شعور كبير بالغصة والألم حينما يرحل عالم من علماء الدين المعتبرين المحترمين، الذين يوقرون علمهم فلا يبيعونه بعرض الدنيا الزائف الزائل أو يبتغون به وجه سلطان أو يتزلفون به لحاكم من الحكام.. حزن كثيف ينتاب كل غيورٍ على دينه يحمل همومه ويعيش لقضيته حينما ينقص الإسلام بصوت من أصوات الحق المؤثرة ، التي تهب حياتها للدعوة والدفاع عنها وبعث نور الإسلام في ربوع الدنيا .. ولعل هذا المشاعر كلها ما وجدت أثرها في نفسي حينما أتانا النبأ المفجع قبل عام بوفاة شيخنا وأستاذنا العلامة الدكتور (محمد عمارة) طيب الله ثراه ..والذي افتقدته كثيرا وشعرت في موته أن الدعوة حقا قد تيتمت وسقط رائد من روادها الكبار ومنظر من منظريها الأفذاذ .. مر على رحيل عالمنا الكبير أكثر من عام ومن يومها وقلمي ينازعني أن أكتب عنه وأعبر عما يجيش به وجداني تجاهه .. لكن نفسي من جهة أخرى كانت تتمنع علي.. لأنها تدرك أنني مهما كتبت ومهما أبدعت.. فلن أصور حقيقة الرجل الكبير أو حتى مجرد الحوم حول ملامحها المضيئة..ولكن ما عساي إلا أن أكتب شيئًا صغر أم كثر.. لأثبت وفائي وحبي لشيخي الجليل ..لقد شاءت لي الأقدار أن أقترب من الراحل العظيم، وهو شرف كبير أن يحظى الإنسان بصلة وقرب هذا العالم الكبير والداعية الأصيل ..ولكوني أزهري الدراسة وأمتهن العلم وأمارس الدعوة ..ولكوني أنتمي لشباب الصحوة الإسلامية وجماعاتها الدعوية ،فقد كانت حفاوتي وتقديري به أعظم وأعمق. دنوت من هذا الاسم الفذ الذي كان ملء السمع والبصر ، ويعرفه القاصي والداني ، وتعرفت عليه من قرب وجلست إليه كثيرًا وصحبته في دروسه وحلقاته العلمية، ولزمته بكلية أصول الدين في مجالس علمه بين طلبته ومحبيه ، فما وجدت إلا أبا حنونًا ، ورجلا راقيًا، وخلقًا عاليًا وذوقًا رفيعًا وفكرًا ثاقبًا وعلمًا غزيرًا وقارئًا حكيمًا وأديبًا عظيمًا لا يشق له غبار..لم يكن الدكتور عمارة رحمه الله عالمًا كهؤلاء العلماء التقليديين الحرفيين الذين يخرجهم الأزهر، وإنما كان مفكرا بمعنى الكلمة ، يحمل بين ضلوعه قضية ، ويقدم في حديثه رسالة ، ويبعث بين تأملاته غاية ..استطاع أن يصوغ الفكر ويقدم العلم ويعرض الدعوة في أسلوب أدبي فريد أخاذ، وتناول العلم الذي كان بين أيدينا وتعرفه عقولنا فإذا به يخضعه لعملياتٍ من التحليل والاسنباط ويعيد كشفه مرة أخرى ..ليقدم إلينا شيئا لم نسمعه من قبل ، ونسير معه كالعميان الذين يمتلكون بين أيديهم كنوزا لا يدرون عنها شيئا ..حتى يأتي هو ويكشف عنها الغبار ويرينا بريقها الخافي.. امتلك رحمه الله صوتا قاهرا جذابا جعل كل من سمعه أو تلمس مخارجه أن يقف عنده منصتا مأخوذًا في دهشة وجلال، هذا الصوت الندي الذي امتذج بأدب البيان فأخرج صورة أسرت لب السامعين فطرقت مشاعرهم وأيقظت وجدانهم..! ولعلي هنا لا أبالغ إن قلت: إن إذاعة القرآن الكريم في مصر والمملكة العربية السعودية تعد محظوظة لأنها تملك أرشيفًا ضخمًا لهذا المفكر الكبير والأديب الفريد صاحب الصوت العذب والأسلوب الرشيق المؤثر، الذي كان من أوائل من عرض الدعوة بأسلوب أدبي وبيان ندي ،فكان له تميزه وإشراقه وإطلالته التي رفعته عن غيره من العلماء الكبار ..وحينما بدأت أحاديثه تنساب في إذاعة القرآن الكريم بمصر بدأ الناس يعرفونه وبدأ عشاق الإذاعة ينتظرونه ويحرصون على متابعته والانصات لهذه الموهبة المتألقة التي يحملها لهم هذا الأثير.. حتى أن بعضهم ذكره يومًا أمام أديب الأزهر الأكبر وشاعره الضخم الدكتور (حسن جاد حسن) رحمه الله فرد قائلا : إنني أعرفه وأتابعه وأستمع إليه في الإذاعة.. إنه ليذكرني بالأدباء الكبار ..يذكرني بالرافعي وطه حسين..! رحم الله شيخنا الجليل فمازلت أتذكر هذا التكريم الكبير الذي كان يمنحني إياه ويخصني به حينما كان يتصل بي ويطلب مني أن أبحث له في شيء معين من قضايا العلم لأنه يكتب فيه مقالا أو يعد فيه بحثا ..أو كتابا نادرا لا يتوفر لديه ويريد مطالعته ..كنت أرى هذا تقديرا كبيرا وثقة غالية ، ولابد أن أكون على قدرها فآتيه بما طلبه مني.. كما كنت أسبق الناس حصولا على الطبعات الأولى من كتبه، ومن أوائل من يقرأها لأناقشه فيها وأنعم بحواره وأستزيد من معين علمه .. لقد كان تأثري كبيرًا به رحمه الله في العلم والفهم والقراءة والتعامل مع النصوص والطريقة في الكتابة.. وأذكر أن أول كتاب ألفته كان تحت عنوان (الرفق واللين طريق الداعين إلى قلوب الغافلين) كان بنفس الطريقة التي يصيغ بها الراحل كتبه ومؤلفاته في الدعوة، حتى أن أحدهم تصفحه يومًا وقال لي: إن فيه قبس من روح الدكتور عمارة رحمه الله..! ولعل هذا هو حال كل من تتلمذ على يديه رحمه الله حيث يتجاوز التلميذ مرحلة التلقي على يديه، لينتقل بسرعة إلى مرحلة التقليد والمحاكاة والرغبة الملحة التي تدفع النفس إليها دفعًا لتقليده في طريقته وأسلوبه .. ولكن أنى للمقلدين وهيهات للمحاكين ..فقد كان الراحل ألمعيًا عبقريًا في كل شيء.. في حديثه وصوته وتصانيفه وصياغته وأدبه وعناوينه وتأمله للنصوص ورؤيته لما وراء السطور..! عاصر رحمه الله موجة التطرف والإرهاب التي ضربت مصر فملأت ساحة الدعوة بالشباب المتشدد والعناصر التي بدلت منهج الدعوة وكفرت المجتمع وحملت السلاح على الأبرياء وعنفت الأمة في الأمر والنهي ..!فما كان منه إلا أن قام بدوره الكبير في التصدي لهذا الانحراف الذي ضر بالإسلام وشوه طريقه ولم يقدم له مكانة أو يحرز له نصرًا ..فأخرج رسائله القوية التي ترفض هذا المنهج وترد أصحابه لجادة الحق والصواب وتطالبهم بالكف عن أفكارهم التي تخالف الاسلام وتؤذي دعوته، فألف كتابه القيم (من الذي يغير المنكر وكيف؟) ثم أتبعه بكتابه (من أجل حوار لا يفسد للود قضية) وثالث سماه (نحو أسلوب أمثل للدعوة إلى الله). وربما يظن بعض الناس أن (محمود عمارة) كان عدوا للتيار الاسلامي وجماعاته الدعوية أو أنه كان أداة للسلطة في ضرب هذا التوجه.. وأبدا ما كان هذا ولا ذاك.. ومن يدعي ذلك جاهل بقدر الرجل مفتر على مواقفه وتاريخه بدعوى لا سناد لها ..فلقد كان رحمه الله تلميذا لشيوخ هذا التيار ومحبا لرموزه وأكثر الناس تقديرا لمكانتهم ودورهم في سبيل الله ..لكن الاشكال كله أن جل انزعاجه ورفضه وحربه كانت على أولائك الشبان المتشددون المتنطعون الذين ينتسبون لهذه الجماعات حين أخذهم الحماسة فنفروا الناس من دينهم وأهالوا التراب على أئمة وعلماء لهم في خدمة الدين سبق عظيم وبلاء كبير ..! كان رحمه الله يعشق تفسير الظلال للشهيد سيد قطب ويقول أمامي: (إن مؤلفه عظيم وشهيد وتفسيره أكثر التفاسير تأثيرًا في نفسي) وكان رحمه الله في المحنة الأخيرة التي ضربت التيار الاسلامي بعد ثورة 25 يناير مناصرا مؤيدا مصوتًا للحق وأهله، ولم يمنعه مانع أن يعلن رأيه أو يخفي توجهه ..وهو ختام من الله عظيم لهذا الرجل المخلص في الوقت الذي ضل فيه أئمة كبار ومعممون مشهورون..! كان رحمه الله يؤمن إيمانا قوية بالكلمة وأثرها في الهداية والتوجيه والتأثير ونفعها للإسلام تماما كنفع المجاهدين الذين يحملون السلاح ويواجهون أعداءه ويوسعون رقعته حيث يقول : (إن داعية ما قد يلقي عليك محاضرة ممتعة عن فضائل الجهاد فتسمع..بل تستمع ..بل تستمتع ثم تشرع قلمك أو لسانك لتكتب ما أفدت منه من صور البيان وروعة الأسلوب ، ولكن داعية آخر يحملك بحرارته وحسن سيرته ..ونقاء سريرته علي أن تبحث عن السلاح لتنطلق إلي ساحة المعركة حاملا روحك علي كفيك.. إن الداعية الاول والداعية الثاني شركاء في أصل الإيمان ..لكنهما يختلفان في طريقة الدعوة فواحد يعتمد علي بيانه وآخر يعتمد علي عمله.) كما كان يؤكد دومًا على مسؤولية الدعاة والعبء الملقى على أكتافهم وما يجب أن يكونوا عليه بما يليق من أمانة الدعوة والعلم فيقول : (ما أكثر الدعاة الذين ينزلون ساحة المعركة اليوم ...غير مسلحين بما يجب عليهم من الحكمة والفطنة ..فكانوا عبئا عليها بما مكنوا الماكرين الأذكياء منهم ..ولقد خدع بهم الدهماء خداعا يتحمل وزره الأدعياء.) وإذا أردنا الاقتراب أكثر وأكثر من شخصية الراحل الكبير دكتور محمود عمارة والتعرف على هواه ومنهاجه.. ما علينا إلا أن نتعرف على شيوخه ونسأله عنهم ..فقد كان أحبهم إلى قلبه وأقربهم إليه هو المجاهد الكبير فضيلة الشيخ (محمد الغزالي) رحمه الله ،والذي كان عمارة يعتز لأخر رمق في حياته بتلمذته على يديه ويعبر في كل مناسبة بيده عليه وحبه له وأثره فيه..وأذكر أنه قال لي يومًا : كنا ونحن طلاب إذا سمعنا أن الشيخ الغزالي سيلقي في محاضرة في بلد من البلدان أو محافظة من المحافظات البعيدة نشد إليه الرحال، ونتجشم عناء السفر البعيد حتى نحظى بسماعة والإنصات إليه ..كما حدثني يومًا عن سعادته بثقة الشيخ الغزالي العلمية فيه فقال لي : كنا نعمل معًا في جامعة أم القرى بمكة المكرمة وكان الشيخ الغزالي يؤلف الكتاب ثم يعطيني إيه ويقول لي: أريد ملاحظاتك عليه، فكنت أقرأ وأجد أشياء ربما تجلب بعض الضرر أو الحديث عن شيء يجب اجتنابه، أو تثير مشكلة ربماتكون الدعوة في غنى عنها.. فأتصل به وأقول له: يا مولانا أرى أن النقطة الفلانية قد تأتي بكذا و هذه قد تثير كذا ..فما كان منه إلا أن يقول لي: يا محمود احذف احذف ..كما أخبرني أيضا بقوله: حينما أسند إلي مجمع البحوث الاسلامية (هيئة كبار العلماء) مراجعة المواد العلمية لبعض المنتجات الفنية وشرائط الكاسيت للدعاة والمحاضرين الدينيين ، كنت وعلى الفور لا أعترف بأي مادة علمية و ألغي أي صوت ينتقد الشيخ الغزالي أو يسيء إليه.. أما المرة الوحيدة التي رأيت شيخنا وقد بلغ به الفرح مبلغه.. وذلك حينما أهديته كتاب الدكتور يوسف القرضاوي الذ ألفه عن الشيخ الغزالي تحت عنوان (الشيخ الغزالي كما عرفته رحلة نصف قرن) وأقسم بالله أنني ما زلت أتذكره في هيئته وصورته وهو في قمة فرحه وهيامه بهذا السفر الرائع عن شيخه وأستاذه، والذي لم تقع عليه عينه من قبل فكان يحمل الكتاب في رقة وحنان تماما كما تحم الأم رضيعها الصغير في حنان وإشفاق وعطف كبير ...رأيته بهذا الإشراق وكنت حريصا على ترقب ملاحه ، فما وجدته إلا وقد غاب عنا بفكره وشرد بخياله موغلا في صفحات الكتاب ، ثم استأذن منا حتى ينفرد به ويعيش مع سطوره ...أما أنا.. فكنت أرى نفسي قد صنعت شيئًا عظيمًا حينما أدخلت السرور على قلبه وأتيته بما تهواه نفسه ويعشقه هواه. لقد كان رحمه الله في أواخر حياته يسابق الزمن في عمله الدعوي، كان يدرك أن النهاية قد قربت، وأن الطريق قد أوشك على الخلاص .. فكان يجتهد في خدمة الدعوة في كل مكان وبكل لون فيسارع لبث الاحاديث الإذاعية ويلبي الدعوة للمحاضرات والخطب الدينية ، ويعكف على إنجاز كتبه ونشر ما لديه من أضابير العلم والفكر التي سجلها منذ شبابه ، ثم يواصل القراءة المتأنية العميقة بالساعات الطوال. كان يريد ويتمنى أن يترك شيئا ينفع الناس ويكون ذخرا له عند الله سبحانه ..ولعلنا نشعر بهذا حينما نقرأ ما كتبه يومًا وقال فيه: )هذه الحياة كتاب ضخم.... لم يقرأ الطفل منه الا سطراً واحداً..أو هي رحلة طولها ألف ميل ..لم يمش منها إلا خطوة واحدة ...فلا بد من العمل ..) كنت أراه رحمه الله يمشي في الشارع ويحمل بين يديه أوراق كتبه و مقالاته قاصدا مكتب التصوير، فكان ما أبهاه وما أجمله وما أجله ..كنت أتمثله نبيا يمشي على الأرض، ولو أدرك الناس قيمته كما ينبغي لحملوه على هاماتهم فلا يقترب من الثرى، بل لبادروا بتقبيل قديمه قبل يديه .. ! وها هو يرحل عن دنيانا ولا يترك من يسد فراغه أو يتناول تناوله ويكون صورة أخرى مثله ..تماما كما رحل شيخه الغزالي ولم يترك شبيها له في قوته وعلمه وغيرته على الحق ...! ولعلنا نجد لأنفسنا عزاء حينما نقول : أن الدكتور (محمود عمارة) لم يمت وأنه موجود بيننا بعلمه وتراثه وصوته وكتبه القوية النافعة،التي طلعت على طلاب العلم فشغلتهم وأفادتهم وأثرت فيهم بما حوت من رؤية جديدة واستنباط فريد..لقد كان الشيخ رحمه الله مدركًا لعلل الدعوة بقوة والأخطار التي تواجهها من داخلها قبل خارجها وكثيرا ما أشار إليها ولفت لضررها ونوه بآثارها السلبية المجحفة ، وكانت كل كتبه تحمل هذه الهموم وتشير إليها وتعالجها تواجه منابعها بعيدا عن العنف والتوبيخ والتجريح ، مؤمنا بالحوار كأبلغ أسلوب يعرض الداعية من خلاله مقصده ويبين غايته ..وهو ما جعل كثير من الشيخ المشهورين يوصون بكتبه لتلاميذهم حتى يبصرونهم بعلل الطريق ولا ينجرفون إلى سبل تضر دعوتهم ودينهم.. وبعد هذه الرحلة الطويلة مازال هناك بعض الكتب لم تر النور للراحل الكبير مخطوطة بخط يده..منها تفسير دعوي كامل للقرآن الكريم ، وكتاب قوي التأثير تحت عنوان ( من مواقف العلماء والأمراء) نسأل الله أن يتم طباعتها ونشرها حتى نتم رسالة الرجل ونوصل آخر قطرات من فكره وعلمه إلى تلامذته ومحبيه في كل مكان... رحم الله شيخنا الدكتور وقدس روحه ونور ضريحه ونفع بعلمه وأمد ثوابه...