كان الراحل الكريم رجلا من طراز نادر من زعماء الإصلاح الكنسي والاجتماعي، أوقف حياته كلها، علي الدفاع عن حرية الفكر، وقيم التنوير والتحديث، ومحاربة الثيوقراطية والدوجماطية الدينية، والتأكيد علي أن دور رجل الدين، هو الإعراض عن محدثات الأمور، والإيمان بتعدد طرائق الوصول إلي الحقيقة، علي النحو الذي حدده ابن رشد، والازورار عن الحياة التي وصفها أرسطو بعبارة Bios theroetikos أي الحياة التأملية، إلي الانخراط في سلك الحياة الاجتماعية، والمساهمة في ترقيتها أخلاقيا وسياسيا، وتشديده الدائم علي أن الأبوة الحقة، لا تنحصر وظيفتها بحال في ترويع الناس واستعبادهم روحيا، بل تتجلي في فتح باب الاجتهاد والتفكير المستقل، أمام الجميع سواء بسواء، وأن الدين يكتسب جدته وجديته في حياة الناس ومعاشهم، حين ينأي عن التبرير والتسويغ، أي يمسي (للتحرير لا للتخدير) كما كان يردد دوما رجل الفكر المتدين، القس إبراهيم عبد السيد. وينتمي القس إبراهيم عبد السيد إلي جيل من قيادات العمل العام المسيحي، نشأت بواكيره الأولي في المرحلة الليبرالية التي سبقت حركة يوليو 2591، وتمسك بكنيسته كنيسة شعبية ديمقراطية لجميع أبنائها حق الاشتراك مع الإكليروس (رجال الدين) في الإشراف علي شئونها، وإدارتها، وتوجيه سياستها، علي حد تعبيره ، واعتبر الشأن المسيحي شأنا مصريا عاما، يهم الكافة بلا استثناء.. ومن هنا، لابد من خروج البخار المسيحي المكتوم، إلي الفضاء العام، وأن تحتضنه الصحف، وأن يستثير اهتمام الجميع. هذا التيار يختلف عن التيارات الاحتجاجية الأخري التي تلته في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، في سعيه إلي عدم تسييس الكنيسة، ومحاولة بلورة توجه ينحو منحي ليبراليا في الفكر، ويفهم الأب الإلهي وابنه، من خلال التماهي المنشود بين الجوهر والوجود، وهما يعبران عن حوار الكوني والتاريخي في هذا الشرق. ولا غرو في ذلك، فهو واحد ممن درسوا تاريخ الكنيسة المصرية بإمعان، واستوعب دروسها الوطنية، فنأي عن الأفكار المثنوية الشائعة عن التصادم المحتوم بين أبناء الديانات السماوية الثلاث، من خلال استخلاص دروس الماضي المستفادة، وتعقيد الحاضر، والبحث عن صيغة تفضي إلي التوفيق ما بين الروحانيات والزمنيات ، فلم تذب شخصيته في المطلق، ولم يعتزل العالم زهداً وتصوفا.. بل آمن بفكرة الجماعة الوطنية، أو الأمة الواحدة، في ظل مجتمع مدني، يكفل حقوق المواطن المصري الأساسية، ويؤكد اللحمة ما بين الثقافة والانتماء. من هنا ، رفض الدعوة القائلة بالجوهر الديني الثابت لكل جماعة، لها ملامح طائفية قائمة بذاتها، فحرر بذلك ثقافته الدينية من دعاوي الانغلاق والانكفاء علي الذات، وتوصل إلي إرساء مفهوم للمواطنة، ذي محتوي إنساني وتاريخي. ويعد الأب إبراهيم عبد السيد امتدادا حيا خلاقا للبابا أثناسيوس الرسولي، بطريرك الإسكندرية، الذي قالوا له: إن العالم كله ضدك. فقال لهم: وأنا - أيضا - ضد العالم. كذلك سار علي درب القمص مرقس سرجيوس ، خطيب مصر، كما أطلق عليه سعد باشا زغلول، وزعيم الإصلاح الكنسي الذي رفع شعار »وحدة الصليب مع الهلال« في ثورة 9191 محددا هدفه علي نحو ما كتب في مقاله الافتتاحي بمجلته المعروفة باسم »المنارة المرقسية« الصادرة في عام 2191، قائلا فيه: »لنعمل علي انتقاد أمورنا الداخلية، وتقويم الاعوجاج الذي سري فينا كأمة وككنيسة، والضرب علي العادات التي أضلت الشعب، وأفسدت ما توارثناه عن السلف الصالح«. لذا رفع الأب إبراهيم عبد السيد شعار »المعارضة تدعيم للديمقراطية، وتصحيح لمسيرتنا النهضوية، وكان تناديه بها يبلغ حد التقديس، في إطار نظرة متكاملة، حكمتها رؤية اجتماعية متوازنة. واضعا نصب عينيه دائماً ما جاء في سفر الأمثال 11: 41، 51: 12: »حيث لاتدبير يسقط الشعب، أما الخلاص فبكثرة المشيرين« »وأن المقاصد بكثرة المشيرين تقوم، وبغير مشورة تبطل«.. لقد آمن القس إبراهيم عبد السيد - بصدق - أن الحقيقة ملك للناس، وأن امتلاك قدرة التعبير عنها، هو ما يشكل أخلاقية رجل الدين، ويصنع التزامه، ويبرر وجوده، إعمالا لنهج السيد المسيح، حين قال للحارس الروماني الذي لطمه علي خده أثناء محاكمته: »إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد علي الردئ، وإن حسنا فلماذا تلطمني« - إنجيل يوحنا 81: 32 . حقا.. لقد كان الأب إبراهيم واحدا، من هؤلاء الغرباء الدين يضنيهم تجاهل ذوي الكفايات من لداته وأترابه، ويشقيه إقصاء المجتهدين الحقيقيين من أنداده وأضرابه، مؤمناً بقول أمية بن أبي الصلت: وما غربة الإنسان في غير داره ولكنها في قرب من لايشاكل ولعلنا لاننسي محاولة تكفيره والتشكيك في إيمانه ، بسبب دعوة أطلقها في مقال نشرته له »جريدة الأخبار« ، بتاريخ 5/3/9991، يحمل عنوان »لا للتبني الوثني، نعم للتكافل الإسلامي« حاول فيه أن يعالج قضية إنسانية ماسة بحق أبناء لنا، جارت عليهم ظروف معينة غير مسئولين عنها، من منطلق أن (التبني بدعة وثنية انحدرت إلينا من القانون الروماني، وقد ألغاه الإسلام »بالتكافل« كنظام حضاري راق يصون العلاقات الأسرية التي شرعها الله في كل الأديان، للحفاظ علي كرامة العلاقة الزوجية وقداستها، وصونا للأنساب من الاختلاط. أما التبني فقد تسرب إلي المجتمعات الغربية التي تحللت من القيم الدينية) علي حد تعبيره .. ثم رأي الأب إبراهيم أن العوار القانوني قد شاب مشروع »قانون الأحوال الشخصية الموحد للطوائف المسيحية في مصر« وراح يعدد الأسباب التي دفعته إلي انتقاده، من خلال تساؤله الدال: »لماذا لا يتزوج هذا الرجل من يتبناها، بدلا من تشكيك الناس، وإثارة ريبتهم والقيل والقال، في مثل هذه العلاقة الغريبة علي المجتمع المصري الذي لم يعتدها، وأن يقوم بكفالتها ورعايتها اجتماعيا.. بدلا من تقليد المجتمعات الغربية، وتكرار أحداث مسلسل »الجرئ والجميلات« ، الذي كان موضع استهجان الكثيرين«؟! وهكذا يتضح لنا - بجلاء - أن القس إبراهيم عبد السيد يصدر عن اجتهاد شخصي، لا يلزم أحدا، ولا يكرهه علي أداء ما لا يطيق، فلم يراد للمسألة أن تصير تكأة، تقبل كل ضروب الإسقاط والقولبة اللذين يحبسان المعني داخل بعد واحد فحسب، تم تعليبه وتعقيمه بواسطة من يدعون التظاهر بالدفاع عن الحقيقة المتعالية المتأبية علي البشر، فتختلط - عندئذ - الإيديولوجيا بالتيولوجيا، عبر عمليات »تتريث المجتمع«، التي تحدث عنها د. عبدالله العروي في المغرب الأقصي، بهدف نفي قوانين الصراع الاجتماعي، وتشييئ الإنسان، وأيلولة الدين إلي محض كيان جامد غير قابل للحياة، علي أي صعيد؟ وبوسع من يستعرض عناوين أسفاره المجيدة: البدع والهرطقات خلال عشرين عاما.. بطل الوحدة الوطنية سرجيوس.. المحاكمات الكنسية.. أموال الكنيسة من أين ؟ .. وإلي أين.. ؟ .. المعارضة من أجل الإصلاح الكنسي. البطريرك القادم ممن يختار؟... ومن الذي يختاره؟.. وكيف..؟ .. السلطان الكنسي أبوة لا إرهاب. الوحدة الوطنية وحقوق الإنسان.. متي يعود الحب المفقود في الكنيسة القبطية؟.. الرهبنة في الميزان.. أموال الكنيسة من يدفع؟ ومن يقبض؟.. الأحوال الشخصية.. رؤية واقعية.. الإصلاح الكنسي عبر العصور.. الإرهاب الكنسي.. أقول إن من يستعرض هذه العناوين، يدرك مغزي الرحلة الميمونة لهذا الحبر الجليل، ويعرف دالة القضية التي نذر نفسه لها، وعاش من أجلها. كذلك كان الأب إبراهيم أحد العلماء النابهين المتضلعين في قوانين الكنيسة، المشهود لهم بالكفاية في تفسيرها وتأويلها برؤية أكثر وضوحا للماضي وللحاضر، وراح يعلن - بصراحة ووضوح في كتابه الموسوم باسم »الفروق العقيدية بين المذاهب المسيحية« أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تدار عن طريق المجمع ومجامع الإيبارشيات برئاسة المطران والأسقف والأراخنة »الشعب« وأنه لا رئاسة لكرسي رسولي علي آخر، ولا عصمة للبابا ولا لغيره من البشر، إلا إذا كانوا علي هيئة مجمع للكنيسة. والمجمع يكون معصوما فقط، بقدر ما تكون قراراته مطابقة للحق الإلهي المعلن في الإنجيل المقدس، والتقليد المتوارث، وقوانين الكنيسة، وتعاليم الآباء، علي خلاف ما تؤمن به الكنيسة الكاثوليكية، من عصمة بابا روما من الخطأ) ص ص 03 و 13. ولذلك رفض - بشدة وقوة - إطلاق كلمة »سيدنا« علي أي شخصية دينية ورأي أنها. لم تطلق حتي علي السيد المسيح، الا في أواخر القرن التاسع، وأوائل القرن العاشر . بل إنها لم تطلق علي أحد من قديسي المجمع في القداسات الثلاث المعروفة في كنيستنا، وإن كانت قد تسربت في غفلة من الزمن إلي ديانتنا المسيحية، كلفظ تكريمي للبطاركة والمطارنة والأساقفة، دون أي جذور عقيدية علي الإطلاق« ص 33، من كتاب »الإرهاب الكنسي«. ورفض القس إبراهيم عبد السيد الدعوة المغرضة التي ذهبت إلي تجريم الكتابة في الصحف عن شئون الكنيسة، وأعلن أن الكنيسة جزء لا يتجزأ من المجتمع، ولا يمكن فصم الجزء عن الكل، وإلا كنا ندافع عن مصالح فئوية ضيقة تتستر بالدين، وتوظفه لغير ما جاء به في مبتدأ أمره، ومن ثم، فإن المكاشفة والشفافية في مناقشة أحوال الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، هما السبيل إلي استرداد عافيتها الدينية والتنظيمية، والإدارية والمالية، ولتسويد الديمقراطية بين ظهرانيها، ولتخليصها من كل الأمراض والآفات التي تعوق مسيرتها، وكما يقول علماء اللاهوت: »إن الرغبة في البقاء في حضن الكنيسة، والإبقاء علي هيبتها، يدفعاننا دائما إلي الإكثار من نقدها«.. وهذا ما صنعه الرجل، لذا لم يبال بما تعرض له من عنت واضطهاد، وظل يمارس عمله الكنسي راعيا لكنيسة مارجرجس بحدائق المعادي منذ عام 9791، حتي تركه مرغما.. وأنفق علي كتبه من جيبه الخاص، برغم ظروفه الاقتصادية الصعبة.. ورفض أن يهادن أو يساوم، وتصدي لكل الممارسات التي أرادت أن تباعد بين الكنيسة ورسالتها، رافضا عزلتها وسلبيتها، ضاربا لنا المثل من خلال اشتغاله بالعمل العام، وبوصفه عضوا مؤسسا للجنة الشعبية للوحدة الوطنية منذ عام 4991، وبالمنظمة المصرية للشفافية ، وعضويته النشطة بالمنظمتين المصرية والعربية لحقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية، ونادي بحتمية فصل الدين عن السياسة، »وليس فصل الدين عن المجتمع.. إذ علي الكنيسة أن تبقي مرشدة وهادية للناس في طريق الأبدية.. وأن احتراف رجل الدين العمل السياسي سيجور علي عمله الأساسي وهو خدمة النفوس«.. كما يقول كمال زاخر موسي.. واتسمت كتاباته دوما بجسارة فكرية لم تخرج أحكامه قط عن تخوم الاعتدال والأمانة، ولم تصر مناقشاته يوما محض جسر لتصفية الخلافات، الحقيقي منها والوهمي، وأتت كتاباته غيرة منه وحدبا علي كنيسته التي وسدها قلبه الكبير، ولم يفرط فيها مهما كان الثمن. كما كان يتمتع بمزية أخري يحفظها له د. جرجس كامل مؤداها أنه »لا يقبل الوصاية أبدا« علي الإنسان المسيحي، أو الإنسان عموما، لذلك لم يؤمن بالمقولة أو المبدأ الذي يقول: إن الكهنة قوامون علي الشعب.. وهو ما يتنافي علي طول الخط مع المبدأ الذي أرساه السيد المسيح علي الأرض »بأن الجميع متساوون في الحقوق، وفي الكرامة، وفي المجد«.. لهذا رفض الرجل محاولات الوقيعة بينه وبين البابا، قائلا بملء فيه: »إني أحترم البابا، فهو رئيسي وأستاذي.. وأنا نفسي صنيعة يديه«.. وحافظ طوال عمره علي القيمة الوطنية التي أرساها البابا شنودة الثالث حين جعل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أحد الكيانات المهمة التي تكّون المنظومة المصرية في مجملها.. وهذه - كما يقول د. ميلاد حنا - إحدي سمات مصر في إيمانها بالتعددية، وفي سبيلها إلي الحراك الاجتماعي والثقافي، باتجاه مصر الحديثة في الألفية الميلادية الثالثة، وهي توازن بين التوجه الديني الذي يعطي مظلة للإنسان في الحياة، وبين التنظيمات الإدارية والمالية والمؤسسية التي تكون خاضعة للتطور الذي يتفق مع العصر، أي يتم الامتزاج فيه بين التراث والمعاصرة. أجل.. كان الأب إبراهيم عبد السيد واحدا ممن آمنوا بأفكار الأب »جوتبييريز« التي شقت طريقها إلي الوجود عام 1791، في كتابه المعروف »لا هوت التحرير« ودعا إلي ضرورة »تحرير قارة أمريكا اللاتينية تحريرا حقيقيا من الخطيئة الجماعية، وأن تكون الكنيسة شعبية«.. وهو ما ظل الرجل يدافع عنه منذ أن كان يتدرب في جريدة »مصر« وهو بعد طالب في كلية الحقوق - جامعة عين شمس، حتي رسامته قسا، جاعلاً من الآية الكريمة »وتعرفون الحق، والحق يحرركم«.. نبراسا له ولنا.. رحمه الله رحمة واسعة لقاء ما قدم وأسدي.