنى خلقت بغير أم».
ويحكى البابا شنودة نفسه فى أحد البرامج التليفزيونية عن طفولته فيقول: كنت طفلاً وحيداً ماتت والدته دون أن يرضع منها، وعاش فترة طفولته المبكرة بلا صداقه ولا لهو مثل أقرانه الأطفال، ولكن يبدو أن هذه الوحدة قد عادت عليه بفوائد كثيرة منها حبه للقراءة والتأمل والتفكير من سن صغيره جداً ويذكر البابا فى أحاديثه أنه وهو فى السنة التحضيرية التى كانت تسبق المدرسة الابتدائية فى ذلك الوقت – الحضانة فى أيامنا هذه – والتى قضاها فى أسيوط أنه كان يمشى من منزله إلى المدرسة وكانت تبعد كثيراً عن المنزل بأنه كان طوال هذا الطريق الكبير يمشى مفكراً ثم يضيف بسخريته المعهودة «لعلى كنت أفكر متى ينتهى هذا الطريق الطويل وأصل للمدرسة».
سافر البابا بعد ذلك بصحبة شقيقه الأكبر روفائيل الذى كان يعمل موظفاً فى دمنهور حيث التحق بالمدرسه الابتدائية هناك ويتذكر البابا أنه فى عامه الأول فى المدرسة كان يستطيع قراءة الجرائد ساعد فى ذلك اتصاله بأشخاص أكبر منه سناً سواء أخوه أو أصدقاؤه فكان عقل الطفل نظير أكبر من سنه بكثير وسارت الأحوال على نفس منوالها حتى نهاية السنة الثالثة ليعود بعدها نظير إلى أسيوط لاستكمال السنة الرابعة والنهائية من الابتدائية فى أسيوط حيث تعمقت علاقته بشقيقه الآخر شوقى الذى كان وقتها فى الكفاءة.
ويقول البابا إنه خلال هذه الفترة فى الثلاثينيات من القرن الماضى انشغل وشقيقه شوقى بالكنيسة والدراسات الكنسية خاصة مع التحاق الأخير بالكلية الاكليريكية ووجود مكتبة دينية ضخمة فى المنزل لأن والدهما كان مدمن قراءة، واهتما بالأكثر بقداسات الأنبا مكاريوس أسقف أسيوط وقتها (البابا مكاريوس الثالث بعد ذلك) وكذلك عظات الارشيدياكون اسكندر حنا أشهر واعظ فى زمانه كما يصفه البابا.
وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية اضطر البابا للتوقف سنتين كاملتين دون دراسة لأنه عندما تقدم بأوراقه للمدرسة الأميرية فى دمنهور التى عاد إليها بصحبه شقيقه روفائيل طلبت الإدارة شهادة ميلاده واكتشف البابا أنه فى زحمة أحداث وفاة والدته لم تقم الأسرة بقيد المولود وكان لابد من رفع قضية والقيام بإجراءات تسنين، وبروحه المرحة يذكر البابا أنه داعب الطبيب الذى يقوم بعملية التسنين قائلاً: اوعى تغلط يا دكتور فيمكن أن يولد الانسان بعد وفاة والده ولكن المستحيل أن يولد بعد وفاة والدته وقدم له شهادة وفاة والدته وأكد له أنه ولد فى 3 أغسطس وهو ما أخذ به الطبيب فعلاً.
ولكن فترة انقطاعه عن الدراسة زادت من إقدامه على مزيد من القراءة والمعرفة فكان يقرأ كل ما يقع تحت يديه من كتب من مختلف العلوم والآداب مما جعله عند بداية دراسته الثانوية متفوقاً على أقرانه فكان دائماً الأول ومع نهاية دراسته الثانوية اتجه للقسم العلمى خاصة أنه كان متفوقاً فى الرياضيات والعلوم، إلا أنه وفى منتصف العام تركه وحول للقسم الأدبى ويقول البابا عن هذا إنه وجد أن الدراسة العلمية لا تخدم توجهاته فى الحياة.
انتهت المرحلة الثانوية والتحق بكلية الآداب قسم تاريخ وظل التفوق مع الشاب نظير جيد فكان الأول على الدفعة فى السنة الأولى ولتفوقه تمتع بالمجانية لأن الدراسة الجامعية فى ذلك الوقت كانت بالمصروفات.
كانت سنة 1939 تحولا مهما فى حياة الشاب نظير حيث بدأ التدريس فى مدارس الأحد فى كنيسة السيدة العذراء بمهمشة ومن هنا كانت بداية الرحلة مع التعليم الدينى والتى انتهت بأن أطلق عليه محبوه بعد ذلك بسنوات لقب «معلم الأجيال».
الشاب الثائر
ويقول المفكر كمال زاخر منسق التيار العلمانى فى الكنيسة أن البداية كانت بانبهار نظير جيد بالمجاهد الكبير مكرم عبيد بحسب ما كان يطلق عليه فى هذا التوقيت، وأخذ منه القدرة على الخطابة والتأثير فى الجماهير الأمر الذى انعكس عليه فيما بعد، ثم انطلق من المربع السياسى فى سنة 47 عندما قرر الملك فاروق الحاق طلبه الجامعات فى آخر سنتين من الجامعة بالكلية الحربية لينالوا قسطاً من التدريب فى أجواء الاستعداد لحرب فلسطين، وعوملوا وقتها معاملة الضباط ومنحوا رتبه الملازم، فى هذا التوقيت التقى نظير بأحد خدام مدارس الأحد الذى كان يخدم فى كنيسة الأنبا انطونيوس بشبرا فجذبه إلى تلك الكنيسة وهناك تعرف على رفقائه الذين كانوا النواة الأولى للمجموعة التى ترهبنت فيما بعد، وكانوا الرعيل الأول للرهبان حملة الشهادات العليا الذين اقتضوا بالأب متى المسكين الذى كان سبقهم إلى الرهبنة عام 48، وهناك تعرف على الاستاذ حبيب جرجس مؤسس مدارس الأحد وكانت هذه هى بدايه انطلاقته الكنسية واختير ضمن الشباب ليشكلوا اللجنة العليا لمدارس الأحد والتى أصدرت مجلة مدارس الأحد والتى ترأس تحريرها سنة 53 بعد أن كان مديراً لتحريرها منذ صدورها ومن خلال مدارس الأحد خاض معارك عديدة فى مواجهة ما كان يراه انحرافاً عن الخط الآبائى الكنسى وكان له تأثير كبير فى تشكيل رؤية الشباب والخدام الأمر الذى دفع الكنيسة إلى مراجعة الكثير من السلبيات التى تفجرت على صفحات مجلة مدارس الأحد وكانت أهم هذه المعارك المطالبة باصلاح الهيكل الإدارى للكنيسة وضبط الإدارة المالية والاهتمام بالتعليم وإعادة الاعتبار للحياة الرهبانية والأديرة ووضع القواعد المنظمة لكل هذا.
ويضيف زاخر أن الشاب نظير وقف على رأس الشباب فى دعم قضايا التنوير والالتزام بقوانين الكنيسة خاصة فيما يتعلق باختيار الأساقفة والمطارنة وكانت معركته الكبرى وضع لائحة جديدة لاختيار البابا البطريرك وهو ما ألقى بظلاله فيما بعد على المعارك التى دارت فى الكنيسة بعد نياحة الأنبا يوساب الثانى وكان من نتائجها قدوم البابا كيرلس السادس والذى كان قد تعرف عليه نظير فى فترة من فترات رهبنته وكان بمثابة المرشد الروحى له.
وبعد تولى البابا كيرلس مهام البابوية استدعى بعض من هؤلاء الشباب الرهبان وكان منهم الأب انطونيوس السريانى وضمهم إلى سكرتاريته عام 62، وكان لهم دور مهم فى تفعيل دور السكرتارية البابوية الأمر الذى شجع البابا كيرلس لأن يختار اثنين منهم هما الأب انطونيوس السريانى والأب مكارى السريانى لرسامتهم اسقفين عامين وهى المرة الأولى فى تاريخ الكنيسة التى يستحدث فيها منصب الأسقف العام كان الأول الأنبا شنودة أسقف التعليم والثانى الأسقف صموئيل أسقف الخدمات العامة وتمت الرسامة فى يوم واحد سنة 1964.
وعقب تولى الأنبا شنودة هذه المهمة اهتم بتطوير الكلية الاكليريكية والمعاهد الدينية وأنشأ القسم المسائى ليلتحق به خريجو الجامعات الأمر الذى أحدث نقلة نوعية فى القساوسة ورجال الاكليروس الذين اختيروا من خريجى هذا القسم وانعكس هذا على تطوير التعليم الكنسى وجذب الشباب إلى الكنيسة.
واستحدث الأنبا شنودة أسقف التعليم وقتها ولأول مره اجتماع عام لا يرتبط بإيبراشية أو كنيسة بعينها بل هو مفتوح لكل الناس من كافة الأماكن، وكان يتمتع بشعبية كاسحة نظراً لأن أسقف التعليم وقتها كسر الطرق التقليدية العتيقة التى كانت تعتمد على البلاغة واللغة العربية فى شكلها التقليدى فكانت عظاته يمكن أن نسميها السهل الممتنع ثم فى تطور لاحق انتقل الاجتماع من يوم الجمعة إلى يوم الأربعاء حتى رحيله.
ويذكر للبابا شنودة فى شبابه وتحديداً فى المرحلة ما بين 1947 التى شهدت صدور مجلة مدارس الأحد وبين أغسطس 1954 والذى شهد دخوله سلك الرهبنة أنه كان أحد رموز الشباب الساعين إلى أحداث تغيير ايجابى فى الشأن الكنسى تأسيساً على القوانين الكنسية المستقرة من القرون الأولى والتى قننتها المجامع المسكونية وقوانين الآباء وهو بهذا يحسب باعتباره العلمانى الأول الذى دشن مطالب الإصلاح الكنسى.
الكرسى المرقسى
وكان لابد للجيل الجديد من الرهبان المتعلمين أن يتولى زمام الأمور فى الكنيسة وهو ما تم فعلاً بعد نياحة مثلث الرحمات البابا كيرلس السادس، ولتجئ القرعة الهيكلية بالأنبا شنودة ليجلس على الكرسى المرقسى، وتمت الرسامة فى 14 نوفمبر 1971 ليبدأ عصر جديد فى الكنيسة القبطية تنفتح فيه على العالم شرقاً وغرباً، ولتعود وتتبوأ مكانها الطبيعى كأحد أعرق الكنائس فى العالم.
ويقول القمص صليب متى ساويرس إن حبرية البابا شنودة التى دامت أكثر من أربعين سنة كانت من أزهى عصور الكنيسة القبطيه حيث اتسعت رقعة الكرازة المرقسية من 23 ايبراشية عند تولى البابا شنودة الكرسى الباباوى إلى حوالى 62 ايبراشية فى كل أنحاء العالم فى وقتنا الحالى وهناك حوالى 130 أسقف بما فيهم الأساقفة العموم وهو المنصب الذى توسع فيه البابا شنودة لتلبيه احتياجات الكنيسة، كما رسم بطريرك لأريتريا، وأصبح للكنيسة حوالى 355 كنيسة فى الخارج تخدم المصريين هناك والذى كان البابا حريصاً على ربطهم بمصر وبلغ حرصه فى ذلك بإصدار تعليماته بتعليم الأجيال الجديدة من المصريين بالخارج اللغة العربية بجانب اللغة القبطية ولغة الدولة حتى يزيد انتماؤهم لمصر، ولدينا الآن 6 كليات اكليريكية حول العالم، بالإضافة إلى العديد من الأديرة القبطية فى أوروبا وأمريكا وأستراليا.
ويضيف القمص صليب أن البابا كان صمام الأمان فى الوحدة الوطنية بعلاقته الوطيدة مع فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الحالى، وكذلك صداقته الوطيدة أيضاً بفضيلة الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الازهر الراحل فقد كانت علاقة الرجلين تشبه احتضان الهلال والصليب، ولا ينسى الجميع الموقف الوطنى الشجاع للبابا شنوده برفضه الذهاب للقدس إلا ويده بيد شيخ الأزهر بعد جلاء الاحتلال الإسرائيلى وهو الموقف الذى جعل البعض يطلق عليه لقب «بابا العرب» وقد كان أول بابا يدخل المسجد الأموى فى دمشق ليلقى خطاب حضره أكثر من 10 آلاف شخص.
كما لا ينسى الجميع مقولته الشهيرة «أن مصر وطن يعيش فينا وليس وطناً نعيش فيه» لقد عاش يعلم أولاده حب الوطن والانتماء ولم يقتصر دوره فقط حول التعاليم الدينية، فهو معلم الأجيال الذى قاد ثورة الاصلاح والتعليم فى الكنيسة وهو صمام الأمان للوحدة العربية وهو راهب الصحراء فالرجل تجمعت فيه كثير من الصفات قلما تجدها فى رجل واحد.
ويضيف صليب أن البابا شنودة هو الذى أعاد للكنيسة ديمقراطيتها بإحياء المجلس الملى العام مرة أخرى بعد أن كان معطلاً فى السابق، وهو الذى أعاد للمرأة القبطية مكانتها فدخلت المرأة المجالس الكنسية والمجلس الملى ولجنة البر التى كان يحرص عليها كل يوم خميس فقد كان عطوفاً على الفقراء والمساكين لا يدخر وسعاً فى تقديم المعونات السخية لذوى الحاجة.
الصدام مع السادات
أما عن الصدام الشهير بين البابا شنودة والرئيس الراحل أنور السادات فيقول زاخر كان البابا شنودة يقود الشعب للدفاع عن حقوقه فى مواجهة الهجمات الإجرامية التى كانت تشنها عليهم التيارات المتطرفة، ولا تواجه بما تستحقه من الدولة والنظام، وعلى جانب آخر كان البابا شنودة يقف فى معسكر عدم التطبيع مع العدو الصهيونى ويذكر له أنه اتخذ قراراً لم يتراجع عنه بمنع زيارة الأقباط للقدس حتى تتحرر وتعود للسيادة الفلسطينية تجمعت كل هذه الأمور لتصنع حاجزاً بينه وبين الرئيس السادات الذى اعتبر أن ما يقوم به البابا هو عمل سياسى يأتى ضد رغبة الرئيس وتصاعدت المواجهة حتى وصلت إلى ذورتها فى 5 سبتمبر 81 حين أعلن السادات قراره بعزل البابا والتحفظ عليه فى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون وجاء ذلك ضمن حزمه من القرارات العنيفة التى طالت كل القوى السياسيه فى مصر والتى شملت اعتقال العديد من الرموز السياسية والدينية من كافة الأطياف وحقيقه الأمر أن قرار التحفظ كان فى الواقع قرار اعتقال حيث تحولت المنطقة المحيطة بالدير إلى ثكنة عسكرية ومنعت زيارة أى شخص للبابا.
وانتهت هذه المرحله باغتيال السادات فى حادث المنصة الشهير فى أكتوبر 81 لتبدأ صفحة جديدة مع الرئيس الجديد حينذاك حسنى مبارك والذى استهل عصره بالإفراج عن السياسيين المعتقلين واستقبالهم فى قصر العروبة، بينما بقى البابا رهن الاعتقال لأكثر من 3 سنوات ونصف حين صدر قرار الرئيس السابق بالإفراج عنه وعودته إلى موقعه الكنسى فى 7 يناير 1985 وألقى هذا بظلاله على العلاقة بينهما لتصبح متأرجحة بين القبول والفتور، ولكن الأعمال الإجرامية ضد الأقباط لم تتوقف ووصلت إلى إحدى قممها فى حادث تفجير كنيسة القديسيين بالإسكندريه فى يناير 2011، والتى كانت واحدة من الأسباب الرئيسية لانفجار الشارع فى 25 يناير.
وأكد زاخر أنه يمكن تلخيص عصر البابا شنودة فى النقاط التالية: أولاً أنه جاء فى ظروف مرتبكة ورحل فى ظروف أكثر ارتباكاً، ثانياً أنه كانت له بصمات كنسية واضحة بإعادة هيكلة منظومات التعليم والرهبنة والعمل الاجتماعى، ثالثاً أنه أسس لخدمة كنائس المهجر وحرص على إقامة قنوات عديده مع أقباط المهجر خاصة مع الأجيال الجديدة وأسس لهم العديد من الكنائس والأديرة وأقام لهم أساقفة لرعايتهم، رابعاً أنه أدار ملف العلاقة مع الدولة بكثير من الحنكة والحكمة وكان صمام الأمان فى كثير من الأحوال بعدم تفجر الشارع المصرى عند حدوث حالات الاحتقان الطائفى، خامساً أنه توسع فى نظام الأساقفة العموميين لتغطية الاحتياجات المتزايدة من الخدمات المختلفة الروحية وخاصه فى قطاع الشباب.
البابا والصحافة
كان بدايه علاقة نظير جيد بالصحافة عام 1947 عند صدور العدد الأول لمجلة «مدارس الأحد» التى عمل مديراً ثم رئيساً لتحريرها حتى عام 1954 عندما ترهبن، كتب خلالها فى المجلة أكثر من 150 مقالاً بالإضافة إلى 25 قصيدة شعرية كانت كلها تعبر عما يجيش فى صدره من سعى لإصلاح الكنيسة والاهتمام بالمشاكل الروحية للشباب وواجبات الخادم فى مدارس الأحد واكتسبت مقالاته بعنوان «انطلاق الروح» شهرة واسعة مما شجعه على جمعها فى أول كتاب لقداسته.
وعاد الأنبا شنودة أسقف التعليم وقتئذ إلى محبوبته الصحافة مرة أخرى عام 1965عندما أصدر باعتباره مسئولا الاكليريكية «مجلة الكرازة» وترأس تحريرها كان من الطبيعى بعد كل هذه السنوات مع الصحافة أن يحصل البابا شنودة على عضوية نقابه الصحفيين وبالفعل قيد بالنقابة فى عام 1966، باعتباره رئيساً لتحرير مجلتى مدارس الأحد والكرازة ويذكر أنه دعى فى نفس التوقيت لندوة فى النقابة حضرها حوالى 7 آلاف شخص من كبار رجال الفكر والقلم المعروفين فى ذلك الوقت ولعله أول صحفى تحتفل النقابة بقيده بندوة بهذا الحجم.
المجلس الملى
منذ نشاة المجلس الملى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر وبالتحديد فى فبراير من عام 1874 كانت العلاقة بين المجلس – الذى كان ينظر إليه على أنه كان الممثل لأعيان الكنيسة واراخنتها – وبين الجالس على عرش مارمرقس – ممثل الاكليروس – علاقة متوترة حتى أن البابا كيرلس الخامس وهو البابا الذى أنشئ المجلس فى عهده قد فضل فى إحدى المرات أن يعود إلى الدير على أن ينصاع لرغبات المجلس الملى، وهو نفس ما حدث مع البابا مكاريوس الثالث فى أربعينيات القرن العشرين والذى قضى فترة كبيرة من حبريته – والتى اقتصرت على حوالى عام ونصف فقط – معتكفاً فى حلوان بسبب الخلاف بين المجلس الملى والمجمع المقدس فماذا كانت العلاقة بين المجلس الملى والبابا شنودة؟
يجيب عن هذا السؤال المستشار ادوارد غالب سكرتير المجلس الملى والذى يقول إنه حينما تولى قداسة البابا شنودة الثالث سدة البطريركية لم يكن المجلس الملى قائماً، لأنه فى أواخر عصر البابا كيرلس السادس حدث خلافاً بين المجلس الملى وقداسة البابا وبالتالى لم تتجدد دورة المجلس الملى، وعند توليه سئل قداسة البابا شنودة من كبار المسئولين وقتذاك عما إذا كان يرغب فى إعادة المجلس الملى فكانت إجابه البابا أنه يهمه أن يكون هناك وجود للمجلس الملى باعتباره ممثل لأراخنة الكنيسة وكانت هذه لمحة جميلة من قداسة البابا أن يكون بجانبه بعض الاراخنة المشهود لهم من شعب الكنيسة.
ويضيف غالب وهكذا بدأ المجلس الملى يستعيد دوره كاستشارى – من وجهة نظرى – للبابا البطريرك وخاصة فى الأمور الإدارية والمالية، وسوف اتحدث فى السطور التالية عن الفترة من دورة المجلس الملى التى بدأت فى فبراير 1996 ولثلاث دورات متتالية، وأقول هنا أننا كنا نجتمع مرة كل شهر إلا فى حالات الضرورة وكان متاحاً لكل أعضاء المجلس إبداء الرأى فى كل الموضوعات المعروضة فكان الحوار ديمقراطياً وكان قداسة البابا يستمع إلى رأى كل واحد ولا أذكر أننا أخذنا قراراً بالأغلبية ولكن كل القرارات كانت تؤخذ بالإجماع.
ويستكمل غالب حديثه قائلاً إن قداسة البابا كان يجيب عن كل استفسارات أعضاء المجلس حتى تلك المتعلقة برجال الاكليروس رغم أن هذا ليس من بين اختصاصات المجلس الملى، كما كانت فكرة رسامة أعضاء المجلس شمامسة هى من قبيل إضفاء الطابع الروحى على عمل المجلس الملى العام إلى جانب الطابع الادارى فيما يتعلق بأمور الديوان الباباوى مالياً وإدارياً، كما كان قداسة البابا حريصاً على أخذ رأى المجلس الملى فى الأمور التى كانت تمس الوحدة الوطنية أو القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية.
ولا أبالغ – والكلام مازال على لسان المستشار غالب – إذا قلت إن يوم الاجتماع الشهرى كان يوماً مفرحاً فى حياة الأعضاء الذين كانوا يحرصون دائماً على الحضور إلا فى حالات الأعذار القهرية، لأن الاجتماع كان متنوعاً ما بين موضوعات جدول الأعمال وما بين حكايات من قداسة البابا عن ذكرياته ولقاءاته والطرائف التى كان يحكيها، كذلك كان قداسته حريصا على أن يكون أعضاء المجلس ممثلين فى كل المناسبات الكنسية والوطنية ولم نشعر يوماً أن قداسته يحجب عنا أى معلومة طالما كانت تهم الكنيسة أو الشعب القبطى، وكنا نذهب إليه على فترات متباعدة إلى الدير ومعنا عائلتنا مما كان يزيد من الارتباط بيننا وعائلتنا بشخصية قداسة البابا، كما كانت بين قداسته وأعضاء المجلس لقاءات منفردة يستمع فيها إلى ما قد يكون لدى العضو من مشاكل سواء على مستوى الكنائس التى يخدم فيها أو على مستوى أمور الكنيسة عامة، وبالطبع فضيافة البابا لنا أثناء الاجتماعات كانت لا تحتاج إلى تعليق.
ويحكى غالب بعض الذكريات عن قداسة البابا الراحل فيقول إن العطاء عند البابا شنودة وخصوصا فى لجنة البر كان بلا حدود وكان هذا ينعكس على كل قراراته فمثلا إذا كانت هناك عروسة من أسرة فقيرة، وطلب من الكنيسة تجهيزها كان يعطى بسخاء عجيب جداً لدرجة أنه لم يكن فقط يهتم بالعروسة ولكن بعائلتها كلها من الأب والأم والأشقاء والشقيقات وكان دائماً يقول الله هو الذى يعطى لدرجة الشبع فلا نجعلهم يذهبون لأماكن عديدة لتكمله احتياجاتهم.
ويضيف غالب كان البابا يمتص حماس البعض عند حدوث المشاكل حتى لا تنفجر، وحتى لا يساء التصرف وكان يتصدى هو بعد ذلك لحل هذه المشاكل وذلك بشكل موضوعى جداً، وحينما كان يثار أمراً من أمور العقيدة كان يقول كما هو معروف عنه نحن لا نحارب أشخاص ولكن نحارب أفكار التى قد تكون مخالفة.
روح المرح
يعتقد البعض أن رجل الدين يجب أن يكون متجهماً وصارماً ولا يضحك أبداً حتى الابتسامة يجب أن تكون بحساب، ولكن هذه القاعدة اختفت مع البابا شنودة فلم يمنعه وجوده على رأس واحدة من أعرق وأقدم الكنائس فى العالم من أن يتمتع بروح مرحة وحس فكاهى قلما يتمتع به معظم رجال الدين فى الشرق والغرب على السواء، بل إنه كان لا يخجل فى كثير من العظات والاجتماعات الشعبية التى يعقدها من إلقاء نكات تنتزع ابتسامات وضحكات الحاضرين.
والبابا نفسه كان يعترف بحبه للنكت والردود الطريفة، وكان يؤكد أن البعض اعتقد أنه بعد أن اعتلى كرسى مارمرقس وأصبح بطريكاً سوف تختفى روحه المرحة أو حبه لإلقاء النكات، خاصة مع وقار وهيبة الموقع الدينى الذى يحتله ولكن هذا لم يحدث أبداً، ويضيف البابا أنه لم يستطيع أن يمنع نفسه من إلقاء النكات حتى ذاع صيته بأنه «صاحب نكتة» وكان دائماً يؤكد أن الشىء المشترك الوحيد بين نظير جيد والراهب انطونيوس السريانى والبابا شنودة هى روح المرح، ووصل الأمر بتأليف أحدهما كتاب عن نكات البابا شنودة، فى حين سجل آخر شريط كاسيت عن ردود البابا الطريفة على الأسئلة التى تلقى عليه خلال الاجتماعات الأسبوعية التى يعقدها ويحضرها الآلاف من المصريين والأجانب، كما يوجد العشرات من مقاطع الفيديو على اليوتيوب لردود البابا الطريفة ونكاته أثناء اجتماعاته.
وأحلى ما فى البابا شنودة كما يؤكد كثير من المقربين له هو ابتسامته التى لا تفارق وجهه أبداً وكان يستطيع بهذه الابتسامة وبروحه المرحة نزع فتيل كثير من المواقف الصعبة المتوترة أو الأسئلة المحرجة التى يوجهها إليه البعض حتى أن كثيرين أكدوا بعد أن رأوه على كرسيه عقب الوفاة أن وجهه كان يحمل نفس الابتسامة البسيطة التى كانوا يشاهدونها فى حياته وفى السطور التالية نستعرض بعض نكات البابا الضاحك ففى إحدى المرات حضر رجل أعمال أردنى إلى البابا شنودة ليعرض عليه مشروع ضخم كما وصفه ولكنه يحتاج إلى دعم الكنيسة وكان المشروع يتلخص فى تعبئة مياة نهر الأردن، وهو النهر الذى تعمد فيه السيد المسيح، فى زجاجات ليتم بيعها فى كنائس مصر للبركة.. فكر البابا قليلاً ثم رد على رجل الأعمال قائلاً المسيح عندما تعمد فى نهر الأردن استغرق ذلك دقائق معدودة، ولكنه عندما جاء إلى مصر شرب من مياه النيل 3 سنوات كاملة فما رأيك لو قمنا بتعبأة مياة النيل فى زجاجات وبعناها فى الأردن للبركة؟ بالطبع السؤال ألجم رجل الأعمال الأردنى واظهر مدى سرعة بديهة البابا وعشقه لمصر ونيلها.
وعن أهمية صلاة الشكر قبل الأكل ألقى البابا النكتة التالية فقال: مرة واحد كان ماشى فى الغابة فشاهد أسد من بعيد، فى بداية الأمر أراد الرجل ألا يلفت انتباه الأسد فأخذ يمشى ببطء ولكنه وجد الأسد يمشى وراءه، عندئذ أخذ يجرى بسرعة فجرى الأسد وراءه، وعندما تعب الرجل وتأكد أنه هالك لا محالة ركع ليصلى ففوجئ بالأسد يركع هو الآخر ليصلى فاندهش الرجل جداً وسأل الأسد طب أنا بصلى علشان لا تأكلنى فلماذا تصلى أنت؟ وهنا أجابه الاسد «من عاداتى أن أصلى قبل الأكل» نكتة طريفة انتزعت ضحكات السامعين ولكنها أعطت لهم درس فى أهمية شكر الله قبل الأكل.
رسالة حب
أما عن الإنسانيات فى حياة البابا فتؤكد الدكتورة جورجيت قلينى أنها كانت الأساس فى شخصية الراحل الكريم وهى التى ساعدت أن تكون له شخصيه ذات أبعاد كثيرة جداً فمن بداية حياته ولد طفلاً يتيم الأم حتى أنه لم يجد من يرضعه وأخذ غذائه الأول من مجموعة أمهات من نساء القرية وبالتالى كان كثير من أطفال القرية أخوة له بالرضاعة، ومما لا شك فيه أن هذه كانت بداية موهبة الحب التى تمتع بها البابا شنودة ونستطيع أن نقول إن القدر قد جعل الحب داخله للجميع طوال حياته حتى أن آخر كلمة فى رسالته التى ودع بها الناس كانت رسالة حب يدعو فيها الجميع أن يحبوا بعضهم بعض.
وتضيف قلينى أن البابا اعتزل الحياة بعد الرهبنة متوحداً مع الله فى مغارة وهو ما أعطاه قوة روحية كبيرة ساهمت فى إنسانياته وهو ما ظهر واضحاً فى مرضه الأخير فعلى الرغم من ضعف جسده نتيجة المرض والسن إلا أن روحه ظلت قوية إلى آخر لحظة ولا أدل على ذلك من أنه كان يصر على إلقاء محاضرته الأسبوعية حتى أيامه الأخيرة ولم يمنعه مرضه الذى اضطره للحضور على كرسى متحرك خلال الاجتماع الأخير من أن يتواصل مع الشعب ويمارس دوره كمعلم للأجيال وكقائد روحى وهذا يدل على أنه عندما تكون الروح قوية فلا يهم قوة الجسد فى شىء.
أما عن المحور الثانى الذى ساهم فى قوة البابا فتقول قلينى إنه عندما يولد الطفل يتيماً فإن رحمه الله تعوضه ولكن فى نفس الوقت يجب على الإنسان الذى هو مخير وليس مسير - أن يسعى إلى إنماء نفسه وهذا ما فعله البابا شنودة فى التعليم فبالرغم من نشأته كطفل فى قرية لم يمنعه ذلك من استكمال تعليمه ليتخرج من كلية الآداب ومن الأوائل على الدفعة وهذا خلق لديه الانتماء لمجتمعه وهو ما دفعه للتقدم للكلية الحربية ليصبح ضابط احتياط فى الجيش المصرى برتبه ملازم وهو رد فعل وإضافة للانتماء الوطنى.
أضف على ذلك ثقافته الواسعة ودراسته وسعة أفقه وإقدامه على التعليم الأمر الذى مكنه من القيام بالعمل الصحفى الذى استطاع من خلاله مخاطبة أكبر عدد ممكن خاصه بين الشباب، قراءاته المتعددة ودراساته اللاهوتية اثقلت موهبة الشعر التى منحها له الله وهذه بدورها ساعدت على أن يوصل الكلمة التى هى داخل القلب والمشاعر بشكل منظم يصل إلى الوجدان والقلب قبل العقل وهو ما جعله معداً لتولى قيادة مدارس الأحد وهى المنوط بها إعداد الاطفال والشباب وهو ما مهد بعد ذلك لتوليه أسقفية التعليم بعدها بدء إلقاء محاضرته الشهيرة يوم الجمعة التى كان ينتظرها الشعب كل أسبوع والتى اقتضت أن ينتقل من قاعات صغيرة إلى أخرى كبيرة وهو ما يعنى أن تأثير البابا شنودة لم يبدأ بتوليه الكرسى الباباوى ولكن هذه المرحلة كانت اكتمال وليست البداية، ولذلك نحن نثق فى القرعة الهيكلية لأن البابا لم يحصل خلال الانتخابات على أكثر الأصوات فقد حل فى المرتبة الثانية، ولكنها كانت الاختيار والحكمة الإلهية لشخصه لقيادة الكنيسة بعد أن اكتمل تكوينه.
والخبرة التراكمية التى اكتسبها قداسة البابا فى شبابه ساعدته فى الاختبارات والمواقف التى واجها طوال 40 سنة و4 شهور هى مدة جلوسه على الكرسى الباباوى وهى خبرة جمعت بين قوة الروح من توحده مع الله وقوه المعرفة التى اكتسبها من حبه للقراءة وفهمه الجيد لقول السيد المسيح «فتشوا الكتب»، والتى كان يقصد بها المعرفة بشكل عام ومكتبة البابا خير دليل على ذلك حيث تضم كل أطياف الكتب التى يمكن تخيلها، إرادة قوية دعمتها قوة روحية وامتزجت بتواضع إنسانى ظهر جليا فى روح البراءة والطفولة التى كانت تبدو بجلاء فى ابتسامته خاصة عندما يرى الأطفال.
ويستكمل د. القس صفوت البياضى رئيس الطائفة الإنجيلية الحديث عن إنسانيات البابا شنودة بقوله عرفته منذ بدايه جلوسه على الكرسى الباباوى وقد حضرت صلاة وداع الأنبا كيرلس عام 1971، وخلال هذه السنوات الطويلة كنت مراقباً عن كثب ثم اقتربت أكثر فى العقدين الماضيين ولمست كم هو محب لله، مرهف الحس فى معاملاته وفى مسئولياته إذ كان يحمل مسئولية الراعى الأمين الذى لا يهنئ دون أن يسعى لاصلاح وعلاج ومد يد العون لأى سائل أو محتاج.
ويضيف البياضى سمعته يوماً وهو يقول « عندما أقرأ قول الكتاب أن الله سيسألنى عن أى إنسان لم أرعاه أو أساعده أو انصحه وأخدمه فإنى ارتعب من مساءلتى ومحاسبتى عن كل نفس» وكان يوجه حديثه لجمع كبير منا قائلاً «نعم أنا اخاف المساءلة وتوجيه التقصير فى حق إنسان»..
كم من المرات سمعته يتكلم عن احتياجات الناس، اذكر أنه حكى لى مرة أنه عندما كان يجلس فى الدير سمع العاملين هناك يتكلمون عن الغلاء وكم وصل ثمن طبق الفول؟ وقال لى البابا وقتها «أنا لا اشترى شيئاً ولا أعرف أن الأسعار ارتفعت بهذا الشكل وهنا شعرت بضرورة إعادة النظر فى رواتب العاملين لدينا».
أما عن مساعدة المحتاجين وكيف يجلس يوماً فى الأسبوع ويستمع إلى احتياجاتهم ويسرع إلى تلبيتها دون إبطاء وبكل سخاء فحدث بلا حرج، ومن مشاعره الرقيقة أنه كان يحب ألا يساعد جزئياً وإنما عندما يستمع يسدد كل الاحتياجات ولا يحب فكرة المساعدة بالتقسيط.
لقد علم أبناءه من الرعاة أن الكنائس لا تتلقى فقط العشور والنذور والتقدمات، ولكنها تمد يد العون للمرضى والفقراء والمحتاجين وخاصة مساعدة الشباب فى زواجهم.
ويستكمل البياضى حديثه بقوله شاهدته فى ليلة عيد القيامة فى إحدى السنوات وهو يتوقف قبل دخوله الكاتدرائية ليتحدث لطفل صغير شكا له أنه لا يستطيع الدخول بالقرب منه لأن المنظمين يمنعونه فما كان من البابا أن قال للطفل أدخل معى ولن يستطيع أحد منعك من الدخول، وكم شاهدناه وفى أكبر المناسبات ومع أهم الشخصيات كيف كان يعامل الأطفال الصغار ويشجعهم بالحلوى والزهور وأهم من ذلك الخدمة والاهتمام.
ولقد بلغ اهتمامه بالتعليم – والكلام مازال على لسان البياضى – أعلى درجات الإجادة وأساليب طرح المعلومات فهو الخفيف الظل الذى يستطيع أن يطوع مفاهيم اللغة العربية بحيث يقدم الدرس فى خفة دم بأسلوب السهل الممتنع وبلغة عربية سليمة أنه الكاتب والمعلم والناصح والمدبر وقوى الحجة إذ يجيد الحوار ويستخدم الفكاهة والأمثلة التى تساعد على التذكر.
إن كتاباته ومقالاته تشهد له فإن فنيت الأجسام بقيت الأقلام، وكتاباته مرجعاً مريحاً لتخيره الكلمات السهلة والتى لا تخلو من الموعظة والارشاد حتى وهو يذكر القصة أو حتى النكتة، عرفته صاحب مبادئ وقيم عالية، قمه فى الأدب الرفيع ومثلا يحتذى به فى تطبيق المبادئ الكتابية والإنسانية، لا يحرج أحداً إلا فى مواجهة الخطأ، ومايراه ابتعاداً عن القيم الإنسانية والتعاليم الروحية، إنه فى مواجهة الخطر أسداً جسوراً وفى رعاية الطفل والفقير حملاً وديعاً وطفلاً نقياً.
وعن موهبة الشعر التى كان يتمتع بها قداسة البابا يقول البياضى لقد كتب العديد من القصائد منها من لحن وأصبح ترانيم جميلة فى مناسبات عديدة والكثير منها يدعو إلى الهدوء والاعتكاف والميل إلى حياة البساطه فى الصحراء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.