مرت منذ أيام ذكرى مرور عشرة أعوام على رحيل العالم الجليل فضيلة الشيخ محمد الغزالي حيث شاركت في احتفالية عُقدت بهذا الشأن في نقابة الصحافيين ، وحينما كنت اسمع الدكتور محمد عماره والأستاذ فهمي هويدي يتحدثان عن ذكرياتهما عن هذا العالم الجليل تذكرت كثير من المواقف التي أثرت في جيلنا وفي كاتب هذه السطور شخصيا والتي تمتد لما يقرب من ثلاثين عاما مضت ، حيث كنا ندعوه في لقاءات ومحاضرات لدينا في مدينة المنيا بصعيد مصر وكان لي شرف اصطحاب الشيخ من القاهرة إلى مدينة المنيا والعودة معه لتوصيله في كثير من هذه المرات ، وكم كانت أفكار الشيخ صادمة لكثير منا في ذلك الوقت حين كان التَّشدد في الفقه والأحكام هو سيد الموقف ، وكيف ساهم العلاًّمة الجليل في تطور أفكارنا نحو الاعتدال والوسطية وكيف ساهم في صياغة العقل المسلم بطريقة عميقة ومنظمة وفق أولويات تحتاجها الأمة وليس وفق قضايا فرعية تلي في الترتيب كثير من القضايا الهامة ، ومن هذه المواقف كنا كثيرا ما نسأل كل العلماء والدعاة الكبار اللذين زارونا في الجامعة والمدينة (المنيا) عن نفس الموضوعات ما حكم إطلاق اللحية ؟ وما حكم سماع الأغاني والموسيقى ؟ وما حكم النقاب ولبس الحجاب ؟ ...الخ ، وكنا نحكم نحن الشباب الصغير على هؤلاء العلماء من خلال إجاباتهم فإذا كانت إجابات الشيخ متشددة وفق معيارنا نحن – قليلي العلم – في ذلك الوقت كان العالم أو الشيخ عظيما وإذا أجاب العالم أو الشيخ بإجابات مختلفة عن التي في أذهاننا كنا نغضب منه ونقلل من أهميته لدينا وكان الشيخ ثاقب النظر وكان لايجامل أحدا في الحق ، ولكنه أيضا كان رحيما بنا ، وأذكر في ذات مرة ونحن نصحبه إلي محطة السكة الحديد بمدينة المنيا سيرا على الأقدام في مجموعة من الشباب وكان ذلك في أواخر السبعينيات في الصباح الباكر وكان من ضمن هذه المجموعة الأخ المهندس / محي الدين عيسى وكان هو رمز هذه المجموعة في هذه الفترة فسأله الشيخ أسئلة ذات دلالة ، منها من أين تأتى (بشنبر) النظارة التي تلبسها ، فأجاب من إيطاليا ، ثم سأله عن الدراجة التي كان يجرها معه أثناء السير ومن أين تأتي هذه الدراجة ؟ فأجاب من الهند ، ثم سأله عن قماش القميص والبنطلون الذي يرتديهما ؟ فأجاب عن اسم البلد الذي استورد منها ، فقال الشيخ نحن أمة تعيش عالة على الأمم ولانصنع شيئا يذكر فهذا نموذج من رمز إسلامي كل ما يلبسه ويستعمله رغم بساطته قادم من أماكن أخرى غير بلاد العرب والمسلمين ، ثم استطرد الشيخ ما هو أولى هل القضايا الفرعية التي تثيرونها أم مشروع استنهاض لهذه الأمة يعيدها إلى مضمار الحضارة التي كانت ، فتعود نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع ، وكانت هذه الواقعة ذات تأثير بالغ على من كان في صحبة الشيخ في هذا الموقف ومنهم كاتب هذه السطور وذلك فيما يتعلق بأولويات ترتيب العقل المسلم الذي يسعى لأن يكون الإسلام موجه ومؤثر في مجتمعاته التي يعيش فيها ومنتمين ينتسبون إليه توجها صحيحا وإيجابيا ، وتتعدد المواقف التي تأثرت فيها بالشيخ ومن ذلك حينما كنت أصطحبه في القطار من المنيا إلى القاهرة وسألني عن قصة سؤال وُجه إليه عن حكم الخل ؟ فاستغرب الشيخ ما أهمية موضوع الخل هذا ؟ فقلت له أن أحد الشباب المتشدد وجد شابا آخر يأكل بلح يقال له في الصعيد (بلح سمان) يتم (ترقيده)أو وضعه في الخل فترة حتى ينضج ويلين ويصبح صالحا للأكل في شكله الجديد فضرب هذا الشاب المتشدد على يد من يأكل البلح حتى اسقط البلحة من يده وقال هذا حرام لأنه وُضع في الخل ، فحينما سمع الشيخ هذا التصرف غضب وذكر كلاما قاسيا على هؤلاء اللذين يريدون أن ينشغلوا بقضايا فرعية أو تافهة ، وبعدها كان الشيخ في محاضرة في الدوحة عاصمة قطر ففوجئ بشاب يقوم ليسأله عن حكم الخل ؟ وكان في ذلك الوقت لم يعرف الناس وسائل الاتصال السريع مثل الآن كالفضائيات وشبكة المعلومات الدولية (internet) فغضب الشيخ واستغرب لتكرار نفس السؤال وقال للسائل أجلس يا هذا فلقد سُئلت هذا السؤال من قبل في المنيا في صعيد مصر وها هو ذا يتكرر هنا في "الدوحة" والله إني لأظن أن هذا السؤال قد أُعد في واحدة من العاصمتين إما لندن أو واشنطن وأظنها الثانية ، ثم ذكر هذه الواقعة في أحد كتبه كدليل على أن هناك من أعداء المسلمين من يتربص بهم ويصدر لهم قضايا فرعية تشغلهم عن القضايا الكبرى والكلية كقضايا الاستقلال الحقيقي والثقافي والتحرر من كل أشكال التبعية وكقضايا التنمية والتطور وسد الفجوة التقنية بيننا وبين العالم المتقدم والاعتماد على الذات والتكامل العربي والإسلامي ...الخ ، ومرت الأيام وصدق توقع الشيخ الجليل من أن هناك أعداء لهذه الأمة يتربصون بها ويصدرون لها قضايا فرعية أغلبها تافه تشغلهم بها عن القضايا الكبرى والكلية وذات الأولوية ، لكن عزاؤنا في أن كثير من شباب هذه الصحوة الإسلامية قد تأثر بهذا الكلام من الشيخ الجليل ومن أمثاله وعاد كثير من الرشد للعمل الإسلامي بفضل الله وبفضل جهود علماء مخلصين أمثال الشيخ محمد الغزالي وكثيرة هي الوقائع في هذا المجال لكني ذكرت بعضاً قليلاً منها كمثال. رحمه الله الشيخ الغزالي رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته وجعل كل جهوده في الدعوة إلى الله والتعليم والتثقيف ونصرة الإسلام في ميزان حسناته ..آمين E .mail: [email protected]