العدل أساس الملك قاعدة حفظناها ونرددها دائما و نتخذ منها شعاراً في مواقع ومواطن كثيرة بالحق و بالباطل وبحق يراد به باطل احيانا كثيرة.. والعدل لا يتحقق الا بقاض عادل يعانقه حاكم قادر رشيد ليفرض العدل ويسود ومن ثم يشعر به الناس.. واطراف معادلة تحقيق العدل لهم مكان ومكانة وشروط ومزايا وصفات وأوصاف كلها تصب في سبيل تحقيق العدل والوصول اليه.. وبقدر الامتيازات تكون القيود اشد لتمنع الغرور والاستغلال والاستعلاء والانتهازية وكل ما من شأنه ان يعكر صفو العدالة أو يلوث ثوبها الابيض الناصع وبما يكفل منع اي شوائب من هنا وهناك تحاول التعلق باستار العدل وآله في كل زمان ومكان .. وفي أزمنة الفتنة والفوضي وفي عهود الاستبداد والتسلط.. دائما ما تختل المعادلة وتتصادم الاطراف الممسكة بأهداب العدالة وتكون الطامة اشد وقعا ونكاية حين يركب كل طرف رأسه ويريد ان يستعرض عضلاته ويتوهم انه قادر علي كسر هيبة الآخر ويحاول ان ينتقص من قدره و مقداره مستغلا ما يتمتع به من سلطة أو قوة أو حصانة أو حتي اجواء رديئة تسمح بالعبث وتضيف وقودا لكل ألوان الفتن .. وتحذيرات القرآن وبيان السنة النبوية في هذا الاطار جلية واضحة.. وقد اعجبتني تلك النتيجة التي توصل اليها الذين بذلوا الجهد في استكشاف معني وقيمة العدل في القران الكريم فقد توصلوا إلي ان القرآن ينثر بذور العدل في قلوب المتعطشين له والمتطلعين إلي الحق والرقي والكمال ويأمرهم بالقيام الجماعي به. وهو ما اكدتة ايات كثيرة منها.. "يا أيها الذين آمنوا كونوا قَوّامين بالقِسط.." "النساء/135". "إنَّ الله يأمركم أنْ تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بيَن الناس أنْ تحكموا بالعدل إنّ الله نِعِمّا يعظُكم به.." "النساء/58". ويحذر من مغبة الانحراف عن جادة العدل: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قومي علي الاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوي واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون" "المائدة/ 8". "يا أيها الذين آمنا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو علي أنفسكم أو الوالدين والأقربين أن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولي بهما فلا تتبعوا الهوي أن تعدلوا وان تلووا أو تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا" "النساء/135". وبقدر ما أَمَرَ الإسلامُ بالعدل وحثَّ عليه. حَرَّمَ الظلم أشدَّ التحريم. وقاومه أشدَّ المقاومة. سواء ظُلْم النفس أم ظُلْم الآخرين. وبخاصة ظُلْم الأقوياء للضعفاء. وظُلْم الأغنياء للفقراء. وظُلْم الحُكَّام للمحكومين. وكلَّما اشتدَّ ضعف الإنسان كان ظلمه أشدَّ إثمًا ففي الحديث القدسي: ¢يَا عِبَادِي. إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَي نَفْسِي. وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا¢0 كلما شاهدت وسمعت بعض القضاة.. وكلما تابعت حالات المشاحنة ونثر بذور الفتنة وخروج البعض علي المألوف.. حتي اصبحت هيبة ومكانة القاضي علي المحك.. بعد ان نزل بها البعض من برجها العاجي وألقوا بها علي قارعة الطريق.. اتذكر سيرة احد ابرز القضاة العظام في صدر الاسلام انه القاضي شريح واقول هذا شريح جاء ليعلمكم اصول القضاء.. وكيف كان ابناؤه وعلاقات ابناء القضاة والاسر القضائية.. التي تلوكها الان الالسنة ولا تتوقف عنها الاحاديث ليل نهار توريثا وظلما ومجاملة واستعلاء.. حتي صارت في بعضها مضرب الامثال من عينةالقول الشهير.. مقبول زائد ابن قاض افضل من امتياز من ابن احد عامة الناس وشريح من اعلام اعلام القضاة وواحد من افضل واول من تولي القضاء بعد النبي صلي الله عليه وسلم علي الاطلاق.. وشريح هو اكتشاف الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي عرف بفراسته مكانة هذا الإنسان و علم قدرته علي القضاء.. وقدمه علي كبار الصحابة الذين كانوا موجودين آنذاك 0 وأثبتت الأيام صدق فراسة عمر رضي الله عنه وصواب تدبير الفاروق فظل شريح قاضيا أكثر من ستين سنة متتابعة دون انقضاء.. لقد كان قاضيا في زمن عمر ثم في زمن عثمان ثم علي ثم معاوية والذين جاؤوا بعد معاوية ولوه القضاء أيضا مثل يزيد بن معاوية ومروان وغيرهم. إلي أن جاء الحجاج الذي رأي شريح ظلمه ورأي أن أحكامه لا تطبق فطلب الإعفاء من القضاء وكان عمره عندما أعفي من القضاء مائة وسبع سنوات رحمه الله تعالي. لقد تولي القضاء وعمره سبع وأربعون سنة وبقي ستين سنة قاضيا حافلة حياته بالمفاخر والمآثر. ومما سجلته صحائف التاريخ عن عدل شريح أن ابنه قال له يوما يا أبت إن قوما بيني وبينهم خصوم فإن كان الحق لي قاضيتهم وإن كان لهم صالحتهم فقص عليه القصة فقال له شريح انطلق إليهم فقاضهم أي أحضرهم للقضاء. فرح الولد لأنه ظن أنه إن كان الحق معه فسيأخذه وإن كان عليه فسيصالح عليه القوم.. فدعا خصومه إلي القضاء فاستجابوا له ولما امتثلوا بين يدي شريح وسمع من كلا الطرفين القصة حكم علي ابنه ففاجأ الأب شريح ابنه ولم يطلب منه الصلح ولما رجع إلي البيت قال الابن لأبيه يا أبت لقد فضحتني. والله لو إنني لم أشاورك لما حصل ما حصل فقال شريح لابنه: يابني والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض من أمثالهم لكن الله تعالي أعزّ علي منك. أي أنت عندما أخبرتني بالقصة عرفت أن الحق لهم وخشيت إن قلت لك ذلك أن تذهب من ورائي وتصالحهم علي الحق وتأخذ جزءا منهم بالصلح والاتفاق وخشيت أن يقع في يدك شيء من الظلم لهذا طلبت منك أن تحضرهم حتي لا يقع في يدك شيء من الظلم. وايضا ثبت أن ابن شريح كفل رجلا وضمنه ولكن هذا الرجل فرّ من القضاء فأمر شريح بسجن ابنه حتي يأتي الرجل وكان شريح ينقل الطعام إلي ابنه في السجن. تري كيف تكون الصورة لو ان واقعة مماثلة وقعت هذه الايام.. كيف سيتصرف القاضي وزملاء القاضي وانصار القاضي و اقارب القاضي!! .. مع احترامنا و تقديرنا لكل الشرفاء وكل من دخل في اطار القول الاشهر الا من رحم ربي .. ونظرا للاهمية و المكانة والدور المأمول من فرض العدل في المجتمع اكد اهل العلم و الاختصاص ان العدل لن يتحقق في المجتمع إلا بوجود ولاة وحكام وقضاة. يتمتعون بصفات خاصة وقد حدد العلماء اكثر من عشر مواصفات وشروط اكدوا ضرورة توافرها فيمن يقوم علي تحقيق العدل منها : أن يكون متمسكاً بكتاب الله وسنة المصطفي صلي الله عليه وسلم. مواظباً علي أداء الفرائض والأركان, متمتعاً بالصلاح والإستقامة والنزاهة والقناعة والخلق القويم. ومتمسكاً بأداب السلوك الإجتماعي بغير تكلف ولاعنت. لا يدنس وظيفته بفاحشة ولا يسئ إلي سمعته بذنب أومعصية. أن يكون خالياً من العلل والعاهات. أن يتمتع برقابة ذاتية وخوف من الله عزوجل. وشخصية قوية ورصانة ووقار وحضور ذهن وجهد ومثابرة ونفس أبية سوية لا ميل فيها ولا هوي ولا إنحراف,ولا يستميلها ترغيب ولا يحيد بها عن الحق ترهيب. أن يتمتع بالعلم الكافي باحكام الشريعة الإسلامية وبالقوانين النافذة والعرف السائد في البلاد. يصل به مرتبة الإجتهاد. ألا يطلب تولي منصب القضاء وألا يسعي للحصول عليه. أن يكون حكيماً لبيباً ذكياً فطناً بليغاً فصيحاً نبيهاً. واسع الصدر. قوي التحمل لرزانة وجهل الخصوم. بطيء الغضب والإنفعال في مجلس قضائه . ألا يجعل وظيفته القضائية طريقاً أو وسيلةً للحصول علي الأموال. ومن أجل تحقيق مآرب شخصية وأطماع دنيوية. ألا يقبل رشوة أو هبة أوعطية. وأن يعامل الخصوم علي مبدأ المساواة. وألا يضيف أحد الخصوم ولا يستضاف عند أحدهم. أن يتمتع بمقدرة خاصة علي التجرد والحيدة الكاملة. فلا يتأثر بقرابة أو صداقة أو مصاهرة أوتوصية أو وجاهة أو وساطة. ولا ينحاز إلي حزب أو تنظيم سياسي. وألا يجامل صاحب سلطة أو مسئولية أو منصب وظيفي كبير. ** عن بريدة عن النبي صلي الله عليه وسلم. قال: القضاة ثلاثة. اثنان في النار وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضي به فهو في الجنة. ورجل قضي للناس علي جهل فهو في النار. ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار رواه أبو داود والترمذي وإبن ماجه. وصححه الألباني ** روي عروة أن عمربن الخطاب رضي الله عنه كان إذا اتاه الخصمان برك علي ركبتيه وقال اللهم أعني عليهما فإن أحدهما يردني عن ديني. ** بعث الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه - إلي واليه علي مصر الاشتر النخعي مبيناً له كيفية اختيار القضاة ومعاملتهم. قال : ".......... وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلي الناس. وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك فيأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك". ** قال عمرو بن العاص رضي الله عنه - : "لا سلطان إلا برجال. ولا رجال إلا بمال. ولا مال إلا بعمارة. ولا عمارة إلا بالعدل" وكتب الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز إلي أحد عماله حينما بعث يستأذنه في تحصين مدينته قائلاً : "حصنها بالعدل ونق طريقها من الظلم".