من الخطأ الكبير والظلم البين، أن يظن صاحب الموهبة أن قيمته في المنصب وأن رفعته في الجاه والسلطان، لأنه بهذا يجهل قدر موهبته التي أعلى بكثير من كل العروش والمناصب وما أروع ما قال فولتير : (لا يضرني أن ليس على رأسي تاج مادام في يدي قلم). كذلك من الخطأ البالغ، أن تمنع أصحاب المواهب عن تنمية مواهبهم والعيش لها، والإخلاص لغايتها، هذا ما يفعله كثير من الحكام حينما يقتنصون العلماء والأدباء، فيولونهم المناصب والمراكز، ويشغلونهم بأمور السياسة والإدارة، حتى تموت مواهبهم ولا يكون لعلمهم أثر وضياء بين الناس. مازلت أتذكر الدكتور (علي الدين هلال) حينما كان يقدم برنامج كلام في السياسة، وكم كان فيه رائعا متميزا، فلما تقلد الوزارة ذبح نفسه، وأهان مقامه، وسمي بوزير الصفر..! بل تسببت الوزارة في القضاء عليه نهائيا كمفكر ومحاضر وما عاد له ذكر أو ضوء.! لقد كان أبو حنيفة من أغزر الناس علمًا، لكنه كان أكثر الناس رفضًا للمناصب، لعلمه أنه لن يجد معها سعادته الحقيقية في تبليغ رسالته كإمام يُعلم الناس ويصلح حياتهم. والعقاد كان يرى نفسه أعلى من أي منصب، وكان يعلن أن المنصب يقلل قيمته ولا يعليها، لأن قيمته في القلم وحده. الشيخ الشعراوي رحمه الله كان من أفطن العلماء الذين عرفوا طريقهم الصحيح، حينما قدم استقالته من وزارة الأوقاف، وأخلص للعلم والدعوة، فنال المكانة الطيبة في قلوب الناس. وأنيس منصور اقتنصه السادات مدة سبع سنوات، ليكون رفيقه ومستشاره، وفي هذه السنوات السبع لم يستطع أنيس أن يخرج للنور كتابًا واحدًا، وهو الذي كان يُخرج في العام الواحد كتابين أو ثلاثة أو أربعة.! ومن العلماء والأدباء من نجح في أن يُسخر وظيفته إن كانت لائقة، في دعم علمه وتحفيز أدبه، فكانت لا تمنعه أن يقرأ ويكتب ويدرس ويتعلم، والذين تتوافق وظائفهم مع مواهبهم أراهم من أسعد الناس حالا وأكثرهم نجاحًا، ولا شيء في أنفسهم أثمن من هذه النعمة العظيمة. تخيل رجلا ملأ الدنيا علما وفقها، ومنح المكتبة الإسلامية جملة من الكتب القيمة التي فاقت الثلاثين كتابًا من أمهات كتب الدين، في مجالات متنوعة، وهو القاضي عياض رحمه الله الذي قال عنه ابن العماد الحنبلي: "كان إمام وقته في شتى العلوم وصنف التصانيف البديعة، عديم النظير، حسنة من حسنات الأيام شديد التعصب للسنة" وقيل عنه: "إن مقامه في مقام البخاري ومسلم والأئمة الأربعة" كان يتقلد مناصب القضاء ولكنه كان يعشق التدريس وتلقين العلم لطلابه في المساجد ومجالس العلم ومدارسه، وبلغت كتبه رضي الله عنه أكثر من 30 كتابا هي التراث الباقي منه، والناطق بعلمه، وبعضها مفقود، ولكن لابد أن تعلم أن هذه الكتب الفريدة النافعة ما ألفها إلا في الفترة التي كانت بين إعفائه من قضاء غرناطة ببلاد الأندلس سنة (532)ه، وبين إعادته إلى قضاء سبتة سنة (539)ه، حيث استمر فراغه من مهمة القضاء مدة سبع سنوات، حدث فيها هذا الخير العظيم وتفتق فيها عن هذا الابداع الكبير.. وهو رضي الله عنه قد عرف ذلك من نفسه وشعر به، ففي كتابه الاكمال، يذكر أن محنة القضاء التي أثقلت كاهله وشغلت باله، ومنعته من تحقيق رغبة تلاميذه أن يؤلف لهم هذا الكتاب، فهو يقول: " إلى أن من الله تعالى بإحسانه بحل تلك القلادة وزوالها، وفرغ البال، من عُهدها القادحة وأشغالها، فتوجه الأمر وانقطع العذر وانبعثت همة العبد الفقير بمعونة مولاه وتوفيقه إلى الإجابة، راغبة لمولاها جل اسمه في المعونة وتوخي الإصابة" كان رحمه الله يعتبر القضاء محنة ومسؤولية كبيرة ألقيت على كاهله، وكان يختلس بينها الأوقات الفارغة التي يستطيع فيها أن يؤلف كتاب العظيم (الشفا). وحينما يتأمل الإنسان لهؤلاء الأعلام الذين استهوتهم المناصب، فإنه يراهم قد أضروا بعلمهم كثيرا، فرجل كال الشيخ الباقوري رحمه الله تعلق بالمناصب منذ باكر عهده مع انقلاب يوليو (51) وصاحب رجاله، حتى لفظه عبد الناصر، ولم يقدر له مكانة ولا صداقة ولا قربا.. لمجرد هفوة عارضة لم يكن للرجل أي ذنب فيها.. ولم يتبق للباقوري إلا تلك الأحاديث التلفازية المرئية التي سجلها وتذاع بين الحين والحين.. لتظل العمل الباقي والاثر الخالد الذي تبقى من حياته. من الجيد أن يجاهد العالم ويناضل من أجل أمته ونفع بلاده، والسعي لمصالح المسلمين، لكن اللبيب الرشيد هو الذي يترك لنفسه أثرًا يُدر عليه كل يوم من الثواب الجزيل والأجر المثمر، كلما ذكره ذاكر، أو قرأ له قارئ، أو تصفح فكره متصحف. ولا يشترط أن يكون هذا الذكر في كتاب أو فكر، ربما يكون في عادة أو سنة أو قانون أو تقليد أو حركة أو جماعة خلفها من بعده، تقوم برسالة سامية عظيمة بين الناس حتى تقوم الساعة، انظر كيف كان أثر الأئمة جمال الدين ومحمد عبده وحسن البنا، من بعدهم وهم الذين لم يهتموا بالتأليف قدر اهتمامهم بهموم الأمة وبث أفكارهم الإصلاحية. ولا يكفي أن تكون مبدعًا تنفع نفسك بمواهبك، وتمتع من حولك بإبداعك، وإنما لابد أن يمتد نطاق الموهبة لمن بعدك وأن تجتهد أن يمتد أثرك في الحياة. وكم أغبط هؤلاء الذين تصدح أصواتهم الندية كل يوم عبر إذاعة بالقرآن الكريم، يرسلون إلى وجدان الناس آيات الله وهي مغلفة بأصواتهم الندية الشجية.. ما أسعدهم وما أسماهم وما أغزر ما يتحصلون عليه من ثواب عظيم. وحقا كما قيل: يمر الرجل ويبقى الأثر. كما أنه محظوظ ذلك الذي جعل الله أثره في منصبه، حينما يملك اتخاذ قرار ناجح يسعد البلاد والعباد، فليست المناصب كلها لهوا أو شرا أو قاتلة للموهبة والابداع.