عم رمضان اختار الشارع بعد أن حصدت «الكوليرا» أسرته.. الكبارى ملجأ «محمود» من البرد.. و«محمد» يعيش على فوارغ الكانزات المشردون في شوارع مصر.. ظاهرة عجزت كل الحكومات المتعاقبة على وضع حل لها، حتى بات مألوفًا أن تشاهدهم يفترشون الأرصفة وتحت الكباري، يلفحهم حر الصيف، ويلسع أجسادهم برد الشتاء القارس، ولا يجدون دعمًا سوى من بعض منظمات المجتمع المدني ومبادرات فردية. وتشهد مصر موجة من الطقس السيئ والبرودة الشديدة، التي أعادت مأساة المشردين إلى الواجهة، خاصة بعد وفاة أكثر من حالة من شدة البرد، ما أدى إلى مصرع سيدة بالمحلة الكبرى بمحافظة الغربية, نتيجة عدم تحملها الصقيع وبرودة الجو، لتلقى حتفها متجمدة من شدة البرودة، وهى نائمة أمام باب رئاسة حي المحلة الكبرى, لتقابل ربها، وهى تقول له: "مت أمام الباب الذي رفض فيه المسئولون نجدتي". وحسب شهود عيان، فقد استغاثت السيدة بالعاملين بديوان حي أول المحلة ولكن أنفاسها كانت أسرع، في ظل عدم جدوى استغاثتها وتجاهلها من الموظفين، لتلفظ أنفاسها الأخيرة أمام باب الديوان. بعدها بأيام، أدت موجة الصقيع إلى وفاة مسن كان يقيم على مقربة من سور استاد نادى ناصر، بمدينة ملوى بالمنيا. فعلى مشارف مدينة ملوى، قرر مسن فى عقده السادس من عمره، الإقامة على أعتاب سور نادى ناصر الرياضي، واعتاد أحد الأهالى على إحضار الطعام له فى مستهل كل صباح لعدة أشهر، وحينما ذهب أحدهم إلى الرجل المسن لإحضار الطعام له، فُوجئ بوفاته متأثرًا بموجة الصقيع التي لم يتحملها جسده المُتهالك بفعل الزمان. وفي جولة ميدانية التقت "المصريون"، بعض هؤلاء الذين لا يجدون مأوى لهم ويفترشون الأرصفة, منهم من رفض التحدث معنا؛ نظرًا لخوفه الشديد منا ظنًا منه أننا سنؤذيه, ومنهم من جلسنا بجواره ولكنه لم يستوعب ما نقوله له من أسئلة مثل "من أنت؟ ومن أين؟ وكيف تنام في الشارع دون غطاء كافٍ؟"، فتكلم بكلام غير مفهوم, ومنهم ما زال يتذكر بعض المواقف التي مرت بحياته ولكن بصعوبة. محمود: «مش عايز حاجة من حد» في شارع الأزهر، يجلس بملابس رثة يبدو عليها أنها ذاقت أتربة الشارع وشبعت منها، وبجواره بعض الأكياس من البلاستيك يحرص عليها وكأنها ثروته التي يخشى أن يفقدها. لم يبدُ عليه الضيق عند اقترابنا منه بل على العكس طلب أن نشاركه طعامه البسيط، والذي كان عبارة عن طبق صغير من الجبن ورغيف من الخبز. بابتسامة لم تفارق ملامحه، أخبرنا "محمود" عن ما تبقي في ذاكرته، قائلًا: "أنا عندي 46 سنة، من محافظة المنوفية، بنام في الشارع تحت الكوبري في أي مكان بس الحمد لله مش محتاج أي حاجة!". محمد يعيش على رزق فوارغ الكانزات أما "محمد" فقد عثرنا عليه أمام مسرح العتبة، إذ يبدو واضحًا على ملامحه أنه مريض نفسي، وإن كان متزنًا في تصرفاته، يجلس على الطريق أمامه العديد من الأغطية "بطانيات" رثة وقديمة، يبدو أنه يحاول بيعها ليرزق منها. يرتدي جلبابًا فقد لونه يعلوه "بلوفر"، ويعتمر على رأسه غطاء صوف، له ذقن سوداء طويلة وتغطي الأتربة شعره ووجه. وعلى الرغم من أن منظره يبعث الخوف اقتربنا منه وتحدثنا إليه، وقال: "أنا محمد من منوف، مش عايز أي حاجة، أنا بنام في جنينة المسرح ومستريح، ولما المطر بتمطر بقعد تحت الكوبري واستخبى منها، أنا بجمع الكانزات وببيعها، ثم يرفض إكمال الحديث ولم يمانع عند تصويره بل نظر إلى الكاميرا بنظرات تائهة". عم رمضان فقد أسرته فلجأ للشارع "عم رمضان".. طاعن في السن، يجلس على الأرض بجوار قسم الموسكي، وبجواره زجاجة مياه معدنية كبيرة، يبدو أن هناك من عطف عليه بها, و"كيس" أسود صغير ربما به بعض الطعام. يعاني من ضعف السمع وهو أمر طبيعي لمن هم في عمره، لم يمانع جلوسنا بجواره ويحتفظ بذاكرة ليست بالسيئة، قال ل"المصريون": "أنا من مواليد سنة 31، يعني عندي 88 سنة من منيا القمح، مراتي وولادي التلاتة ماتوا من الكوليرا، سيبت البلد وجيت هنا سنة 62 من ساعتها، وأنا عايش هنا بنام في الشارع وبالليل بيخدوني العساكر أنام تحت الكوبري في ممر بعيد عن البرد"، كلماته صاحبتها بعض الدموع التى أكدت أنه عانى من ألم الفراق ولوعة الفقد؛ ما جعله يزهد في الدنيا، ويرحب بالشارع كي يكون مأوى له. من جانبه، قال حافظ أبو سعدة، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، إن "ما نشاهده أو نسمع به من موت مواطن بسبب برودة الجو, أو نوم مواطن على الرصيف, سببه تقصير المحافظين أو رؤساء الأحياء, لأنه لابد من الاهتمام بهم، عبر توفير الأكل والأغطية أو توفير خيمة لمن لا يملك سكنًا في الحي التابع له أو في المحافظة, إذ لابد من ظهور الجانب الإنساني خاصة في الأوقات الصعبة". وأضاف ل"المصريون"، أن "وزارة التضامن هي التي تتحمل مسئولية هؤلاء الأشخاص الذين لا يجدون مأوى لهم وينامون على الأرض, ويجب عليها توجيه الجمعيات الخيرية الموجودة في الأحياء للاهتمام بمن لا يملك سكنًا وينام على الأرصفة، وذلك بتوفير مأوى يحميهم، سواء بتقديم "بطانية" أو توفير خيمة لهم، أو أخذهم إلى أماكن مأوى تحميهم من الصقيع الذي قد يؤدي إلى الموت، كما حدث مع السيدة التي رفض المسئولون في محافظة الغربية مساعدتها، ولقيت مصرعها أمام باب المحافظة". من جانبه، أكد اللواء ممدوح شعبان، مدير جمعية الأورمان، أن "أهداف الجمعية هي مساعدة الفئات الأكثر احتياجًا بنسبة 20% بوجه بحري، 80% بوجه قبلي؛ من خلال التعاون مع الجمعيات الإقليمية والأفراد". وأضاف ل"المصريون"، أن "الجمعيات الخيرية كثيرة في مصر وكلها تعمل تحت شعار "حياة كريمة" التى ينادي بها الرئيس عبدالفتاح السيسي، وبعد اجتماع وزيرة التضامن بها في انتظار آليات العمل للمبادرة؛ للبدء في تنفيذها فورًا". ووجه نداءً إلى كل مواطن من خلال "المصريون"، بأن يتصل برقم الجمعية "19455" في حال وجود حالات مماثلة لحالة سيدة الغربية التي توفيت من البرد، لمساعدتهم بالغذاء وتوفير الأغطية، وكذلك إجراء العمليات مثل عمليات القلب والعيون، والأجهزة التعويضية". وفي إطار، مبادرة "حياة كريمة" التي أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى، لتوفير حياة كريمة للمواطنين الأكثر احتياجًا، تجوب فرق إنقاذ شوارع محافظات الجمهورية بأتوبيسات على مدار ال24 ساعة للبحث عن الغائبين والمفقودين والأطفال بلا مأوى والمشردين. وتقوم فرق الإنقاذ بتلقى البلاغات عن طريق الخط الساخن بشكاوى دور الرعاية الاجتماعية على الرقم المختصر 16439، ورقم01095368111.