قَطْرَةٌ من تِرياق في وسطِ الغُلوّ والتطرّفِ الضَّاربِ في شتَّى بقاعِ عالمِنا .. وفي ظلِّ دعواتِ التجديد في الفكر الإسلاميّ وغربلةِ كتبِ التراث و أمهاتِ الكتب الإسلامية سواء مِنْ هذهِ الدعوات ما حَسُنَتْ نيَّةُ أصحابِها وما خَبُثَتْ، أجدُنِي أتذكَّرُ بكلِّ الإجلال هذا العالِمَ الجليل و المفكَّرَ الفذَّ والداعيةَ الأريب الشيخ محمَّد الغزاليّ رحمه الله .. فارسَ الدعوةِ النبيل الذي تشهدُ كتبُهُ التسعةُ والخمسون وكذا محاضراتُه وخطبُهُ ونصائحُهُ الأمينة لأولئك المتصدين للدعوة بوجوبِ إعمالِ العقلِ والتفكيرِ المنطقيِّ المتوازن في تفسير النصوص .. هذا المنهج الذي يتسقُ مع مُرادِ اللهِ في تيسيرِ الحياةِ على الناس ، والتقريبِ بينهم وجعلِهم أمَّةً واحدة حتى يتفرغوا لما يُهدِّدُ وجودَهُم وحضارتَهُم وثقافتَهُم من أعداء يتربَّصُون بِهِمُ الدَّوائر ، وألَّا يكونوا معاولَ هدمٍ لهذا لبناءِ الشَّامخ الذي بذل الأولون كلَّ نفيسٍ من أجلِ إعلائِه .. كانت نصائحُ الشيخ لحكَّامِ الأمَّة ألَّا يكونوا دُمى في أيدي الغرب وألا يكونَ بأسُهم بينهم .. لكنَّ الشيخ كان كمن يُسْمِعُ مَنْ في القبور !! وما يستوي الأحياء ولا الأموات !! تعرَّضَ الشيخُ جرَّاءَ أفكارِهِ التجديدية ومنهجِهِ البصير إلى كثيرٍ من الهجوم والاتهام بخصامه لِلسُّنَّة خصوصاً مِنْ قِبَلِ مَنْ يتمسكون بظاهرِ النصوص ويدَّعُونَ أنهم سلفيون ، كما أحدثَ كتابُهُ : السُّنَّةُ النبوية بين أهلِ الفقهِ و أهلِ الحديث ضجَّةً عارمة وسبَّبَ له سيلاً من الانتقادات خاصة من أصحابِ الفقهِ البدويّ كما سماهُمُ الشيخ .. اختار الشيخ أن يُعْرِضَ عمَّنْ شتمه وسبّه وتفرغ لإنارة طريق الدعوة وكان دائما يردِّد : قالوا الإلهُ ذو ولد ! قالوا الرَّسولُ قدْ كَهَنَا ! ما نجا اللهُ والرسولُ معاً مِنْ لِسانِ الورَى فكيفَ أنا ! لا يغيبُ عن ذاكرتي ذلكُمُ المشهدُ الرُّوحانيُّ الرَّائع حين كنا ننطلقُ وسط مئاتِ الألوف نحو ميدان مصطفى محمود بالمهندسين لأداء صلاة العيد خلف الشيخ والاستماعِ الى خطبه الضَّافيةِ الوافية وقد كان رقيقاً أسيفاً يقرأ القرآنَ فيختلط صوتُهُ بالدموع فيهتزُّ وجدانُ مأموميه .. اشتهر الشيخ الغزالى بلقبِ أديب الدعوة لروعةِ أسلوبه وبلاغةِ طرحِهِ ورصينِ لغتِه .. وكان يعلنُ دائماً أنَّ غايتَهُ تنقيةُ السُّنَّةِ مما قدْ يشوبُها ، وحمايةُ الثقافةِ الإسلامية من ناسٍ قِيلَ فيهم: إنهم يطلبونَ العلم يومَ السبت،ويدرسُونَهُ يومَ الأحد، ويعملون أساتذةً له يومَ الاثنين، أما يومُ الثلاثاء فيطاولونَ الأئمةَ الكِبار ويقولون: نحن رجال وهم رجال !! وهكذا بين عشيةٍ وضحاها يقعُ زمامُ المسلمين الثقافيّ بين أدعياء ينظرُ اليهم أولو الألبابِ باستنكارٍ ودهشة ... هذا الذي ذكره الشيخُ الغزاليُّ يجعلني أتساءل وماذا لو رأى الشيخ أدعياءَ التجديدِ في زماننا وما يهْرِفُ به الرُّوَيْبِضِيُّون ؟ توفي الشيخ رحمه الله في التاسع من مارس عام 1996على أثر أزمةٍ قلبيةٍ فاجأتْهُ وهو يلقي محاضرةً عن الإسلامِ والغرب في المهرجان الوطني للتراث والثقافة بالجنادرية بالرياض في المملكة العربية السعودية .. وقد كنتُ أحدَ المسؤولين عن التغطيةِ الإعلاميةِ للمهرجان .. مات الشيخ وهو في قلبِ المعركة يصارعُ الأمواج ويواجهُ العواصفَ التي هبَّتْ على سفينةِ الإسلام .. وقد منَّ اللهُ عليه بحسن الخاتمة ودُفِنَ بالبقيع بمدينةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانتْ تلكَ أمنيتَهُ التي صرَّحَ بها في غيرِ مَرَّةٍ إلى المقربين منه .. وقد تعجَّبَ القائمون على الدفن حينَ لم يجدوا موضعاً ليناً لحفرِ القبر إلا بينَ قبرَيْ نافع مولى عبدِ الله بن عمر ومالكِ بنِ أنسٍ رضي الله عنهم .. فَدُفِنَ بينهما ... رحم الله شيخَنَا وثقَّلَ ميزانَهُ بما قدَّمَ للإسلامِ والمسلمين فقدْ كانَ بحقٍ مصباحاً من مصابيحِ الهُدَى تنجَلِي بهم كلُّ فتنةٍ ظَلْمَاء .. من العدد الأسبوعي من العدد الأسبوعي [email protected]