وزير الري يشارك في الاحتفال بمرور 50 عامًا على البرنامج الهيدرولوجي الدولي لليونسكو    محافظ الدقهلية يتابع نتائج لجان المرور على المنشآت الصحية بمركزي المطرية والمنزلة    وزير الري: لا مساس بنقطة مياه مصرية    دمياط: فصل المياه في بعض المناطق منتصف الليل حتى الثامنة صباحا    ننشر قائمة الدول المشاركة في قمة شرم الشيخ للسلام بحضور قادة أكثر من 20 دولة    كييف تعلن إسقاط 103 طائرات مسيرة روسية خلال الليل    باكستان تغلق نقاط عبور حدودية مع أفغانستان في ظل اشتباكات عنيفة    مصر تدين الهجوم على مركز لإيواء النازحين بمدينة الفاشر السودانية    طائرة نيجيريا تتعرض لحادث في ظروف غامضة    محمد صبحي يفوز ببرونزية وزن 88 كجم ببطولة العالم لرفع الأثقال البارالمبي بالعاصمة الإدارية    تقرير.. ليفاندوفسكي يغلق بابه أمام اللعب في الدوريات العربية    جاكبو يقود تشكيل منتخب هولندا ضد فنلندا في تصفيات كأس العالم 2026    ضبط شخص يروج لبيع أدوات تستخدم فى الأعمال المنافية للآداب عبر مواقع التواصل الاجتماعى    تأجيل محاكمة المتهمين بقتل تاجر الذهب في البحيرة لجلسة 10 نوفمبر    الخريف.. موسم الانتقال والحنين بين دفء الشمس وبرودة النسيم    تأجيل محاكمة 56 متهما بنشر أخبار كاذبة    تأجيل إستئناف المتهم الثاني ب " أحداث ميدان لبنان " ل 8 نوفمبر    مهرجان القاهرة السينمائي يكرم المخرجة المجرية إلديكو إنيدي بجائزة الهرم الذهبي في دورته ال46    على الصعيد المهنى والعاطفى.. حظك اليوم وتوقعات الأبراج الأحد 12 أكتوبر    فى أول زيارة منذ انتخابه مديرا عاما لليونسكو.. وزير الخارجية يستقبل خالد العناني    روبي تشعل باريس وتعلن نفاد تذاكر حفلها قبل إنطلاقه بساعات    قبل عرض أولى بطولاته.. أبرز أعمال أحمد صلاح حسني في السينما والتلفزيون    منذ الألفية الثانية قبل الميلاد.. إفلاطون بنار بتركيا يتحدى الجفاف    رئيس منطقة مطروح الأزهرية يكرم الطالبة هاجر إيهاب فهمي لتفوقها في القرآن والخريدة البهية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم 12-10-2025 في محافظة الأقصر    نائب وزير الصحة يحيل إدارة مستشفى الأحرار التعليمي بالشرقية للتحقيق ويوجه بإجراءات عاجلة    نائب وزير الصحة يترأس اجتماعا للإعداد للنسخة 3 من المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية    الخريف موسم الانتقال... وصراع المناعة مع الفيروسات الموسمية    رئيس جامعة بنها ووكيل الأزهر يفتتحان ندوة "الإيمان أولا"    بعد قرار الرئيس، هل يختلف نائب الشيوخ المنتخب عن المعين؟    قافلة دعوية برعاية «أوقاف مطروح» تجوب مدارس الحمام لتعزيز الانتماء ومحاربة التنمر والتعصب    ما حكم زيارة مقامات الأنبياء والأولياء والصالحين؟ الإفتاء تفسر    وزير الدفاع يشهد تخريج دفعات جديدة من الكليات العسكرية (صور)    شعبة القصابين: تراجع شراء اللحوم 20%.. والجزارون يتجهون لفتح مطاعم لبيع «الحواوشي»    «يونيفيل» تعلن إصابة أحد عناصرها بقنبلة إسرائيلية في جنوب لبنان    "إي آند مصر" تطلق مبادرة "صحة مدارسنا"    سويلم يلتقى نائب وزير البيئة والزراعة السعودى ضمن فعاليات أسبوع القاهرة الثامن للمياه    "سلامة الغذاء" تنفذ 51 مأمورية رقابية على السلاسل التجارية في أسبوع    آلاف المتظاهرين يخرجون إلى شوارع العواصم الأوروبية دعمًا للشعب الفلسطينى    رام الله: مستوطنون يقتحمون خربة سمرة بالأغوار الشمالية    إصابة 5 فى تصادم سيارة ملاكى وتوك توك وتروسكيل بطريق برج نور أجا بالدقهلية    هانى العتال عن تعيينه فى مجلس الشيوخ: شرف كبير أنال ثقة الرئيس السيسي    ختام جولة مشروع "المواجهة والتجوال" بمحافظة جنوب سيناء.. صور    الضرائب: الفاتورة الالكترونية والإيصال الإلكتروني شرط أساسي لإثبات التكاليف ورد ضريبة القيمة المضافة    محافظ المنوفية يدشن فعاليات المبادرة الرئاسية للكشف عن فيروس سي بمدرسة المساعي الجديدة بنات بشبين الكوم    تنفيذ ورش تدريبية مجانية لدعم الحرف اليدوية للمرأة في الأقصر    الرئيس السيسى يتابع مع شركة أباتشى الموقف الاستكشافى للمناطق الجديدة    الداخلية تضبط أكثر من 106 آلاف مخالفة مرورية في 24 ساعة    وزير الصحة يشهد حفل توزيع جائزة «فيركو» للصحة العامة في ألمانيا    رحيل فارس الحديث النبوى أحمد عمر هاشم.. مسيرة عطاء فى خدمة السنة النبوية    مدارس التكنولوجيا تعيد رسم خريطة التعليم الفنى    مصر تتسلم رئاسة المنظمة الدولية للتقييس "أيزو" لمدة 3 أعوام بعد فوز مشرف ومستحق    ترشيح هذه الفنانة للوقوف أمام محمد فراج في أب ولكن    سفارة قطر بالقاهرة تعرب عن بالغ حزنها لوفاة ثلاثة من منتسبي الديوان الأميري في حادث    تركيا تكتسح بلغاريا بسداسية مدوية وتواصل التألق في تصفيات كأس العالم الأوروبية    نجم الأهلي السابق: توروب سيعيد الانضباط للأحمر.. ومدافع الزمالك «جريء»    استبعاد معلمي الحصة من حافز ال 1000 جنيه يثير الجدل.. خبير تربوي يحذر من تداعيات القرار    خالد جلال: جون إدوارد ناجح مع الزمالك.. وتقييم فيريرا بعد الدور الأول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أ.د. عبد الرحمن البر يكتب: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

«ما فائدةُ العدل فيما يُسَمَّى القانون إذا نحن لم نأمن الميلَ الشخصى فيمن يُسَمَّى القاضى».
هذه العبارة رائعة من روائع أديب العربية مصطفى صادق الرافعى تكشف القاعدة الأساسية فى منظومة العدل، وهى سلامة الموقف النفسى الداخلى لمن يتقلد منصب القضاء، قبل العمل على عدالة النص القانونى وسلامة إجراءات التقاضى، فالعدل فى نفس القاضى قبل أن يكون فى نص القانون، والقاضى العادل يستطيع أن يستخرج الحق لصاحبه حتى من النصوص الجائرة، أما القاضى الذى يميل مع الهوى فإنه يلوى أعناق النصوص القانونية لينحرف عن الحق، ولهذا كان «العدل أساس الملك» سنة إلهية وحقيقة اجتماعية معروفة, إذ إن غياب العدل يلغى مبرر وجود المجتمعات, حتى المجتمعات الموصوفة بكونها إسلامية, ولذلك يقول أبو الحسن الخزرجى: «الملك مع العدل, والكفر يدوم, ولكن الملك مع الإسلام والظلم لا يدوم».
حيدة القاضى:
من ثم كانت الشريعة الإسلامية -بل كل الشرائع- حريصة على تربية القضاة على الحيدة المطلقة، وعدم اتخاذ موقف مسبق من القضية المعروضة عليه أو من الشخص المعروضة قضيته عليه، حتى المذنب لا يجوز للقاضى أن ينظر إليه باعتباره خصما، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا﴾، وإذا كان هذا التوجيه للنبى صلى الله عليه وسلم، فكيف بغيره؟ وقد حذر الله داود عليه السلام من الميل مع الهوى فى الحكم بين الناس فقال ﴿يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ﴾، لِأَنَّ فِى الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ إظْهَارَ الْعَدْلِ، وَبِالْعَدْلِ قَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَرُفِعَ الظُّلْمُ وَهُوَ مَا يَدْعُو إلَيْهِ عَقْلُ كُلِّ عَاقِلٍ.
كيف وقد بلغ التخويف من القضاء بين الناس مخافة الجور بغير قصد حدا عجيبا، فيما أخرجه أحمد بسند حسن عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَذَاكَرْتُهَا حَتَّى ذَكَرْنَا الْقَاضِىَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِى الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ، يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِى تَمْرَةٍ قَطُّ))، وفى رواية عند ابن حبان ((يُدْعَى القَاضِى الْعدْلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِى عمره)). وأخرج أبو داود والترمذى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((من جُعِل قاضيًا بين الناس فقد ذُبِحَ بغير سكين)).
والقاضى إذا جار لزمه الشيطان، فقد أخرج الترمذى والبيهقى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِى أَوْفَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ مَعَ الْقَاضِى مَا لَمْ يَجُرْ, فَإِذَا جَارَ بَرِئَ اللهُ مِنْهُ, وَأَلْزَمَهُ الشَّيْطَانَ))، ولك أن تتصور حال أمة يلزم الشيطان قضاتها.
إن من أهم واجبات القاضى الحر النزيه ألا ينحاز إلى أحد الخصمين، حتى ولو كان متفقا معه فى الدين أو المذهب أو الرأى السياسى، أو قريبا أو أبا أو ابنا أو زوجا ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (النساء: 135)، أى لا يدفعنكم ميلكم لشخص ما ولو كان من قرابتكم إلى الحكم لصالحه، ولا يحملنكم بغضكم لشخص ما أن تجوروا عليه ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8].
التحذير من الميل مع الهوى:
بلغ من تحذير الإسلام للقضاة من الوقوع فى أدنى ميل مع الهوى أن النبى صلى الله عليه وسلم حذر من إظهار أدنى إشارة تكشف عن ميل فى نفس القاضى، فقد أخرج البيهقى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنِ ابْتُلِى بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِى لَحْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ)) وفى رواية: «وَكَلَامِهِ». كما روى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنِ ابْتُلِى بِالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَرْفَعَنَّ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَا يَرْفَعُ عَلَى الْآخَرِ)). وكان عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: ((وَيْلٌ لِدَيَّانِ مَنْ فِى الْأَرْضِ مِنْ دَيَّانِ مَنْ فِى السَّمَاءِ، إِلَّا مَنْ أَمَّ الْعَدْلَ، وَقَضَى بِالْحَقِّ، وَلَمْ يَقْضِ عَلَى رَغَبٍ, وَلَا رَهَبٍ, وَلَا قَرَابَةَ، وَجَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ مِرْآةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ)).
ولهذا كان القاضى فى الدولة الإسلامية فى مجلس قضائه محترما مهيبا، لا تأخذه فى الحق لومة لائم، يُسوِّى فى مجلسه بين الأمير والحقير، وبين الشريف والوضيع، وقد جَاءَ رَجُلٌ إلَى شُرَيْحٍ، وَعِنْدَهُ أحدُ أصحابِه، فَقَالَ الرَّجُلُ لِشُرَيْحٍ: أَعِنِّى عَلَى هَذَا الْجَالِسِ عِنْدَك. فَقَالَ شُرَيْحٌ لصاحبه: قُمْ فَاجْلِسْ مَعَ خَصْمِك. قَالَ: إنِّى أُسْمِعُك مِنْ مَكَانِي. قَالَ: لَا قُمْ فَاجْلِسْ مَعَ خَصْمِك. فَأَبَى أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ حَتَّى أَجْلَسَهُ مَعَ خَصْمِهِ. وَفِى رِوَايَةٍ قَالَ: إنَّ مَجْلِسَك يُرِيبُهُ، وَإِنِّى لَا أَدَعُ النُّصْرَةَ وَأَنَا عَلَيْهَا قَادِرٌ.
ويرحم الله القاضى أَبَا يُوسُفَ الذى قَالَ فِى مُنَاجَاتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: «اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّى مَا تَرَكْت الْعَدْلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا فِى حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فَاغْفِرْهَا لِى» قِيلَ: وَمَا تِلْكَ الْحَادِثَةُ؟ قَالَ: «ادَّعَى نَصْرَانِى عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ دَعْوَى فَلَمْ يُمْكِنِّى أَنْ آمُرَ الْخَلِيفَةَ بِالْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسَهُ وَالْمُحَابَاةِ مَعَ خَصْمِهِ، وَلَكِنِّى رَفَعْت النَّصْرَانِى إلَى جَانِبِ الْبِسَاطِ بِقَدْرِ مَا أَمْكَنَنِى، ثُمَّ سَمِعْت الْخُصُومَةَ قَبْلَ أَنْ أُسَوِّى بَيْنَهُمَا فِى الْمَجْلِسِ، فَهَذَا كَانَ جَوْرِى».
القاضى لا يقبل الهدية:
لهذا كانت الشريعة حريصة على منع القاضى من قبول الهدايا من الأفراد أو الجهات، قليلة كانت أو كثيرة، قبل الحكم أو بعده، وقد أخرج البيهقى أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُهْدِى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِى اللهُ عَنْهُ كُلَّ سَنَةٍ فَخِذَ جَزُورٍ, قَالَ: فَجَاءَ يُخَاصِمُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِى اللهُ عَنْهُ, فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, اقْضِ بَيْنَنَا قَضَاءً فَصْلًا كَمَا تَفْصِلُ الْفَخِذَ مِنَ الْجَزُورِ, قَالَ: فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِى اللهُ عَنْهُ إِلَى عُمَّالِهِ: «لَا تَقْبَلُوا الْهَدْىَ, فَإِنَّهَا رِشْوَةٌ». وأخرج البيهقى عن مَالِك، قَالَ: أَهْدَى رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَكَانَ مِنْ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِى اللهُ عَنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ لِامْرَأَةِ عُمَرَ رَضِى اللهُ عَنْهُ, فَدَخَلَ عُمَرُ فَرَآهُمَا, فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ لَكِ هَاتَيْنِ؟ اشْتَرَيْتِهِمَا؟ أَخْبِرِينِى, وَلَا تَكْذِبِينِى», قَالَتْ: بَعَثَ بِهِمَا إِلِىّ فُلَانٌ, فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلَانًا, إِذَا أَرَادَ حَاجَةً فَلَمْ يَسْتَطِعْهَا مِنْ قِبَلِى أَتَانِى مِنْ قِبَلِ أَهْلِى فَاجْتَبَذَهُمَا اجْتِبَاذًا شَدِيدًا مِنْ تَحْتِ مَنْ كَانَ عَلَيْهِمَا جَالِسًا, فَخَرَجَ يَحْمِلُهُمَا, فَتَبِعَتْهُ جَارِيَتُهَا فَقَالَتْ: إِنَّ صُوفَهُمَا لَنَا, فَفَتَقَهُمَا, وَطَرَحَ إِلَيْهَا الصُّوفَ, وَخَرَجَ بِهِمَا, فَأَعْطَى إِحْدَاهُمَا امْرَأَةً مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ, وَأَعْطَى الْأُخْرَى امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ.
بل بالغ ابن مسعود رضى الله عنه فاعتبر أن قبول القاضى الهدية وحكمه لصالح من أهدى له باب من الكفر، فقد أخرج البهقى عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ السُّحْتِ, أَهُوَ رِشْوَةٌ فِى الْحُكْمِ؟ قَالَ: «لَا ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ وَ﴿الظَّالِمُونَ﴾ وَ﴿الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 44-47] , وَلَكِنَّ السُّحْتَ أَنْ يَسْتَعِينَكَ رَجُلٌ عَلَى مَظْلِمَةٍ فَيُهْدِى لَكَ فَتَقْبَلَهُ, فَذَلِكَ السُّحْتُ».
بل حرص الإسلام غاية الحرص على أن يكون القاضى فى سلوكه بعيدا عن الشبهات، مهيبا وقورا بعيدا عما يلثم المروءة، فليس له أن يعمل بالتجارة لما يخشى من محاباة الناس له، وقد يقف هذا المحابى خصما بين يديه يوما، قال الإمام الشافعى رحمه الله تعالى: «وأكره له -أى للقاضى- البيع والشراء خوف المحاباة والزيادة» لأنه إذا باع واشترى لم يؤمن أن يسامح ويحابى فتميل نفسه عند المحاكمة إلى مسامحة ومحاباة من سامحه وحاباه، ويقاس على البيع والشراء سائر أعمال التجارة الأخرى حسب الظروف والأحوال.
وحرصت الأمم كلها على تحقيق الكفاية للقاضى حتى تضمن استقلاله وعدم تطلعه لما فى أيدى الناس، واهتمت الدساتير فى الدول الحديثة بتوفير الاستقلال الكامل للقضاة، ومنع الحكام من التدخل فى تعيينهم وعزلهم، حتى تحقق لهم الأجواء الطبيعية لتحقيق العدل بعيدا عن أى رغب أو رهب، ولذلك فإن الدساتير والقوانين تأخذ القضاة بأدنى شبهة، فإن تعمد الجور فى قضية من مئات القضايا فهو خطأ كاف لفقده الصلاحية وإحالته إلى المعاش.
إن العدل فى الحقيقة هو إحساس يشعر به المجتمع من خلال أحكام القضاء التى تردع المخطئ والمجرم وتحفظ الحقوق لأصحابها، فإذا فقد الناس هذا الإحساس فإن مجرد سلامة إجراءات التقاضى لا تمنح الناس الثقة بالقضاء باعتباره العمود الفقرى للمجتمع السليم.
غضبة طبيعية:
لهذا كله كان من الطبيعى أن نرى هذه الغضبة الشعبية من بعض القضاة، الذين يتسارعون فى تبرئة وإخلاء سبيل القتلة واللصوص والبلطجية لأدنى خلل فى الإجراءات، فى الوقت الذى يحبسون فيه الثوار والشرفاء لأدنى شبهة، ومن بعض القضاة الذين قبلوا الهدايا من الأفراد والمؤسسات الفاسدة، والذين اتهموا فى قضايا استيلاء على أموال الناس، ومن تأخر الهيئات القضائية العليا فى كشف الحقائق للرأى العام وتلكؤهم فى اتخاذ إجراءات صارمة تجاه من يثبت عليه أدنى ميل، ومؤسسة القضاء الآن فى مفترق طرق بين أن تؤكد مكانتها العظيمة فى نفوس الشعب، وبين أن تدع الشكوك والريب تسرى فى نفوس الناس تجاه مؤسستهم العظيمة التى يفخرون بها ويباهون بها.
ولست أبدا مع الذين يدافعون عن القضاة الذين يعلنون مواقف سياسية من مؤسسات الدولة أو أحزابها أو جماعاتها عبر الفضائيات، فهذا خطأ جسيم لا يمكن تبريره، ودفاع البعض بأن هؤلاء القضاة هم من حكم فى كثير من القضايا ضد نظام مبارك ولصالح الإسلاميين هو دفاع ساقط؛ لأن الأصل هو أن يقوم القاضى بالحكم بالحق فى كل ما يعرض عليه، فإن حكم فى تسع وتسعين قضية بالحق، ومال مع الهوى فى واحدة ذهبت الواحدة بالتسع والتسعين.
وفى الختام أذكر الجميع بحديث النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِى الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِى النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِى فِى الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِى الْحُكْمِ، فَهُوَ فِى النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِى النَّارِ».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.