«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أ.د. عبد الرحمن البر يكتب: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

«ما فائدةُ العدل فيما يُسَمَّى القانون إذا نحن لم نأمن الميلَ الشخصى فيمن يُسَمَّى القاضى».
هذه العبارة رائعة من روائع أديب العربية مصطفى صادق الرافعى تكشف القاعدة الأساسية فى منظومة العدل، وهى سلامة الموقف النفسى الداخلى لمن يتقلد منصب القضاء، قبل العمل على عدالة النص القانونى وسلامة إجراءات التقاضى، فالعدل فى نفس القاضى قبل أن يكون فى نص القانون، والقاضى العادل يستطيع أن يستخرج الحق لصاحبه حتى من النصوص الجائرة، أما القاضى الذى يميل مع الهوى فإنه يلوى أعناق النصوص القانونية لينحرف عن الحق، ولهذا كان «العدل أساس الملك» سنة إلهية وحقيقة اجتماعية معروفة, إذ إن غياب العدل يلغى مبرر وجود المجتمعات, حتى المجتمعات الموصوفة بكونها إسلامية, ولذلك يقول أبو الحسن الخزرجى: «الملك مع العدل, والكفر يدوم, ولكن الملك مع الإسلام والظلم لا يدوم».
حيدة القاضى:
من ثم كانت الشريعة الإسلامية -بل كل الشرائع- حريصة على تربية القضاة على الحيدة المطلقة، وعدم اتخاذ موقف مسبق من القضية المعروضة عليه أو من الشخص المعروضة قضيته عليه، حتى المذنب لا يجوز للقاضى أن ينظر إليه باعتباره خصما، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا﴾، وإذا كان هذا التوجيه للنبى صلى الله عليه وسلم، فكيف بغيره؟ وقد حذر الله داود عليه السلام من الميل مع الهوى فى الحكم بين الناس فقال ﴿يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ﴾، لِأَنَّ فِى الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ إظْهَارَ الْعَدْلِ، وَبِالْعَدْلِ قَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَرُفِعَ الظُّلْمُ وَهُوَ مَا يَدْعُو إلَيْهِ عَقْلُ كُلِّ عَاقِلٍ.
كيف وقد بلغ التخويف من القضاء بين الناس مخافة الجور بغير قصد حدا عجيبا، فيما أخرجه أحمد بسند حسن عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَذَاكَرْتُهَا حَتَّى ذَكَرْنَا الْقَاضِىَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِى الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ، يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِى تَمْرَةٍ قَطُّ))، وفى رواية عند ابن حبان ((يُدْعَى القَاضِى الْعدْلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِى عمره)). وأخرج أبو داود والترمذى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((من جُعِل قاضيًا بين الناس فقد ذُبِحَ بغير سكين)).
والقاضى إذا جار لزمه الشيطان، فقد أخرج الترمذى والبيهقى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِى أَوْفَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ مَعَ الْقَاضِى مَا لَمْ يَجُرْ, فَإِذَا جَارَ بَرِئَ اللهُ مِنْهُ, وَأَلْزَمَهُ الشَّيْطَانَ))، ولك أن تتصور حال أمة يلزم الشيطان قضاتها.
إن من أهم واجبات القاضى الحر النزيه ألا ينحاز إلى أحد الخصمين، حتى ولو كان متفقا معه فى الدين أو المذهب أو الرأى السياسى، أو قريبا أو أبا أو ابنا أو زوجا ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (النساء: 135)، أى لا يدفعنكم ميلكم لشخص ما ولو كان من قرابتكم إلى الحكم لصالحه، ولا يحملنكم بغضكم لشخص ما أن تجوروا عليه ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8].
التحذير من الميل مع الهوى:
بلغ من تحذير الإسلام للقضاة من الوقوع فى أدنى ميل مع الهوى أن النبى صلى الله عليه وسلم حذر من إظهار أدنى إشارة تكشف عن ميل فى نفس القاضى، فقد أخرج البيهقى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنِ ابْتُلِى بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِى لَحْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ)) وفى رواية: «وَكَلَامِهِ». كما روى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنِ ابْتُلِى بِالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَرْفَعَنَّ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَا يَرْفَعُ عَلَى الْآخَرِ)). وكان عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: ((وَيْلٌ لِدَيَّانِ مَنْ فِى الْأَرْضِ مِنْ دَيَّانِ مَنْ فِى السَّمَاءِ، إِلَّا مَنْ أَمَّ الْعَدْلَ، وَقَضَى بِالْحَقِّ، وَلَمْ يَقْضِ عَلَى رَغَبٍ, وَلَا رَهَبٍ, وَلَا قَرَابَةَ، وَجَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ مِرْآةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ)).
ولهذا كان القاضى فى الدولة الإسلامية فى مجلس قضائه محترما مهيبا، لا تأخذه فى الحق لومة لائم، يُسوِّى فى مجلسه بين الأمير والحقير، وبين الشريف والوضيع، وقد جَاءَ رَجُلٌ إلَى شُرَيْحٍ، وَعِنْدَهُ أحدُ أصحابِه، فَقَالَ الرَّجُلُ لِشُرَيْحٍ: أَعِنِّى عَلَى هَذَا الْجَالِسِ عِنْدَك. فَقَالَ شُرَيْحٌ لصاحبه: قُمْ فَاجْلِسْ مَعَ خَصْمِك. قَالَ: إنِّى أُسْمِعُك مِنْ مَكَانِي. قَالَ: لَا قُمْ فَاجْلِسْ مَعَ خَصْمِك. فَأَبَى أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ حَتَّى أَجْلَسَهُ مَعَ خَصْمِهِ. وَفِى رِوَايَةٍ قَالَ: إنَّ مَجْلِسَك يُرِيبُهُ، وَإِنِّى لَا أَدَعُ النُّصْرَةَ وَأَنَا عَلَيْهَا قَادِرٌ.
ويرحم الله القاضى أَبَا يُوسُفَ الذى قَالَ فِى مُنَاجَاتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: «اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّى مَا تَرَكْت الْعَدْلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا فِى حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فَاغْفِرْهَا لِى» قِيلَ: وَمَا تِلْكَ الْحَادِثَةُ؟ قَالَ: «ادَّعَى نَصْرَانِى عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ دَعْوَى فَلَمْ يُمْكِنِّى أَنْ آمُرَ الْخَلِيفَةَ بِالْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسَهُ وَالْمُحَابَاةِ مَعَ خَصْمِهِ، وَلَكِنِّى رَفَعْت النَّصْرَانِى إلَى جَانِبِ الْبِسَاطِ بِقَدْرِ مَا أَمْكَنَنِى، ثُمَّ سَمِعْت الْخُصُومَةَ قَبْلَ أَنْ أُسَوِّى بَيْنَهُمَا فِى الْمَجْلِسِ، فَهَذَا كَانَ جَوْرِى».
القاضى لا يقبل الهدية:
لهذا كانت الشريعة حريصة على منع القاضى من قبول الهدايا من الأفراد أو الجهات، قليلة كانت أو كثيرة، قبل الحكم أو بعده، وقد أخرج البيهقى أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُهْدِى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِى اللهُ عَنْهُ كُلَّ سَنَةٍ فَخِذَ جَزُورٍ, قَالَ: فَجَاءَ يُخَاصِمُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِى اللهُ عَنْهُ, فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, اقْضِ بَيْنَنَا قَضَاءً فَصْلًا كَمَا تَفْصِلُ الْفَخِذَ مِنَ الْجَزُورِ, قَالَ: فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِى اللهُ عَنْهُ إِلَى عُمَّالِهِ: «لَا تَقْبَلُوا الْهَدْىَ, فَإِنَّهَا رِشْوَةٌ». وأخرج البيهقى عن مَالِك، قَالَ: أَهْدَى رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَكَانَ مِنْ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِى اللهُ عَنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ لِامْرَأَةِ عُمَرَ رَضِى اللهُ عَنْهُ, فَدَخَلَ عُمَرُ فَرَآهُمَا, فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ لَكِ هَاتَيْنِ؟ اشْتَرَيْتِهِمَا؟ أَخْبِرِينِى, وَلَا تَكْذِبِينِى», قَالَتْ: بَعَثَ بِهِمَا إِلِىّ فُلَانٌ, فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلَانًا, إِذَا أَرَادَ حَاجَةً فَلَمْ يَسْتَطِعْهَا مِنْ قِبَلِى أَتَانِى مِنْ قِبَلِ أَهْلِى فَاجْتَبَذَهُمَا اجْتِبَاذًا شَدِيدًا مِنْ تَحْتِ مَنْ كَانَ عَلَيْهِمَا جَالِسًا, فَخَرَجَ يَحْمِلُهُمَا, فَتَبِعَتْهُ جَارِيَتُهَا فَقَالَتْ: إِنَّ صُوفَهُمَا لَنَا, فَفَتَقَهُمَا, وَطَرَحَ إِلَيْهَا الصُّوفَ, وَخَرَجَ بِهِمَا, فَأَعْطَى إِحْدَاهُمَا امْرَأَةً مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ, وَأَعْطَى الْأُخْرَى امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ.
بل بالغ ابن مسعود رضى الله عنه فاعتبر أن قبول القاضى الهدية وحكمه لصالح من أهدى له باب من الكفر، فقد أخرج البهقى عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنِ السُّحْتِ, أَهُوَ رِشْوَةٌ فِى الْحُكْمِ؟ قَالَ: «لَا ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ وَ﴿الظَّالِمُونَ﴾ وَ﴿الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 44-47] , وَلَكِنَّ السُّحْتَ أَنْ يَسْتَعِينَكَ رَجُلٌ عَلَى مَظْلِمَةٍ فَيُهْدِى لَكَ فَتَقْبَلَهُ, فَذَلِكَ السُّحْتُ».
بل حرص الإسلام غاية الحرص على أن يكون القاضى فى سلوكه بعيدا عن الشبهات، مهيبا وقورا بعيدا عما يلثم المروءة، فليس له أن يعمل بالتجارة لما يخشى من محاباة الناس له، وقد يقف هذا المحابى خصما بين يديه يوما، قال الإمام الشافعى رحمه الله تعالى: «وأكره له -أى للقاضى- البيع والشراء خوف المحاباة والزيادة» لأنه إذا باع واشترى لم يؤمن أن يسامح ويحابى فتميل نفسه عند المحاكمة إلى مسامحة ومحاباة من سامحه وحاباه، ويقاس على البيع والشراء سائر أعمال التجارة الأخرى حسب الظروف والأحوال.
وحرصت الأمم كلها على تحقيق الكفاية للقاضى حتى تضمن استقلاله وعدم تطلعه لما فى أيدى الناس، واهتمت الدساتير فى الدول الحديثة بتوفير الاستقلال الكامل للقضاة، ومنع الحكام من التدخل فى تعيينهم وعزلهم، حتى تحقق لهم الأجواء الطبيعية لتحقيق العدل بعيدا عن أى رغب أو رهب، ولذلك فإن الدساتير والقوانين تأخذ القضاة بأدنى شبهة، فإن تعمد الجور فى قضية من مئات القضايا فهو خطأ كاف لفقده الصلاحية وإحالته إلى المعاش.
إن العدل فى الحقيقة هو إحساس يشعر به المجتمع من خلال أحكام القضاء التى تردع المخطئ والمجرم وتحفظ الحقوق لأصحابها، فإذا فقد الناس هذا الإحساس فإن مجرد سلامة إجراءات التقاضى لا تمنح الناس الثقة بالقضاء باعتباره العمود الفقرى للمجتمع السليم.
غضبة طبيعية:
لهذا كله كان من الطبيعى أن نرى هذه الغضبة الشعبية من بعض القضاة، الذين يتسارعون فى تبرئة وإخلاء سبيل القتلة واللصوص والبلطجية لأدنى خلل فى الإجراءات، فى الوقت الذى يحبسون فيه الثوار والشرفاء لأدنى شبهة، ومن بعض القضاة الذين قبلوا الهدايا من الأفراد والمؤسسات الفاسدة، والذين اتهموا فى قضايا استيلاء على أموال الناس، ومن تأخر الهيئات القضائية العليا فى كشف الحقائق للرأى العام وتلكؤهم فى اتخاذ إجراءات صارمة تجاه من يثبت عليه أدنى ميل، ومؤسسة القضاء الآن فى مفترق طرق بين أن تؤكد مكانتها العظيمة فى نفوس الشعب، وبين أن تدع الشكوك والريب تسرى فى نفوس الناس تجاه مؤسستهم العظيمة التى يفخرون بها ويباهون بها.
ولست أبدا مع الذين يدافعون عن القضاة الذين يعلنون مواقف سياسية من مؤسسات الدولة أو أحزابها أو جماعاتها عبر الفضائيات، فهذا خطأ جسيم لا يمكن تبريره، ودفاع البعض بأن هؤلاء القضاة هم من حكم فى كثير من القضايا ضد نظام مبارك ولصالح الإسلاميين هو دفاع ساقط؛ لأن الأصل هو أن يقوم القاضى بالحكم بالحق فى كل ما يعرض عليه، فإن حكم فى تسع وتسعين قضية بالحق، ومال مع الهوى فى واحدة ذهبت الواحدة بالتسع والتسعين.
وفى الختام أذكر الجميع بحديث النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِى الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِى النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِى فِى الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِى الْحُكْمِ، فَهُوَ فِى النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِى النَّارِ».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.