يبدو أن أبا الوليد بن رشد, ذلك الفيلسوف الأندلسي, والفقيه المالكي الذي ولد بقرطبة في الربع الأول من القرن السادس الهجري قد كتب عليه أن تختلق حول فكره المزاعم, وأن تنسج حول آرائه الادعاءات. تلك المزاعم والادعاءات التي شوهت ولاتزال تشوه صورته وتتحول به من فيلسوف مؤمن صادق الإيمان جمع بين العقل والشرع وجعل من العقل ظهيرا للشرع وسندا له: إلي داعية تنويري خلع رداء الشرع ونبذه ظهريا ودعا إلي تقديس العقل, بل إلي أن يكون العقل هو الهادي إلي سواء السيل والمرشد إلي الطريق الحق واليقين, والمنارة التي نستعصم بها فنهتدي بها إلي كل خير كما يقول أحد سدنة التنوير!! وكما استبيحت أفكار ابن رشد علي هذا النحو لدي سدنة التنوير, فقد انتهكت سيرته كذلك علي أيدي بعض ذوي الخيالات الفنية اللاهية الذين صوروه وهو الفيلسوف الفقيه في صورة من يحيا حياة العبث والمجون والنزق والطيش, وكل ذلك افتراء وادعاء بعيد عن الحقيقة بعد المشرقين!! فأين ذلك الافتراء من الصورة الحقيقية لابن رشد, ذلك الرجل الذي قضي من عمره ردحا طويلا مستغرقا في دراسة تفاصيل التفاصيل للأحكام الشرعية من العبادات والمعاملات في سائر المذاهب الفقهية المعروفة, ولم يكن في هذه الدراسة ناقلا يسرد آراء السابقين, بل كان ناقدا لا يحتاج منها إلي النقد مرجحا لما يحتاج منها إلي ترجيح نافذا إلي عللها ومقاصدها, كما اختار لهذا العمل الموسوعي عنوانا عبقريا, هو نهاية المقتصد وبداية المجتهد لكي يشير به إلي مهمة جد جليلة وهي مهمة من يأخذ بيد دارس الفقه الإسلامي من البدايات لكي يضعه علي بداية سلم الاجتهاد وللمرء أن يتصور ما يستلزمه هذا العمل من جهد دؤوب واخلاص عميق لأصول الإسلام ومعرفة مستقصية للأدلة الشرعية المعتبرة؟ وأين ذلك الافتراء من ابن رشد الفقيه الفيلسوف الذي حفظ عن ظهر قلب جميع الأحاديث النبوية الصحيحة التي جمعها الامام مالك بين دفتي كتابه الشهير وهو( الموطأ) بل كان يراجع ما حفظه علي أبيه حتي لا يتفلت منه شيء؟ وأين ذلك كله من تلك العبارة البديعة التي أودعها كتابه الشهير( فصل المقال): إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة بل أين ذلك الافتراء في جوهر فكر ابن رشد الذي يجتمع فيه الفيلسوف الرصين الذي اضطلع بتنقية فلسفة أرسطو مما علق بها من شوائب ثم أضاف إليها من صميم عقيدته, إلي جانب المؤمن الذي يدافع عن أصول دينه دفاعا حارا مخلصا, دون أن يبالي في دفاعه هذا باختلافه مع المتكلمين من بني جلدته وأبناء دينه ودون أن يبالي بما جر عليه ذلك الاختلاف من محن وويلات بل أين ذلك الافتراء من قراءة عجلي لكتابي ابن رشد المعروفين( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة في الاتصال). و(الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد أهل الملة) فكلا الكتابين تعبير رشدي واع عن أن الحقيقة التي يعبر عنها العقل الصحيح هي عين الحقيقة التي يخبر عنها الشرع الحكيم فهما لا يتعارضان, ولا يتناقضان, طالما كان الجمع بينهما مستقيما والائتلاف بينهما سليما ذلك أن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له. بيد أن فلسفة ابن رشد قد منيت حين انتقلت إلي أوروبا المسيحية في العصر الوسيط بقدر كبير من الخلط والالتباس, فلقد توهم بعض من اطلعوا عليه حينذاك إن معارضة ابن رشد لمنهج المتكلمين واختلافه معهم في مسلك الاستدلال علي العقائد الإسلامية تعني معارضته للعقائد الإسلامية ذاتها وعداءه لها, وهذا فهم خاطيء بطبيعة الحال, لكن هذا الفهم الخاطيء كان سببا في اتهام ابن رشد بأقذع اتهام وهو العداء للدين تارة والكفر والزندقة تارة أخري. كما أن بعض المفكرين المتمردين علي السلطان الكنسي, والرافضين للدين برمته: وجدوا في هذا الفهم الخاطيء بغيتهم, فاتخذوا من هذه الصورة المشوهة لفلسفة ابن رشد: سندا وظهيرا لهم في تمردهم ورفضهم وإذا بصورة ابن رشد في تلك العصور: وقد أضحت فرصة سانحة يستند إليها كل من ينعتق من الدين أو يعاديه, أو يرفضه, كما تسربت آثار هذا الفهم الخاطيء بصورة أو بأخري إلي بعض ممثلي الرشدية اللاتينية التي تبنت فكر ابن رشد فيما بعد من جهة, وإلي كتابات بعض مشاهير المؤرخين الأوروبين المحدثين من جهة ثانية!! وأكبر الظن أن عدوي هذا الفهم الخاطيء في أوروبا لجوهر فلسفة ابن رشد, وتلك الصورة المشوهة لفكره هو ما أغري بعض المخدوعين من أمتنا بأن الطريق إلي الانعتاق عن الدين, والانخلاع من الشرع, والاعتماد المطلق علي العقل: انما يمر عبر ابن رشد, وبوساطة فكر ابن رشد, في غفلة خادعة عن أن الحضارة الإنسانية الصحيحة والتقدم الحضاري المنشود: لا قوام لهما ولا أمل فيهما فيما يفهم من كلام ابن رشد دون الاعتماد علي الأختين الرضيعتين, وهما الشرع والعقل, أو الشريعة والحكمة إذا استعملنا لغة ابن رشد نفسه فهما كما قال في فصل المقال: المصطحبتان, المتحابتان!! وأكبر اليقين أن ذلك الفقيه الفيلسوف لو انبعث من رقدته لاعترته الدهشة بل الصدمة مما لحق بفكره من افتراء وبصورته عن ادعاء!! عضو مجمع البحوث الإسلامية