عمرو موسي في بغداد.. ماذا حدث؟ وما الذي تغير؟ هل تغيرت بغداد، وانتصرت علي جحافل قوات الاحتلال؟ أم الذي تغير هو جامعة الدول العربية؟ أم أن عمرو موسي نفسه تغير وقرر أن يغامر ويقامر بكل أوراقه، إن كانت ما زالت هناك أوراق؟أسئلة لا حصر لها ولا عد، حول العرب، وحول ما يجري في منطقتهم، وحول الاحتلال وأوضاعه، وحول جيران العراق وما جري لهم وفيهم؟.. وكلها أسئلة تفرض حوارا واسعا واجتهادا عميقا، يكون أساسه البحث في الأسباب المعلنة ومدي صحتها. مع إعادة التعرف علي الأمين العام للجامعة نفسه، فقد يكشف لنا هذا ما وراء هذه الزيارة وخفاياها. يقول السبب المعلن أن هناك قرارا للمجلس الوزاري للجامعة قد صدر بإيفاد عمرو موسي سريعا إلي العراق، من أجل التحضير لمؤتمر مصالحة وطنية برعاية عربية، لمواجهة مخاطر تقسيم العراق!! وكأن العراق لم يقسم. وهذا التدخل من منظمة عجزت، هي وأمينها العام، عن إبداء رأي، ولو خجول، في خطورة عملية التدويل التي جرت للقضايا العربية، حتي انتهت لتصبح شأنا أمريكيا خالصا. فمن السذاجة بمكان الاعتقاد بأن هذه الزيارة تمت بقرار عربي، كما يتوهم البعض، وهل ثمة فرق بين قرار عربي وقرار أمريكي.. الزيارة ليست إلا نوعا من تحرك مطلوب ومحسوب لتوفير غطاء عربي، رسمي، يساعد جورج دبليو بوش علي الخروج من مأزقه.. الحيل أعيت قوات الاحتلال في التصدي لاتساع نطاق المقاومة وقدرتها، ومل الناس مما تقوله وتنشره بيانات وتصريحات السياسيين والعسكريين الأمريكيين والبريطانيين، ومعهم حكومة الاحتلال، عن المقاومة، أو العمليات الإرهابية، التي ينسبونها إلي عرب ومسلمين غرباء ، أي غير عراقيين، وكأن أهل العراق الأشاوس يقبلون بالضيم ويرحبون بالاحتلال. ويؤكدون الزعم الاستعماري العنصري التقليدي، بأن العراق أصبح أرضا بلا شعب، لكي تترسخ عملية استباحته، وينتفي وجوده الاجتماعي والسياسي والحضاري والتاريخي والبشري، فيتم ضمه إلي أرض الميعاد المزعومة!!. أكان ممكنا لعمرو موسي أن تطأ قدماه ارض العراق دون موافقة الاحتلال، وبغير تصريح الإدارة الأمريكية وتعليماتها.. ومنا من يعلم أن هذه الإدارة في أمس الحاجة إلي قرار عربي رسمي (آسف قرار أمريكي معرب) يساهم في إنضاج مطلب إحلال قوات عربية محل القوات الأنجلو أمريكية، تكرارا لتجربة القوات السورية في لبنان، والتي دخلت ذلك البلد الشقيق كجزء من قوات ردع عربية .. بقرار عربي جماعي، وتأييد سوفييتي، ومباركة أمريكية، في زمن كانت الموازين غير الموازين، والقرارات غير القرارات. وكانت الظروف والاعتبارات مختلفة، فمواءمات الحرب الباردة، لا تتناسب، الآن، مع زمن الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة والتزاماته، وهي التزامات لا تجد معترضا واحدا من حكام العرب!!. إذن عمرو موسي يقوم بمهمة أمريكية بلباس عربي، مهمة لا هي عربية ولا عراقية. تهدف إلي إقامة حائط بشري عسكري (عربي)، يحمي قوات الاحتلال ويقيها ضربات المقاومة الموجعة، فتنسحب، هذه القوات، إلي خارج المدن، وتتمركز في قواعدها الحصينة خارجها، وتتكفل قوات الردع العربية الجديدة، مع الشرطة والحرس الوطني بضبط الأمن، والوقوف في مواجهة العراقيين، وتمتص ضربات المقاومة بدلا من قوات الاحتلال. وذلك علي غرار ما قام به مبارك، ببناء جدار بشري عسكري عازل، من قوات حرس الحدود المصري، كجزء من مخطط شارون وإحكام القبضة علي قطاع غزة وحصاره، وعدم تمكين المقاومة من الحصول علي السلاح!! وقد تابعنا ووجدنا أن بنادق قوات سلاح الحدود المصري، علي معبر صلاح الدين في رفح، توجه، للأسف الشديد، إلي صدور الفلسطينيين!!، وراقبنا وتأكدنا من أن عمليات إذلال الفلسطينيين، التي تجري، علي هذا المعبر ممنهجة وجزء من مخطط شارون، وتجري تحت أعين هؤلاء ومباركتهم!!. وعند إعادة التعرف علي الأمين العام لجامعة الدول العربية.. نجد أن ولايته بدأت بتصريحات نارية، كانت سرابا، حسبه الظمآن ماء، فيها وعد بالاستقالة من منصبه إذا لم يقدم شيئا للقضية الفلسطينية، التي لا تختلف في مراميها عن القضية العراقية، وذهبت الوعود، وبقي عمرو موسي في منصبه. وهذا يعيدنا إلي وجوده في وزارة الخارجية المصرية، قبل أن يتقلد منصبه في الجامعة، جاء تعيينه وزيرا للخارجية بعد مرحلة طويلة كانت فيها الوزارة مصدر قلق وتوتر لرئيس الدولة، في عصري السادات ومبارك، كانت تضم في أروقتها جيلا من الدبلوماسيين، له تحفظاته علي التنازلات المجانية السخية التي قدمها السادات، ومبارك من بعده للدولة الصهيونية، فاسماعيل فهمي، وزير خارجية السادات، استقال فور علمه بقرار زيارة القدسالمحتلة، ورفض مرافقته في رحلته.. رافقه مصطفي خليل، ويوسف والي، وبطرس غالي، وعثمان أحمد عثمان. وبعد تعيين محمد ابراهيم كامل في المنصب الشاغر، وذهابه ضمن وفد مفاوضات كامب ديفيد ، الذي كان برئاسة السادات، ومن هول ما قدم السادات من تفريط وتنازل لبيغن، لم يطق وزير الخارجية الجديد صبرا، فاستقال وترك المفاوضات وعاد إلي القاهرة، مما أفقد السادات صوابه، فاستمرت الوزارة بلا وزير لمدة من الزمن، وأوكلت أعمالها إلي بطرس غالي، الذي كان يشغل منصب وزير دولة. وعين عصمت عبد المجيد وزيرا للخارجية، لأنه كان ضمن الوفد المفاوض في كامب ديفيد، ومن الذين تحمسوا ل السلام مع الدولة الصهيونية، وفي عصره بدأت عملية إعادة تأهيل الدبلوماسية المصرية علي قواعد التطبيع وقبول التعامل مع الدولة الصهيونية. وانتقلت الوزارة من مراحل التحفظ إلي مرحلة الحماس.. ساندت التطبيع، وضغطت علي الفلسطينيين وأضفت الشرعية علي احتلال العراق وحكومته، ومكنت وزير خارجية العراق المحتل من مقعد العراق في جامعة عمرو موسي!! هذا قلل من رصيد عمرو موسي بين قوي وطنية وسياسية عديدة، لكن حضوره لم يضعف بين العامة، فما زالت تصريحاته في ذاكرتهم، وجاءت أغنية شعبان عبد الرحيم بحب عمرو موسي وأكره إسرائيل ، لتؤكد هذا الحضور وتحافظ عليه. وسارت وزارة الخارجية المصرية، في عصره في تناغم مع التنازلات التي نفذتها الحكومة، من ضمان تدفق النفط المصري بأرخص الأسعار، إلي الموانئ الصهيونية.. إلي تدريب خبراء الزراعة وفنيي وعمال النسيج في مصانعها، ومعاهدات ثقافية وتعليمية، وتبادل تجاري وتصدير واستيراد.. التزمت الوزارة بما جاء في كامب ديفيد، حرفيا، وشارك خبراؤها في لجان تغيير المناهج التعليمية والإعلامية، بما لا يسئ للدولة الصهيونية. واستمرت ملتزمة بأسبقية العلاقة مع الدولة الصهيونية علي العلاقات البينية العربية. أضحي المجهود الدبلوماسي المصري مندمجا بالكامل في المجهود السياسي والعسكري الصهيو أنجلو أمريكي، بعد أن كانت الوزارة قد تخلصت من بقايا المخضرمين، وعندما انتقل عمرو موسي إلي جامعة الدول العربية، بدأت ملامحه تتضح بشكل أكبر، وأثر ذلك علي صورته بين أوساط مؤثرة من عرب المهجر.. تكشفت هذه الملامح بعد فترة وجيزة من شغل المنصب. لأسباب عديدة منها: أنه جاء في مرحلة كان بعض من عرب بريطانيا قد قطع شوطا في تأسيس روابط ل أصدقاء جامعة الدول العربية ، علي غرار روابط أصدقاء الأممالمتحدة ، لدفع العمل العربي المشترك، عن طريق النشاط الأهلي، والتركيز علي قضايا ليست محل خلاف بين العرب، واستثمار مساحة الحرية والإمكانيات الأكاديمية والإعلامية للعرب في الخارج لتغذية روافد العمل العربي المشترك المعطلة وشبه المسدودة، وأذكر الاجتماع الأول، الذي تم في أول زيارة لعمرو موسي كأمين عام لجامعة الدول العربية، إلي لندن، وحديثه عن خططه لإصلاح هيكل الجامعة، وعن اهتماماته الجديدة، في مجالات الإعلام والمرأة والطفولة والعمل الأهلي، أي أن قضايا فلسطين والعراق والطاقة والعمل العربي المشترك ليست محل الاهتمام الرئيسي، ومع ذلك تم تغليب عامل التفاؤل، علي قاعدة لعل وعسي، وخرجنا من الاجتماع، ونحن نمني النفس بأن اهتمام الأمين العام بالعمل الأهلي سوف يساعد في تعويض كثير من جوانب العجز والقصور في أداء الجامعة، ومنظماتها وهيئاتها الرسمية. كانت رابطة أصدقاء الجامعة، في بريطانيا، قد خططت لانجاز مشروعين.. كان الأول عن ندوة دولية عن مخاطر انتشار السلاح النووي، وطلب نزعه من المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، والثاني الانتقال بالروابط، التي تأسست في بريطانيا ومصر واليمن والدانمرك، مع روابط أخري تحت التأسيس، تنتظر استكمال الاجراءات القانونية، في بلدان مثل لبنان، وأندية بدأت بعدد من المندوبين، في بلدان تتهيأ للدخول في طور التكوين، مثل فرنسا وألمانيا وجمهورية التشيك، وكان الهدف هو نقل الروابط من حدود العمل المحلي إلي فضاء العمل الجماعي، بتشكيل اتحاد أو فيدرالية تجمع هذه الروابط، وتوحد جهودها وعملها، في الوطن العربي والمهجر، وبادر الأمين العام السابق، مشكورا، بتقديم مساهمة مالية مناسبة تغطي جزءا من التكلفة، وتقديم تسهيلات عينية لإنجاح مشروع اتحاد الروابط.. علي هيئة تخفيض أسعار الإقامة في فنادق القاهرة، مقر الاجتماع.. وتقديم قاعات الأمانة العامة للاجتماع ولجانه، وتتحمل الروابط نفقات السفر والإقامة المخفضة. ورغم أي ملاحظات يبديها البعض علي أداء عصمت عبد المجيد، فقد كان يشجع العمل الأهلي ويراه طريقا يخفف من وطأة عجز وقصور منظمات العمل الجماعي العربي الرسمي. وبعدما اجتمع ممثلو رابطة بريطانيا بالأمين العام الجديد في لندن، وبدأ مندوبوهم الاتصال بالأمانة العامة للتنسيق، ثم سفر رئيس الرابطة إلي القاهرة، إلا أنه فوجئ بعمرو موسي يفرض شروطا فيها تعسف كبير، أهمها شرط زيادة عدد الروابط إلي عدد معين قبل الحديث في أي شيء، وكأنه هو صاحبها، وأعضاؤها موظفون تابعون له، أو يتقاضون أجرا منه!!.. ونسي، في غمرة شروطه أنه يتحدث إلي متطوعين، يقيمون في الغرب، ومستقلون عنه تماما، وكان لموقفه هذا رد فعل معاكس، ساعد عليه ما كانت تعاني منه الروابط، وتحملها الكثير من النقد والتجريح بسبب مناصرتها لهيئة عربية رسمية غير قادرة علي مناصرة نفسها، وفترت العلاقة مع الأمين العام، وتوقف الاتصال بالأمانة العامة، وبدأت رابطة بريطانيا بمبادرة البحث عن طريق آخر لدعم العمل العربي المشترك بعيدا عن شروط عمرو موسي وأوامره. ونعتقد أن إعادة التعرف علي عمرو موسي كانت ضرورية لكشف زيارته للعراق وطبيعتها، وعلاقة ذلك بانتخابات الرئاسة القادمة في مصر. وهذا ما سوف نتطرق إليه الاسبوع القادم بإذن الله. -------------------------------------------------------------------------------------------- القدس العربي