يحضرني بشدة مشهد الجمعة الماضي الذي تم الإعلان فيه عن النزول لميدان التحرير للتظاهر بعنوان «لقد نفد رصيدكم» حيث نصبت مجموعة من الشباب المساندين لحازم صلاح أبوإسماعيل المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية وهم يهتفون إسلامية.. إسلامية في حين أن بعض الشباب اليساري لم يجد بديلا سوي الهتاف هو الآخر «مدنية.. مدنية» رغم كونهم أقلية في مقابل أنصار أبوإسماعيل والذين حاولوا جا هدين علي إسكاتهم بشتي الطرق وفشلوا. عدنا إلي جدل «مدنية أم دينية» هوية مصر ونحن علي مشارف مرحلة جديدة من تاريخ «أم الدنيا» ومع صعود تيارات إسلامية وسلفية تحاول الزج باسم الدين في كل شيء نطرح بعض الرؤي حول مصر المدنية ونرصد فقط بعض الحقائق التاريخية علي لسان متخصصين.. خاصة مع بعض الآراء التي تؤكد أن الدولة الإسلامية مصطلح مبتدع لأنه يعبر عن تأثير الفكر الإسلامي المعاصر بالفكر القومي الحديث وهو ما يجعل الدولة هي المعبود الحقيقي للمجتمع وأن نموذج الدولة الإسلامية ليس به نص قرآني صريح. ما هي دولة الإسلام أولا: دولة الإسلام التي يدعو لها البعض هي دولة الشريعة وتسعي لتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع مؤسسات الدولة وأن يكون الإسلام مصدرا أساسيا للتشريع حتي ولو تجاوزت هذه الرؤية فكرة الدولة المدنية، يري الداعون لهذه الدولة أنها المطلوبة حاليا بناء علي نظرية الحكم المطلق للعقل الديني حتي وإن تم تقديمه علي المصالح السياسية وتري أن النظام المدني رغم إنجازاته لكنه نتاج بشري ولن يكون بمقدوره أن يضع النظام الأمثل للبشرية أما دين الله بحسب الجماعات الإسلامية فهو نظام حياة ودستور شامل للإنسان.. هذه هي الفكرة الأساسية رغم أن التاريخ يؤكد أن عصر الرسول محمد - صلي الله عليه وسلم - كان يتمتع «بالمدنية» في جميع قراراته وظهر ذلك عندما وقع الرسول أول معاهدة في الإسلام مع يهود المدينة وهو ما يدل علي إشراك جميع الأطياف والعقائد في نظام الدولة. وحسبما يري بعض الخبراء أن الدعوة إلي الدولة الدينية لم تظهر الآن «العصر الأموي» بعد ربط الدولة ربطا فقهيا، وكان ظهور المعتزلة وتوليهم الحكم بصورة مباشرة في العصر العباسي في خلافة المأمون سببا في ربط الدين بالدولة عندما اعتبر مذهب المعتزلة دين الدولة الرسمي ومن هنا استغلت الدولة الحديثة في مصر والعالم العربي «الدين» لخدمة وتحقيق أغراضها فرفضت فصل الدين عن الدولة للمصلحة السياسية في النهاية، ولأننا جميعا نعي جيدا التأثير الواضح خلال السنوات الماضية لبعض الدول العربية علي مصر خاصة منذ السبعينيات ووصف السادات لنفسه ب «الرئيس المؤمن» فقد شهدت غالبية الدول العربية في القرن العشرين ربطا جديدا بين الدين والدولة بفعل ربط الدين بالسياسة والتعبئة الإسلامية ويمثل هذا الاتجاه جماعة الإخوان المسلمين وبعض تيارات السلفية والجهاد، ورغم كثرة الكتاب من متخصصين في الدين الإسلامي عن ابتداع مصطلح الدولة الإسلامية لكن أصوات مازالت تنادي بها. ولأن كل الخيارات الآن مفتوحة أمام الجميع في المرحلة الانتقالية ولدينا رؤي جديدة لإعادة هيكلة المجتمع فسنعرف أيضا الدولة المدنية لندخل فيما بعد حول آراء المتخصصين في الرؤيتين. المدنية الدولة المدنية تحظر المتاجرة بالدين وتمنع الشعارات الطائفية وتحول بأدوات تشريعية «البرلمان» وتنفيذية «الحكومة» دون احتكار البعض للحديث عن الدين وباسمه وتوظيفه لإقصاء أصحاب الانتماء الديني الآخر، هذا من ناحية الدين فيها أيضا الذين يحكمون فيها ويمسكون بزمام الأمور في السياسة والاقتصاد وكل مناحي الحياة ليسوا علماء دين أو رجال دين وتقام الدولة علي أكتاف مواطنيها الأصليين وهم غالبا من عرق واحد داخل المجتمع وإن اختلفت وتعددت دياناتهم وتوجهاتهم الدينية وتنظم العلاقة بين الدين والسياسة علي نحو يمنع التجاوزات المرعبة. أما الدولة العلمانية وهي الأقرب للسابق فتتركز علي مفهوم سياسي يقتضي الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي ولا تمارس فيه الدولة أي سلطة دينية والكنائس لا تمارس أي سلطة سياسية وهو التعريف الذي صاغه العبقري الإمام محمد عبده في مقولته الشهيرة «لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين» وأيضا صاغه سعد زغلول في جملته الشهيرة «الدين لله والوطن للجميع». يقول د. عبدالمعطي بيومي: مصر دولة مدنية عربية إسلامية والإسلام لا يتناقض مع المدنية وقد تمت مناقشة هذا منذ أسابيع قليلة بعدما جلسوا مع شيخ الأزهر لمناقشة «وثيقة الأزهر» وتم التأكيد علي هذا فلا مانع من الاحتفاظ بالهوية الإسلامية العربية وإعطاء الفرصة للنظام السياسي ليكون مدنيا ديمقراطيا حديثا تكون فيه المواطنة هي الأساس ولا تفرقة بين المسلمين وغيرهم. وينفي عبدالمعطي تعارض الإسلام مع فكرة المدنية فالسلطة الدينية لم تكن في الإسلام يوما وإنما كانت سلطة مدنية منذ بداية الدولة في المدينةالمنورة والقرآن أسقط فكرة الدولة الإسلامية، ويضيف أن الإسلام دين يترك للخبرة البشرية ومنها الخبرة السياسية والاقتصادية أمور الدنيا ويمجد العقل الإنساني مهتديا بالغايات العليا للإسلام وهي العدل، الحرية، المساواة، الشوري وغرض الدولة في الشريعة إقامة العدل وتحقيق مصالح العباد. ويري بيومي أن الدولة المدنية ليست ضد الدين الإسلامي شرط أن تلتزم بعدم مخالفة القوانين للتشريعات الإسلامية كما أن مبادئ الأديان السامية، ويندهش بيومي لوجود دول غير إسلامية بها مبادئ الإسلام والعكس كما قال الإمام محمد عبده «وجدت الإسلام بلا مسلمين وأجد هنا في مصر مسلمين بلا إسلام» ويفسر بيومي بعض الحقائق حول المدنية باستفاضة في كتاب له بعنوان «الإسلام والدولة المدنية». الإسلام دين الحق وكما يقول محمود حامد العويضي في كتابه «الإسلام دين الحق» هداية للعالمين وليس «بضاعة انتخابية» انقطع الوحي ولم يتبق لنا إلا العقل الذي منحنا الله إياه كي نعتمد عليه في فهم أمور ديننا ودنيانا ويستشهد العويضي بواقعة علي بن أبي طالب وخلافه مع «الخوارج» واحترام الاختلاف في الرأي ويؤكد أن «الدين تسليم بالإيمان والرأي تسليم بالخصومة فمن يجعل الدين رأيا فقد جعله خصومه ومن جعل الرأي دينا فقد جعله شريعة». متفائلة بحذر وتري د. مني مكرم عبيد أن طرح فكرة الدولة الدينية الآن ليس له علاقة بثورة 25 يناير فلم يكن مطلب الثوار بل كان المطلب الأساسي «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» لهذا تدعو إلي التمسك بهذا الشعار ليكون شعار المرحلة الانتقالية، وتصف الحديث عن الدولة الدينية والإسلامية «بالمتاهات» التي لا تهم السواد الأعظم من الشعب المصري وتراها مصطلحات «استعراض قوة» بهدف ترويع المواطنين لأن المجتمع المصري معتدل حتي وإن كان متدينا وتضيف أن الانتخابات البرلمانية ستظهر وزن كل تيار سياسي خاصة من يدعو لدولة إسلامية وتصف د. مني نفسها «بالمتفاءلة بحذر» وتسعد برفع الوعي السياسي بالشارع والذين سيفضل دولة مدنية قائمة علي مبدأ المواطنة والمساواة وسيادة القانون. أما د. مصطفي اللباد رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية يري أن الحديث عن دولة دينية ودستور ديني أمر لابد أن يتفق عليه المصريون ويصف الحديث عن هذا بالاستعجال في بلد لديها تاريخ من التسامح بجانب أن الدولة المدنية لا تتصادم مع الأديان لأنها تكفل حريات المواطنين بغض النظر عن عرقهم أو جنسهم أو دينهم بجانب اختلاف الدولة الدينية في مفاهيم الفلاسفة من الأساس والدولة الدينية ستضمن حقوق معتنقيها فقط ولهذا يري اللباد أهمية استلهام المبادئ الكلية للشريعة وهي الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة والتعامل بمنطق الدولة المدنية. فيما ينفي المفكر الإسلامي جمال البنا وجود ما يسمي «دولة إسلامية» في الإسلام أو التاريخ الإسلامي بأكمله ويؤكد أن فترة الرسول محمد - صلي الله عليه وسلم - كانت دولة مدنية فلم يكن هناك حكم فهو لم ينشأ نظاما سياسيا بل «مجتمعا» داخل المدينة. ويصف البنا هذه النداءات الآن باستغلال الدين ويري الشريعة الإسلامية هي «العدل» وإذا تحقق العدل تحققت الشريعة لهذا قد يكون العدل مطبق في سويسرا أكثر من السعودية أو مطبق في بلد رفع علي علمها الصليب ولم يطبق في بلد رفع علي علمها «لا إله إلا الله». المصريون أما من الناحية التاريخية فيري د. عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ أن ما يجمع المصريين من تقاليد وعادات أكبر مما يفرقهم علي مستوي الأديان فالعادات المشتركة قديمة منذ فجر التاريخ قبل الأديان مثل الدفن تحت الأرض، أربعين المتوفي والخميس الأول كلها عادات فرعونية حتي «المرجيحة» علي شكل مركب الشمس لأنها ترمز للحياة لدي المصريين وإطلاق البخور لطرد الأرواح الشريرة من بيوت المسلمين يوم الجمعة والمسيحيين يوم الأحد، ورش المياه أمام المحال لجلب الرزق حتي لعبة «التحطيب بالعصا» التي يعرفها الجميع تعود إلي الاعتقاد في أن تحريك العصا يمينا ويسارا تطرد الأرواح الشريرة أيضا. ولأن المصريين يؤمنون بالحياة هم الوحيدون الذين صنعوا العيش دائري علي شكل «قرص الشمس»، إذن هي تقاليد جاءت قبل الأديان، الوطن هو الأرض الذي نعيش عليها وتجمعنا داخلها مصلحة واحدة كما يقول الدسوقي وتغيير العقيدة الدينية لا يغير الدم فالمصري دائما معتدل في الحياة ولا يميل إلي التطرف كل من المسيحي والمسلم يؤمن بمعتقدات الآخر منذ القدم وهذا ما تعنيه الدولة المدنية فلا تتأسس علي شريعة دينية بعينها إنما علي قانون يقنن الأعراف والحديث عن دولة دينية هو حديث خارج الزمن ولن يستمر. ويري د. نبيل عبدالفتاح - الخبير السياسي - أن الدولة شخصية معنوية ليست شخصا طبيعيا تضفي عليه صفات إنسان متدين أو متزوج، يصلي أو يصوم فالدولة لها سلطاتها وهيكلتها ووضع ديانة للدولة هو أمر رمزي بامتياز لهذا يري عبدالفتاح أن طرح فكرة الدولة الإسلامية الآن ما هو إلا تشويش علي توجهات المرحلة الانتقالية وعلي عملية وضع دستور قادم للبلاد فالتعبئة الدينية هدفها انقسام البلاد لهذا تتحدث بعض القوي الإسلامية السياسية عن المادة الثانية الآن لحشد قطاعات إسلامية لهذا فوضع الدستور في رأيه لابد أن يأخذ بالتراث التاريخي الدستوري والسياسي لمصر والبحث عن أسباب عدم تحقق المواطنة الكاملة للمصريين جميعا ولاسيما الأقباط في ظل دساتير الجمهورية علي اختلافها وحتي مصطلح الدولة المدنية يراه عبدالفتاح «اختراع» للهروب من المسمي الحقيقي المفترض للدولة وهو «الدولة الديمقراطية الحديثة».