متحدث الحكومة: المرحلة العاجلة من تطوير جزيرة الوراق تشمل تنفيذ 50 برجا سكنيا    أسعار البصل الأحمر اليوم الثلاثاء 7 مايو 2024 في سوق العبور    مسئول فلسطيني: حالة نزوح كبيرة للمدنيين بعد سيطرة الاحتلال على معبر رفح    بتسديدة صاروخية.. عمر كمال يفتتح أهدافه بقميص الأهلي    "جلب السيطرة والقيادة والقوة لنا".. سام مرسي يحصد جائزة أفضل لاعب في إبسويتش    عاجل| أول تعليق لشقيق ضحية عصام صاصا: "أخويا اتمسح به الأسفلت"    إليسا تحتفل بطرح ألبومها الجديد بعد عدد من التأجيلات: الألبوم يخص كل معجب أنتظره بصبر    البورصات الخليجية تغلق على تراجع شبه جماعي مع تصاعد التوتر بالشرق الأوسط    وفد النادي الدولي للإعلام الرياضي يزور معهد الصحافة والعلوم الإخبارية في تونس    رئيس جامعة المنوفية يهنئ الأقباط بعيد القيامة المجيد    إصابة 4 أشخاص في حادث سقوط سيارة داخل ترعة في قنا    رئيس وزراء فرنسا يعرب مجددًا عن "قلق" بلاده إزاء الهجوم الإسرائيلي على رفح    جامعة القاهرة تعلن انطلاق فعاليات مهرجان المسرح الجامعي للعروض الطويلة    خالد الجندي يوضح مفهوم الحكمة من القرآن الكريم (فيديو)    محافظ أسوان: تقديم الرعاية العلاجية ل 1140 مواطنا بنصر النوبة    وزير الدفاع يلتقى قائد القيادة المركزية الأمريكية    خطة الزمالك لتأمين شبابه من «كباري» الأهلي (خاص)    مواعيد منافسات دور ال32 لدوري مراكز الشباب    «مهرجان التذوق».. مسابقة للطهي بين شيفات «الحلو والحادق» في الإسكندرية    كيف يمكنك ترشيد استهلاك المياه في المنزل؟.. 8 نصائح ضرورية احرص عليها    نائب رئيس جامعة الأزهر السابق: تعليم وتعلم اللغات أمر شرعي    «الأعلى للطرق الصوفية» يدين هجمات الاحتلال الإسرائيلي على رفح الفلسطينية    محافظ قنا يفتتح عددا من الوحدات الطبية بقرى الرواتب والحسينات وبخانس بأبوتشت    وضع حجر أساس شاطئ النادي البحري لهيئة النيابة الإدارية ببيانكي غرب الإسكندرية    انطلاق فعاليات المؤتمر الدولي الخامس لتحلية المياه بشرم الشيخ    وزير الصحة يؤكد أهمية نشر فكر الجودة وصقل مهارات العاملين بالمجال    وائل كفوري ونوال الزغبي يحييان حفلًا غنائيًا بأمريكا في هذا الموعد (تفاصيل)    سب والدته.. المشدد 10 سنوات للمتهم بقتل شقيقه في القليوبية    الرئاسة الفلسطينية تحمل واشنطن تبعات الاجتياح الإسرائيلي لرفح    بدء تطبيق نظام رقمنة أعمال شهادات الإيداع الدولية «GDR»    9 أيام إجازة متواصلة.. موعد عيد الأضحى 2024    وزير الدفاع البريطاني يطلع البرلمان على الهجوم السيبراني على قاعدة بيانات أفراد القوات المسلحة    للأمهات.. أخطاء تجنبي فعلها إذا تعرض طفلك لحروق الجلد    انطلاق الأعمال التحضيرية للدورة ال32 من اللجنة العليا المشتركة المصرية الأردنية    ضبط متهم بالاستيلاء على بيانات بطاقات الدفع الإلكتروني الخاصة بأهالي المنيا    الأمم المتحدة: العمليات العسكرية المكثفة ستجلب مزيدا من الموت واليأس ل 700 ألف امرأة وفتاة في رفح    حفل met gala 2024..نجمة في موقف محرج بسبب فستان الساعة الرملية (فيديو)    9 عروض مسرحية مجانية لقصور الثقافة بالغربية والبحيرة    المشاكل بيونايتد كبيرة.. تن هاج يعلق على مستوى فريقه بعد الهزيمة القاسية بالدوري    3 ظواهر جوية تضرب البلاد.. الأرصاد تكشف حالة الطقس على المحافظات    نصائح مهمة لطلاب ثانوي قبل دخول الامتحان.. «التابلت مش هيفصل أبدا»    الضرائب: تخفيض الحد الأدنى لقيمة الفاتورة الإلكترونية ل25 ألف جنيه بدءًا من أغسطس المقبل    75 رغبة لطلاب الثانوية العامة.. هل يتغير عدد الرغبات بتنسيق الجامعات 2024؟    بحضور مجلس النقابة.. محمود بدر يعلن تخوفه من أي تعديلات بقانون الصحفيين    بكتيريا وتسمم ونزلة معوية حادة.. «الصحة» تحذر من أضرار الفسيخ والرنجة وتوجه رسالة مهمة للمواطنين (تفاصيل)    عادات وتقاليد.. أهل الطفلة جانيت يكشفون سر طباعة صورتها على تيشرتات (فيديو)    الجدول الزمني لانتخابات مجالس إدارات وعموميات الصحف القومية    اقوى رد من محمود الهواري على منكرين وجود الله    إيرادات «السرب» تتجاوز 16 مليون جنيه خلال 6 أيام في دور العرض    المتحف القومي للحضارة يحتفل بعيد شم النسيم ضمن مبادرة «طبلية مصر»    تفاصيل نارية.. تدخل الكبار لحل أزمة أفشة ومارسيل كولر    كيفية صلاة الصبح لمن فاته الفجر وحكم أدائها بعد شروق الشمس    عبد الجليل: استمرارية الانتصارات مهمة للزمالك في الموسم الحالي    زعيم المعارضة الإسرائيلي: على نتنياهو إنجاز صفقة التبادل.. وسأضمن له منع انهيار حكومته    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    هجوم ناري من الزمالك ضد التحكيم بسبب مباراة سموحة    اللواء سيد الجابري: مصر مستمرة في تقديم كل أوجه الدعم الممكنة للفلسطينيين    رغم إنشاء مدينة السيسي والاحتفالات باتحاد القبائل… تجديد حبس أهالي سيناء المطالبين بحق العودة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام يقول لكم: أحكام القضاء "حق" ولا رقيب إلا الضمير

«يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ» بتلك الآية شرع الله المنهج التشريعى للحكم بين البشر وبهذه المكانة العظيمة والمنزلة الرفيعة التي حظى بها القاضى في الإسلام، جعل المنصب يفوق الحاكم قوة وتحصينا، فكان من ينصب قاضيا فقيها عالما يقع حكمه ولو على رأس الخلافة أو الدولة، وليس أدل على ذلك مما قضى به القاضى شريح على خليفة المسلمين الثانى عمر، والرابع عليا حينما اختصمه يهودى وقضى لليهودى فكان سببًا في إسلامه.
واشترط المسلمون فيمن يتولى القضاء عدة شروط أهمها البلوغ، والعقل، والإسلام، واختلفوا في أمور رآها البعض غير ملزمة ومنها الحرية، العدالة، والاجتهاد، الذكورة، وسلامة السمع والبصر والنطق.
وكان من بينهم من حرص على تجنب وجوده قاضيًا بين الناس فكان الفقهاء الأربعة على ما بلغوه من العلم الشرعى أخوف ما يكون عن توليه خشية عواقب الظلم واتقاء لدعوة المظلوم، وروى عن النبى قوله:«من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين».
الخلفاء حذروا من السعى إلى اعتلاء منصب القاضى
نظرًا للمكانة المرموقة والمقام الرفيع الذي حظى به القاضى خلال الدولة الإسلامية، يعتقد البعض أن القضاة لا يخطئون وأنهم دائما يحملون الصواب فيما يصدر عنهم من أحكام، لكن بعض المتشددين يبالغ في توظيف حديث النبى عن درجات القضاة رغم الاختلاف في سند الحديث ودرجته، ليقول بكفر القاضى الذي يحكم خلاف ما يريده لنفسه ولجماعته، تظل ترديد عبارة القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة، شعارًا يعلو في ساحات الميادين والمحاكم، وبين هذا وذاك تظل أحكام القاضى مردودة في نظر الشرع ما أتت بمخالفة لصريح النصوص الشرعية الواردة.
يقول تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ، وقال أيضًا: «ففهمناها سليمان» ليبين أن القاضى ربما يحكم بشيء فيظلم سهوًا أو لعدم الإحاطة الكاملة فيعدل بقاضٍ مثله.
وعلى الرغم من إجماع الفقهاء على أن القضاة ثلاثة الثلثان منهم في النار، وهو من قضى بالجهل مع عدم المعرفة، ومن قضى بغير الحق مع العلم، فجاء الوعيد لهما بالنار، أما القاضى الناجى منهم فهو من عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، لبيان فضل الحكم بالحق وفضل القضاء، يظل التوظيف السياسي للحديث مجالًا خطرًا يهدد قداسته.
ولخطورة ما يصدره القاضى من أحكام قد تمس حياة الأبرياء وتزيد من معاناة المظلوم حذر الخلفاء ومن تبعهم من الأئمة أن يسعى أحد إلى تقلد ذلك المنصب الجلل دون علم، حيث يقول الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه: لو يعلم الناس ما في القضاء ما قضوا في ثمن بعرة! ولكن لا بد للناس من القضاء، ومن أمرة، برة أو فاجرة، ويقول الفضيل بن عياض: إذا ولى الرجل القضاء: فليجعل للقضاء يومًا، وللبكاء يومًا.
«عمر حذر معاوية» من التدخل في أعمال قاضى فلسطين
تعد قضية استقلالية القضاء في الإسلام كحقيقة ثابتة لا خلاف فيها، فليس للسلطان أو الحاكم على القاضى يد فيعارض حكمه أو يوجه إلى ما يخدم نظامه، فالحكم الذي يستند إليه ينبع من التزامه بنصوص الشريعة وفهمه للفقه الإسلامى، وإلى ضميره الذي يرتضيه فيما يرد من قضايا لا وجود لها في القرآن والسُنة.
وكان من أبرز ما قاله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب إلى والى الشام معاوية حينما أرسل إليه عبادة بن الصامت قاضيًا: إنه لا سبيل لك على عبادة بن الصامت، وكان حينها قاضيًا على فلسطين.
ومن بين الأمور التي أجمع عليها الفقهاء الأربعة في قضية استقلال القضاء، ما قالوه في مسألة العزل فأجمعوا على عدم جوازه ما دام الحاكم لا يملك سببًا يبيح له ذلك الفعل، وهذا يعنى أن القاضى لا يتعرض لأى نوع من أنواع التأثير الذي قد تقوم به السلطة التنفيذية، حيث يأمن على نفسه ابتزاز هذه السلطة، ويطمئن إلى أنه لن يعزل من منصبه إلا بسبب مشروع، وبذا يكون حر القرار، لا يحكم بموجب هوى من قاموا بتنصيبه قاضيًا.
كما قالوا بالاجتهاد المفضى إلى الحكم سواء أكان المجتهد من القضاة مصيبا أو مخطئا فالكل مجازى وله ثواب عند الله وأجر نظير اجتهاده، فاشترط الفقهاء في القاضى الاجتهاد، وهذا الشرط يعنى أنه في القضايا التي لا نص فيها ملزم باتباع اجتهاده، ولا يجوز لأحد مهما كان أن يلزمه أن يحكم بغير اجتهاده، وإلا لما كان لهذا الشرط فائدة، هذا في القضايا التي لا نص على حكمها، ولكن إذا كانت القضية مما نص الشارع على حكمها فإن هذا يعنى اتباعه لشرع الله تعالى فقط.
«عمر» أرسى قواعد العدالة.. و«شريح» حاكم الخلفاء دون رهبة.. و«العز بن عبد السلام» تصدى لجبروت المماليك
عمر بن الخطاب.. القضاء في مواطن الحق
ولما عرف عن عمر من العدل والقوة فقد ولاه الخليفة الأول أبو بكر الصديق القضاء حينما أتى خليفة للمسلمين على المدينة، فمكث سنة لم يفتح جلسة، ولم يختصم إليه اثنان، فطلب إعفاءه من القضاء، فسئل: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟
فقال: «لا يا خليفة رسول الله، ولكن لا حاجة لى عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب واسوه.. دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ففيما يختصمون؟
وكتب عمر يوما إلى أبى موسى حينما ولاه القضاء: «أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس الناس في مجلسك وفى وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على المدعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهى إليه، فإن بينه أعطيته بحقه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعماء.
وتابع: لا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادى في الباطل، والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجربا عليه شهادة زور، أو مجلودا في حد، أو ظنينا في ولاء أو قرابة، فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان، ثم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذى بالناس والتنكر عند الخصومة، أو الخصوم، شك أبو عبيد، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصا، فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام عليك ورحمة الله».
شريح بن الحارث.. أقضى العرب
ولعل القاضى شريح بن الحارث بن قيس الكندى، هو أحد أبرز القضاة في التاريخ الإسلامى لما له من وقائع ارتبطت بالخلافة الراشدة، فلم يمنعه وجود الخليفة من أن يردعه بالحكم ضده لصالح الرعية، ولو كانت من غير المسلمين، فكان قاضيا على الكوفة لستين سنة، قال فيه على بن أبى طالب «هو أقضى العرب»، حكم خلالها على اثنين من الخلفاء الراشدين ولم يرهبه موقعهما من الدولة.
فقد اشترى عمر بن الخطاب فرسا ودفع ثمنه، وجد فيه بعدها بقليل عيب أنه يعرج، قال البائع الأعرابى: إنه كان سليما، فرد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن اختر من شئت ليحكم في الأمر، فاختار الأعرابى شريحا، ولم يعرفه عمر، فدعاه إلى بيته ليحكم فرفض شريح، فقال شريح لعمر: «خذ ما ابتعت أو رد ما اشتريت»، فرد عمر: «والله هكذا القضاء قول فصل وحكم عدل».
فسأله عمر: «من أين تعلمت العدل»، فأجابه: «من سورة ص»، فسأله «وماذا فيها؟»، فأجابه بقوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾، فشرح أنهما لمّا تسورا المحراب لم يكن داوود مستعدًا للقضاء ففزع منهما، فلم يأت بالحكم الصحيح، فطلب من عمر أنه لابد من دار متخصّصة مستقلة للقضاء، وكان قبلها القاضى يحكم من داره.
فولاه عمر قضاء الكوفة قائلا: «اذهب فقد وليتك قضاء الكوفة»، فوافق شرط أن يجعل في الكوفة دارا مستقلة للقضاء، فجعل عمر ذلك في الكوفة، وفى كل الأمصار والبلاد التي تحت حكمه، وأوصاه في رسالة جاء فيها: (إذا أتاك أمر في كتاب الله، فاقض بهِ، فإن لم يكن في كتاب الله وكان في سنة رسول الله فاقض به، فإن لم يكن فيهما فاقض بما قضى به أئمة الهدى، فإن لم يكن فأنت بالخيار إن شئت تجتهد رأيك، وإن شئت تؤامرنى ولا أرى مؤامرتك إياى إلا أسلم لك). كما تنازع على بن أبى طالب وهو أمير المؤمنين مع يهودى على درع، فاحتكما إلى القاضى شريح، الذي قال: «يا أمير المؤمنين هل من بينة؟» قال: «نعم الحسن ابنى يشهد أن الدرع درعى»، قال شريح: «يا أمير المؤمنين شهادة الابن لا تجوز»، فقال على: «سبحان الله رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟» فقال: «يا أمير المؤمنين ذلك في الآخرة، أمّا في الدنيا فلا تجوز شهادة الابن لأبيه»، فقال على «صدقت - الدرع لليهودى»، فقال اليهودى: «أمير المؤمنين قدمنى إلى قاضيه، وقاضيه يقضى عليه! أشهد أن هذا الدين على الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين، سقط منك ليلًا»، فأهداه أمير المؤمنين الدرع.
سلطان العلماء.. يحجّم نفوذ المماليك
فيما يعد سلطان العلماء العز بن عبد السلام واحدا من أبرز القضاة وأشجعهم خلال الحكم الأيوبى للدولة الإسلامية، فكانت له مواقفه الداعمة للصالح نجم الدين أيوب حاكم مصر والرافضة للصالح إسماعيل حاكم الشام، وكان قدومه إلى مصر وتعيينه كبير القضاة نموذجا عظيما لما يكون عليه القاضى من شجاعة ولو تكاثر كارهو حكمه.
فكان المماليك من يحكمون مصر في عصر العز بن عبد السلام، لما يمتلكونه من قبضة على الحكومة في عهد الدولة الأيوبية، فقد كان نائب السلطنة مملوكيا، وكذلك أمراء الجيش والمسئولون كلهم مماليك في الأصل وفيهم من لم يثبت تحرره من الرق.
فكان كلما جاءته رقعة فيها بيع أو شراء أو نكاح أو شيء من هذا للمماليك الذين لم يحرروا أبطلها، وقال: هذا عبد مملوك، حتى لو كان أميرا وكبيرا عندهم أو قائدا في الجيش يرده، إذ لابد أن يباع ويحرر، وبعد ذلك يصحح بيعهم وشراءهم وتصرفاتهم كلها، أما الآن فهم عبيد.
فغضب المماليك من هذا الإمام، وجاؤوا إليه وقالوا: ماذا تصنع بنا؟ قال: رددنا بيعكم، فغضبوا أشد الغضب ورفعوا أمره إلى السلطان، فقال: هذا أمر لا يعنيه.فكان منه أن عزل نفسه من القضاء.
وكيل شريعة وقانون: القاضى ليس معصومًا وحصانته مرتبطة بشروط التعيين
اتفقت رؤية علماء الأزهر على حصانة منصب القاضى وما يتمتع به من وقار اتفقت عليه الشرائع السماوية، ورسختها الديانة الإسلامية من كونه حاكما موكلا للفصل بين الناس بما ميزه الله وأعطاه إياه من ملكة الاجتهاد. الدكتور عبدالحليم محمد منصور وكيل كلية الشريعة والقانون بتفهنا الأشراف جامعة الأزهر يقول إن القاضى في الإسلام ارتبط اختياره بأسس معينة تتضمن الكفاءة والاجتهاد والعدل ورجاحة الذهن وصفاء البديهة وقوة السليقة، يختار على أسسها فيمنح ما يمنح من الحصانة ويحاط بما يحاط من هالة الوقار والتقدير.
ويضيف: إن الخطأ غير المتعمد أو غير المقصود لا يؤاخذ عليه القاضى لا في الدنيا أو في الآخرة ما دامت نيته لم تسع لإقرار هوى أو النيل من خصم أو السعى في إقرار خصومة، أما إذا جار القاضى أو تعمد إضاعة حق مظلوم وأعان ظالما، فالإسلام ضمن له عقوبة في الآخرة ومراجعة في الدنيا وضعت تحت بند الأخطاء المهنية الجسيمة، وتقاس بما سيقرره حالة إعادة القضية إليه في الأحوال العادية، فإن كان الحكم مغايرا عُد القاضى من الفاقدين لشرط التعيين ووجب عزله إذا لزم الأمر. وشدد وكيل الشريعة والقانون بالأزهر على أن الإسلام حتم على القاضى أن يتمتع بتصرفات وأفعال إذا حاد عنها أو انحرف يمكن عزله احتراما وإجلالا للمنصب، مؤكدا القاضى ليس مطلق الصلاحيات وليس معصوما، لكن الحصانة مرتبطة بالاجتهاد ورجاحة العقل، أما شطوطه فيأتى بالعقاب والعزل.
في حين يقر الدكتور عبدالحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوى الأسبق بأن للقاضى في الإسلام مكانة عظيمة وسلطة مستقلة، لا يملك أحد أن ينازعه فيها أو أن يؤثر على ما يصدره من أحكام بما في ذلك رأس الدولة، موجها إياه إلى التحرر من المؤثرات التي من شأنها أن تكون سببا في تعطيل حكم الله، وألا يظلم أحدا بسبب أفعال مسبقة لقوله تعالى «ولا يجرمنكم شنأن قوم على ألا تعدلوا»، فالعدل هو أساس ملك الله ومراد الحكم. ويضيف: ضمن الإسلام أسس النزاهة والشفافية التي يكون عليها الحكم بحيث جعل للقاضى سلطانا أقوى من السلطة التنفيذية للحاكم، كونه من يقضى بين الناس، فقد يكون حكمه سببا في النجاة أو في الهلاك، وجعل ضميره أول المراقبين عليه بعد الله عز وجل، وجعل من اجتهاده سببا في التجاوز عن أخطاء ربما يقع فيها القاضى كونه بشر يصيب ويخطئ، مستنكرا إقدام البعض على إهدار دماء القضاة دون مراعاة لما يكون عليه الحكم من أدلة قد تسببت في إقرار إعدام على برىء.
ويشدد لم يجعل الإسلام سلطانا مطلقا للقاضى بحيث يترك دون مراجعة في شأن ما يصدره من أحكام، فبحكم تكوينه البشرى الخالى من العصمة قد يكون رأيه مخالفا لشرع الله ليس لتعمد وإنما لغياب بعض النصوص الحاضرة عن ذهنه فيوجه بالنصيحة، ومنها ما قالته المرأة لعمر وهو على المنبر، فقال: «أصابت امرأة وأخطأ عمر».
الإسلام أكد استقلالية القاضى وجعل ضميره رقيبا عليه
تعد مسألة انتقاد أحكام القاضى شغلا شاغلا لكثير من الناس ممن يرون في أحكام بعض القضاة ظلما وتعديا على حقوقهم، وسلبا لحقوق آخرين، إما تعاطفا أو تحاملا، إلا أن الإسلام جعل مع استقلالية القاضى ضميره فيما يعول عليه من أحكام، وجعل هنالك طرقا عدة لتدارك الظلم.
فكان من المولى عز وجل أن صحح حكما أصدره نبى الله داوود- عليه السلام- حينما دخل عليه رجلان يختصمان في مسألة فحكم حكما، سرعان ما عدله ابنه نبى الله سليمان، بعد أن فهم المسألة، فلم يخطئ نبي الله داوود، بل جعل من تدارك سليمان سبيلا لانتفاء المسألة.
وقد اعتمدت دار الإفتاء السعودية في حديثها عن حكم انتقاد الأحكام القضائية رسالة عمر إلى أبى موسى، حينما قال: «لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك، فإن مراجعة الحق خير من التمادى في الباطل».
وقالت الدار: القاضى مقيد وملزم بالحكم بما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله-صلي الله عليه وسلم- وتخريج القضايا على نصوصها، إذ لم يكن في الحادثة نص صريح يشملها، يقول الله تعالى: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ».
وإذا لم يلتزم بهذا النهج، فإن حكمه مردود، أما إذا كان ملتزما، ولكن خفيت عليه بعض النصوص، أو اجتهد في فهم النصوص فلم يوفق، فإن عليه الرجوع إلى الصواب الموافق لحكم الله في كتابه وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- وهذا هو ما حدا بعمر بن الخطاب- رضى الله تعالى عنه- إلى الكتابة إلى أبى موسى، لتبيين وجهة نظره في هذه المسألة.
وتابعت: لقد فهم بعض العلماء من كلام عمر الذي كتب به إلى أبى موسى الأشعرى في رسالة القضاء المشهورة، أن القاضى ينقض جميع ما ظهر خطؤه، سواء أكان الحكم مبنيا على اجتهاد أم على نص صريح، قال ابن قدامة: وحكى عن أبى ثور وداوود أنه ينقض جميع ما ظهر له خطؤه؛ لأن عمر- رضى الله عنه- كتب إلى أبى موسى: «لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت نفسك فيه اليوم، فهديت لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادى في الباطل»، ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه، كما لو خالف الإجماع، وحكى عن مالك أنه وافقهما في قضاء نفسه.
كما فهم بعض آخر من العلماء من كلام عمر نفسه، أو نقول لقد جمع بين كلام عمر في هذه الرسالة والروايات الأخرى عنه، على أنه لا ينقض ما حكم به، وإنما إذا ظهر له رأى آخر غير ما قضى به، فإنه يعمل به مستقبلا، ولا يصر على الأول لأنه قد فعل ذلك.
يقول ابن القيم في شرح كلام عمر: يريد أنك إذا اجتهدت في حكم ثم وقع لك مرة أخرى، فلا يمنعك الاجتهاد الأول من إعادته، فإن الاجتهاد قد يتغير، ولا يكون الاجتهاد الأول مانعا من العمل بالثانى، إذا ظهر أنه الحق، فإن الحق أولى بالإيثار، لأنه قديم سابق على الباطل، فإن كان الاجتهاد الأول قد سبق الثانى، والثانى هو الحق فهو أسبق من الاجتهاد الأول، لأنه قديم سبق على ما سواه، ولا يبطله وقوع الاجتهاد الأول على خلافه، بل الرجوع إليه أولى من التمادى على الاجتهاد الأول. وأكد أن القاضى في المسائل الاجتهادية إذا حكم فيها بحكم لا ينقضه، وإذا تجدد له اجتهاد آخر، فإنه يحكم به في القضايا اللاحقة، أما القضايا المنصوص عليها في الكتاب والسنة أو أجمع عليها، فإنه إذا حكم بخلافها فإنه ينقض.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن القاضى العدل إذا اجتهد فحكم فإنه لا ينقض حكمه، ولا ينقض من قبل قاض آخر إذا لم يكن حكمه جورا، ولم يخالف نصا صريحا من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله أو الإجماع.
يقول ابن قدامة: ولنا على نقضه إذا خالف نصا أو إجماعا، أنه قضاء لم يصادف شرطه فوجب نقضه كما لو خالف الإجماع، وبيان مخالفته للشرط، وأن شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص بدليل خبر معاذ، ولأنه إذا ترك الكتاب والسنة فقد فرط، فوجب نقض حكمه كما لو خالف الإجماع.
الاجتهاد عرضة للخطأ كما هو معلوم، ومن جهة أخرى فإن القاضى يحكم على نحو ما يسمع ولا يعلم الغيب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلىّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها».
فإذا كان القاضى أهلًا للقضاء مستجمعًا لآلته، واجتهد في إصابة الحق فهو مأجور على أية حال ولو أخطأ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».
وعنون البخارى في صحيحه بابا بأجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، قال ابن حجر: يشير إلى أنه لا يلزم من رد حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أُجر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير علم لحقه الإثم.. قوله (ثم أخطأ) أي ظن أن الحق في جهة، فصادف أن الذي في نفس الأمر بخلاف ذلك، فالأول له أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، والآخر له أجر الاجتهاد فقط، وقد تقدمت الإشارة إلى وقوع الخطأ في الاجتهاد في حديث أم سلمة: «إنكم تختصمون إلىّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض».
النسخة الورقية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.