قد طال شتاء الأحزان, لا يكاد يمضي يوم إلا وأفقد أخا أو أختا أو صديقا أو عزيزا أو حبيبا.. إن لم يكن بالموت فبالفراق.. وكم من فراق للقلوب أشد وقعا وإيلاما من رحيل الأجساد. ما كدت أجفف الدموع علي الراحلين الذين تتابعوا في العام الأخير.. حتي فقدت بالأمس اعز الأحباب.. الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر.. دامت محبتي وإياه سنوات كان فيها الأخ الأكبر, والصديق الحبيب, الناصح الرفيق, ملأ بأنس صداقته ومحبته حياتي, وأشعرني دوما بأن الدنيا بخير ما بقي فيها أمثاله.. كان رحمه الله علي عكس ما ظن به المتظنون, يقف بالمرصاد وبقوة لا تلين في وجه أي محاولة أيا كان مصدرها للعبث أو التعديل أو التحوير أو التغيير في الأصول والثوابت الدينية.. لا يلين أبدا في الحق الذي يعتقده ويؤمن به, ولكنه كإنسان فياض المحبة والدماثة والرفق واللين والتواضع.. ما أرسلت إليه أحدا مهما صغر شأنه في أعراف الناس, إلا استقبله بنفسه في مكتبه محتفيا به مكرما إياه في تواضع ورفق ودماثة لم أرها إلا في أولياء الله الصالحين. كان يحدثني تليفونيا قبل يوم واحد من وفاته في شأن إحدي القضايا العامة التي يصطنعها من يدعون احتكار الدين, وتطرق الحديث الي رغبته الكريمة في الاطمئنان علي ما أجري لي بشريان القلب الرئيسي يوم2010/2/26 وقيام الخبير الفرنسي جان فاجيديه بتوسيعه ووضع ثلاث دعامات بالشريان معالجة دوائيا.. كان هذا الخبير ذاته هو الذي عالج في مايو2007 شرايين الإمام الأكبر الذي روي لي أنه وضع له يومها أربع دعامات بالشرايين التاجية, وكنت قد عرفت ذلك أنذاك بالصدفة, حين عرضت بذات المستشفي بعده بيومين علي ذات الخبير الفرنسي الذي وضع لي يومها دعامتين بإحدي وصلات الشرايين التاجية. الذي لم أكن أعلمه, وعرفته عرضا في حديثنا التليفوني قبيل وفاته بيوم, أن الدعامات الأربع كلفته(118) ألف جنيه. لم تكن الغرابة في قيمة التكلفة, فمعروف أنها باهظة, ولكن الذي أدهشني أن فضيلة الإمام الأكبر دفع هذا المبلغ من ماله الخاص, وأبي أن يحمله علي ميزانية الأزهر الشريف الذي يتبوأ مشيخته الكبري من سنوات, ويقدم له جليل الخدمات والأعمال. وجدتني وأنا أسمع هذا الحديث أقارن بمن جعلوا العلاج علي نفقة الدولة تجارة يتكسبون بها من المرضي ذوي الحاجة إلي العلاج! لن تدهش إذن علي حزني الدفين لفراق الصديق الحبيب الإمام الأكبر يرحمه الله, بيد أن الخسارة فيه وهي فادحة بكل المقاييس لم تقتصر علي ألمي الشخصي, ولا علي وجيعة وألم وحزن محبيه وهم كثر.. ذلك أن الخسارة العامة في رحيله خسارة فادحة لا تعوض, فمن الصعب أن يملأ بسهولة المكان الذي كان يشغله في خدمة الدعوة الإسلامية بعامة, والأزهر الشريف بخاصة. وأنا شاهد علي ذلك عبر سنوات طويلة, تابعت وشاركت وراقبت رئاسته وإدارته وحواراته وحجته وأدبه وصبره في مجمع البحوث الإسلامية, وزاملته متحدثا في بعض البرامج الدينية علي الهواء, فكان العالم المتضرع المبتهل واسع العلم جم الأدب والتواضع, يلقي بما لديه هينا لينا لا كبر فيه ولا صلافة ولا عجب ولا خيلاء.. تحسبه من العامة من فرط بساطته ولينه وتواضعه. ومع أنه كان شديدا فيما يمس الدين أو الكرامة, إلا أنني لم أره قد يضيق أو يعنف بالرأي الآخر مهما خلط أو شرد أو اشتط, وإنما يعالجه في رفق ولين ومنطق وحجة دون أن يفقد تواضع وأدب العبارة.. لا يجادل أحدا إلا بالحكمة والموعظة الحسنة.. تراه تجسيدا لقول الحق تبارك وتعالي لنبيه المصطفي: ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة. كان رحمه الله يعشق عمله, ويعود من المطار أو من الأسفار البعيدة مباشرة إلي مكتبه ليستأنف أداء واجباته, ومن يتابع خط سير وبرنامج عمل فضيلة الإمام الأكبر الدكتور طنطاوي خلال الأسبوعين الأخيرين, يدرك مدي الجهود الخارقة التي كان يبذلها الفقيد الجليل ولا يتحملها أشد الرجال قوة وشبابا, فالأزمة القلبية التي داهمته بمطار الرياض كانت من آثار ما بذله من جهود مضنية علي مدار أسبوعين. فمنذ22 25 فبراير شارك في حضور مناقشات مؤتمر مقاصد الشريعة الاسلامية وقضايا العصر. ثم ترأس وساهم في جلسات مؤتمر مجمع البحوث الاسلامية منذ27 فبراير2010, ثم في الاحتفال بتكريم الفائزين في مسابقة المولد النبوي الشريف, وأشرف معي شخصيا علي قضية أوكلها إلي ارتأي أنها تمس سواء العمل وإيقاف أي تجرؤ علي محررات الأزهر الشريف وانتظام أدائه, وجعل يرتب في الوقت نفسه لانعقاد مجمع البحوث الاسلامية الذي كان مقررا لانعقاده صباح الخميس3/11 وحالت وفاته دون انعقاده, ولم يغادر إلي المطار يوم سفره إلي السعودية لتوزيع جوائز الملك فيصل لخدمة الاسلام, إلا بعد أن ألقي محاضرته بجامعة الأزهر علي طلبة الدراسات العليا, ثم أنجز بعض الأوراق الادارية قبل أن يتجه إلي المطار ومنه إلي السعودية, حيث أمضي الساعات الشاقة الأخيرة التي سبقت إصابته بالأزمة القلبية التي داهمته وهو في طريقه لصعود الطائرة, ليموت حيث أراد الله تعالي. من آيات رضا ربه, أن تصعد روحه الطاهرة إلي بارئها في الأراضي المقدسة, وأن يدفن هناك في البقيع إلي جوار الصحابة الأبرار الذين أحبهم وناضل من أجل الرد علي أية إساءة توجه إلي أي منهم. في أحد الأيام عام2002, وكنت عاكفا علي إنجاز كتاب عالمية الإسلام, احتجت إلي كتاب السياسة الشرعية لأستاذنا الجليل الشيخ عبدالوهاب خلاف, ولم يكن في مكتبتي, وعجزت تماما عن الحصول علي نسخة منه مع شدة حاجتي إليه, فاتصلت تليفونيا بالإمام الأكبر الشيخ طنطاوي, أرجوه إن كان الكتاب لديه أن يعيرني إياه متعهدا برده في نفس اليوم بعد تصويره. فوعدني مشكورا بالبحث عنه, ولم تمض سوي سويعات وإذا بهذا الشيخ الجليل وقد بعث إلي بالكتاب الذي يبدو أنه أخرجه من مكتبته الخاصة, وحتي يرفع بفضله وكرمه أي شبهة لمعني الإعارة واجبة الرد, إذ بي أجد علي صفحته الأولي بخط الإمام الأكبر بسم الله الرحمن الرحيم. هدية للسيد الفاضل والصديق العزيز محمد رجائي عطية. مع خالص الشكر والتقدير. محمد طنطاوي2002/9/30. كتب ذلك مشكورا ليعفيني من رد الكتاب. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر, فإن هذه القصة التي عدت بها إلي السطور التي كنت قد فرغت منها, ذكرتني بقصة اخري من نحو عشر سنوات, دالة علي جميل أدبه وفيض تواضعه.. حين وسطني الأستاذ عماد أديب لأنال موافقته علي الحديث عن الوصية وأبعادها وما تثيره, في برنامجه الشهير علي الهواء.. تفضل الإمام الأكبر وقبل وساطتي, وذهبت في صحبته من باب الأدب والاحترام لمقامه الجليل, وفي الأستوديو انتفض فضيلته معترضا حين فهم أنني لن أظهر معه في الحديث, وعبثا ذهبت سدي كافة محاولاتي إقناعه أنه لا يجوز لأحد مهما يكن قدره أن يظهر إلي جواره ليتحدث معه في الإسلام, فهو شيخ الإسلام, وإمامه الأكبر, وليس يليق أن أظهر معه ناهيك أن أتحدث فيما سوف يتحدث فيه ويتلقي الأسئلة عنه, ولكن كل محاولاتي ذهبت سدي, وحسمها فضيلته بقسم مغلظ أنه لن يظهر ولن يتحدث ما لم أظهر معه وأتحدث إلي جواره, وقد كان له ما أراد. لقد ترك فضيلة الإمام الأكبر الدكتور طنطاوي يرحمه الله, مكتبة إسلامية كاملة في التفسير والأحكام الشرعية, وفي الفقه الميسر, وبنو إسرائيل في الكتاب والسنة, والمرأة في الاسلام, والحجاب والتصوف, والرؤية الشرعية للجهاد, ومعاملات البنوك, وفي مقدمتها تفسيره الوسيط للقرآن المجيد الذي تفضل بإهدائه لي في خمسة عشر مجلدا, وبلغ من دماثته وأريحيته وهو شيخ الأزهر الشريف ولم أكن حتي قد انتخبت لعضوية مجمع البحوث الاسلامية, أن كتب إهداء بخط يده الكريمة أريد أن أضعه أمام القارئ ليري كيف كان تواضع ودماثة هذا الإمام الجليل. كتب يقول: بسم الله الرحمن الرحيم هدية إلي الأخ الكريم والأستاذ الفاضل محمد رجائي عطية مع خالص المحبة والمودة والتقدير شيخ الازهر محمد طنطاوي15 من ذي القعدة1419 ه1999/3/3. عاش حياته رحمه الله وأنا شاهد علي ذلك, منقطعا انقطاعا كاملا إلي عمله, مخلصا له إخلاصا شاملا يبذل فيه علمه ووقته وجهده ومشاعره وأحاسيسه, غيورا علي الدين يناضل من أجل حمايته وقيادة التنوير لرد موجات الظلام عنه, ويرد عنه وعن رسوله صلي الله عليه وسلم وصحابته الأبرار حملات الإساءة التي لم تراع للأديان ولا للرسل حرمة ولا كرامة, فياض الاحترام والتبجيل والتوقير لأساتذته الراحلين والباقين, يحتفل ويحثنا في المجمع علي الاحتفال معه بمن رحل وكتابة المقالات والدراسات عنه, ويبذل الاحترام للباقين معه بعضوية المجمع, لا ينسي في معاملته معهم زمالتهم وأستاذيتهم وأسبقية من سبقه منهم في التخرج, ولا يبرر لنفسه مهما اختلف في الرأي, أن يحاول فرضه علي من يختلف معه حتي ولو كان من تلاميذه, ولا يتجاوز قط مشاعر أحد في حواره معه, تتقدم دماثته حاملة مع تواضعه علمه وحجته, ولا يفارقه صبره علي كثرة وسخونة ما يدور من حوارات ويثار من حجج. يرحم الله تعالي هذا العالم الجليل بواسع رحمته, فقد كان واسع العلم جم الأدب واللين والرفق والتواضع, وفي الوقت نفسه شديد القوة في الحق, لا يلين فيه ولا يخاتل ولا يقبل الدنية, ربما حدثتك يوما عن مواقف كثيرة كنت شاهدا عليها رأيت فيها هذا الطود الشامخ أسدا في الحق منافحا عن الدين لا يلين ولا يتراجع ولا يهادن ولا يساوم, فإذا تركت الإمام وتعاملت مع الانسان, رأيت القلب الكبير والأدب الجم, والتواضع اللافت, والصوت الضارع المبتهل الذي لم تكن تخطئه أذن في سماعها لمواعظه وأحاديثه. رحم الله الشيخ طنطاوي رحمة واسعة, وأنزله فسيح جناته مع الأنبياء والصديقين والشهداء, وحسن أولئك رفيقا, وأنزل سبحانه وتعالي سكينته علينا وعلي أسرته ومحبيه وتلاميذه ومريديه الذين ملأوا الآفاق في كل مكان. [email protected] www.ragaiattia.com المزيد من مقالات رجائى عطية