في قريتي (سنجرج-مركز منوف - محافظة المنوفية) كانت نشأتي التي عرفت فيها طريقي إلى المسجد يوم الجمعة، حيث كنت أشاهد رجلاً يقف على سلالم خشبية عالية ويقول للناس كلامًا لا أفهمه ..! كل ما أذكره فقط.. أن والدي رحمه الله كان في غاية الضيق لكثير من أخطاء الرجل التي يأتي بها فيما يسمونه خطبة الجمعة.. ومن يومها انطبع في ذهني أن هذا الرجل الذي يعتلي هذا المكان العالي له أخطاء.. وينتقده والدي فيما أصاب من هفوات العلم واللغة..ولما كبرت أدركت أبعاد المشكلة وهي أن المشايخ الكرام لا يقرؤون ولا يثقفون أنفسهم وأنهم أبعد ما يكونون عن العلم الحقيقي الذي ينفع الناس ويُثري عقولهم ويقوم أفهامهم فأحدهم ينشغل بتجارته أو حقله أو محله أو أي مصلحة دنيوية تدر عليه مالاً وتساعده في أمور الحياة ، بينما يقتضي صعوده للمنبر أن يتفرغ للقراءة ويُعنى بالبحث ويهتم بالعلم..! وفي أيام رمضان حيث الدروس المتتابعة لا يلقن الشيخ من حوله من الناس إلا أحكام الفقه ويمر الشهر وهو لم يفرغ بعد من الوضوء وأحكامه .. حتى يريح رأسه وباله من القراءة والتحضير وحجته في ذلك قوية فالناس لابد لهم من معرفة الفقه لأنه الطريق للعبادة وبدونه لا تقوم..أما أن يحدثهم فيما يقوم حياتهم وسلوكهم فإنه كان يفر من ذلك فرار السليم من الأجرب. إن أغلب المشايخ جاؤوا في المكان الخطأ .. فهم يعتبرون أنفسهم مجرد موظفين وأن صعودهم للمنبر مهنة كأي مهنة ، ولم يخطر ببالهم يوما أن تكون رسالة يؤدونها أو دعوة يبلغونها للناس من رب العالمين..! ولعل هؤلاء الشيوخ يخجلون من أنفسهم.. ولعلنا نحن ندرك الفارق الرهيب إذا ما قارنا حالهم بحال العلماء السابقين من جهابذة الأمة الذين وصل حالهم في القراءة إلى درجة العشق والإدمان .. لقد كانت القراءة لدى علماء السلف هي متعة حياتهم ولذة عيشهم..لا يستطيعون أن يمر يوم من أيامهم دون القراءة والمطالعة ، فأزمانهم أغلبها بين الكتب، يقرؤون ويستفيدون ويعتبرون ويستمتعون وينهلون من فيض معارفها ، ووافر كنوزها.. قال (ابن أبي حاتم) رحمه الله : (كنت أقرأ على أبي وهو يقرأ وهو يكتب وهو يمشي وهو يركب وهو في بيت الخلاء ) وكان (الخطيب البغدادي) لا يمشي في طريق إلا وفي يده جزء يطالعه ، وكذلك كان النووي أيضاً.. وكان الإمام (ثعلب) أحد أئمة النحو والأدب، إذا دعاه رجل إلي وليمة يشترط على صاحب الوليمة أن يجعل له فراغاً لوضع كتاب ليقرأ فيه.. وكان سبب موته أنه خرج يوم الجمعة بعد العصر من المسجد، وكان في يده كتاب يقرأه، فجاءت فرس فصدمته فسقط في هوة فأُخرج وهو يتأوه ويصيح ومات اليوم الثاني..! وأما (الفتح بن خاقان) فإنه كان يحمل الكتاب في كمه أو في خفه ، فإذا قام من بين يدي المتوكل للبول أو الصلاة ، أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي ، حتى يبلغ الموضوع الذي يريده ، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه ، إلي أن يأخذ مجلسه ، فإذا أراد المتوكل القيام لحاجة ، أخرج الكتاب من كمه أو خفه ، وقرأه في مجلس المتوكل إلي حين عوده .! وغير ذلك كثير من الأنباء أفردت لها فصلا في كتابي (اقرأ ..رسالة الوحي الأولى) إن الشيخ الغزالي رحمه الله لما عين إماما وخطيبا في جامع عمرو بن العاص كان يقول لقد نفدت بضاعتي وعرضت على الناس كل ما في جعبتي فبدأت أقرأ لآتيهم بالجديد فقرأت في العلوم العصرية وحدثتهم عن نظرية أينشتين وداروين ..ولإدراك الشيخ الغزالي بقيمة القراءة للداعية أو بمعنى آخر حتمية وضرورة القرءة للداعية كان يقول : ( للقراءة أهمية خاصة لكل من يدعو إلى الله؛ بل هي الخلفية القوية التي يجب أن تكون وراء تفكير الفقيه والداعية ، وضحالة القراءة أو نضوب الثقافة تهمة خطيرة للمتحدثين في شؤون الدين؛ وإذا صحت تزيل الثقة منهم.. إنّ القراءة أي الثقافة هي الشيء الوحيد الذي يعطي فكرة صحيحة عن العالم وأوضاعه وشؤونه، وهي التي تضع حدوداً صحيحة لشتى المفاهيم؛ وكثيراً ما يكون قصور الدعاة راجعاً إلى فقرهم الثقافي..والفقر الثقافي للعالم الديني أشد خطورة من فقر الدم عند المريض وضعاف الأجسام..ولذلك لا بد للداعية إلى الله أن يقرأ في كل شيء، يقرأ كتب الإيمان ويقرأ الإلحاد، يقرأ في كتب السنة، كما يقرأ في الفلسفة..وباختصار يقرأ في كل منازع الفكر البشري المتفاوتة؛ ليعرف الحياة والمؤثرات في جوانبها المتعددة.) ولقد سبق قديمًا أن ندد شيخنا (يوسف القرضاوي) بنفس الدعوة في مقال له بمجلة (منبر الإسلام) تحت عنوان ( يا أصحاب الفضيلة اقرؤوا) طالبهم في بالقراءة حين لاحظ ضعفهم الثقافي وإعراضهم عنها واكتفوا بالحصول على شهادة العالمية التي ظنوا أنهم معها قد سقط عنهم التكليف..وهو التصور الذي يخالف حال السلف الصالح يوما من الأيام الذي أثر عنهم اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد وكان بعضهم وهو في مرض الموت يأمر تلاميذه أن يقرأوا عليه حتى يأتيه الموت وهو يطلب العلم ..ويبين القرضاوي أن أولى الناس بالقراءة وتعميق الثقافة هم المشايخ الذين يتصدرون لتوجيه الناس وخصوصا الدعاة وخطباء المساجد الذين يواجهون الناس كل أسبوع ولابد أن يكون لديهم شيئا يقولوه ويعرضونه على الناس ..ومن فرط اهتمام شيخنا القرضاوي بهذا الموضوع وتأكيده عليه أفرد له مؤلفا قويا مؤثرا سماه (ثقافة الداعية) إن عدم اهتمام المشايخ بالقراءة والثقافة من أكبر الكوارث التي تواجهها هذه الأمة بل من أكبر الأزمات التي جعلت أمتنا في موقف حرج لأن القراءة تعني الثقافة والثقافة تعني الوعي والوعي يعني النهوض ..وحينما لا يقرأ المشايخ فإنهم يفقدون الوعي وإذا كان الذين من المفترض أنهم يوعون الناس ويعلمونهم ويوجهونهم يفتقدون للثقافة الخالصة، فيكيف إذن تكون النتيجة ؟! لاشك أنه الجهل والغباء والسذاجة تملأ حياة الناس وتهيمن على عقولهم..