يرتفع نعيقُ الغربانِ فى السماء.. فهناك اضطراب ما على الأرض. لا جديد....تشابه، تعاقب، القديم هو الجديد، اليوم هو الغد، الحاضر هو المستقبل، المجهول والمعروف سواءٌ عندى.. الربيع خريفٌ والشتاء صيفٌ.. لا تمييز فهو التكرارُ التكرارُ... كلماتٌ هامسة يكاد السامع- فى وقت يُسمَع فيه دبيب الحشرة- لا يفرقُ بينها وبين نعيقِ هؤلاء الغربان السابحة فى الأعلى، على الرغم من اختلاف شدة صوتهما. أهناك سابق معرفة بين صاحبنا المجهول مُصدِر هذا الهمس وبين هذه الغربان؟! أم هو شعور فُطرَت عليه الكائنات بجميع أصنافها فلا تعجب فيه ولا دهشة؟! أخذت الحيرة تصيبنى من أمرى، وتضرب برأسى العديد من الأسئلة التى لا إجابة لها.. توقفت كالذئب مراقبًا الفريسة أقصد مراقبًا لصاحبنا المجهول وأصدقائه الغربان عن قرب، فتملكنى الفضول لمحادثة هذا المجهول لكى أتعرف على سر كلماته الهامسة هذه. "صخرةٌ صماءٌ فى ليلةٍ ظلماءٍ".. تنتظر الموجة التى تعصف بها لتصدر همسًا تلو الهمس سرعان ما ينقلب صراخًا.. هكذا حال مجهولنا الشارد (الذى أنوى الحديث معه).. أعتقد أن فضولى سوف يصطدم بهذا الصراخ فيقذف بى من حيث أتيت (محاولة.. الله أعلم). - تُصدَر العديد من الأصوات فتأتى تأثيراتنا وانفعالاتنا مسايرة لتلك الأمواج متناسقةً معها أو تأتى مشوشةً لها ومنفرة منها.. فهناك صوتٌ حزينٌ ملىء بالشجون وصوتٌ آخر سعيدٌ ملىء بالفرحة.. صوتٌ قوىٌ ملىء بالثقة، وصوتٌ منكسرٌ ملىء بالخوف.. كل هذه الأصوات ما هى سوى قشرة تخفى وراءها براكين من الخبايا والأسرار. - ترتسم ابتسامةٌ شاحبةٌ على وجه صاحبنا كأنه أحس أنى أقصد همسة(هذية) فحمدت الله أن صراخه الذى كنت أظنه تحول إلى ابتسامة حتى لو كانت باهتة (أرحم من الصريخ).. فقال بنوع من الحيطة ماذا تقصد؟! - كيف يكون الشتاء صيفًا؟....هل سيكون حارًا أم باردًا؟ - بعد نظرة إلى الأسفل لم تتجاوزْ بضع ثوانٍ كأنه حديث نفسى.. ألم تتصفح يومًا ما كتابًا فوجدت أن جميع صفحاته تحتوى على حروف وكلمات لها نفس المعنى فإذا حاولت أن تقرأه من نهايته إلى بدايته لم تجدْ فرقًا إذا قرأته من البداية إلى النهاية كجميع خلق الله.. فى حلقةٍ مفرغةٍ أعيش فى مسلسل كل حلقة فيه صدى لما قبلها فأبطالها يرددون نفس الكلام دون ملل. - لم أقرأْ. لم أسمعْ. لم أشاهدْ. أعتقد أن ذلك الكتاب المقلوب من تأليفك، وذلك المسلسل الفاشل من إخراجك، وتلك الحلقة المفرغة من صنعك، استسلمت لكل دورة فيها فوجدت أنك حققت اللاشىء حتى انقطعت أنفاسك.... - انتهيت من قراءة فنجان أفكارى؟!.. أنت لا تعلم شيئاً (فى غضب) - إن الآلية والتكرار سنة وضعها الخالق سبحانه وتعالى لتنظيم هذا الكون، ونحن جزء من تلك الآلية وذلك التكرار، والعادة هى اختيارنا لمحاكاة هذه السنة الكونية.. فالعادة هى صراط وخيطٌ رفيع –لا يسلكه إلا الأقوياء- كلما تجاوزت خطوة منه فإنك تكتسب قوة وتمتلئ ثقة وتلقى بشعور الملل المريض إلى أسفل سافلين، فيعبر بك إلى الإبداع.. الإبداع فى كل شىء وفى كل وقت.. اختيار العادة وترويضها هى طعام وشراب بالنسبة للأقوياء، فإذا استسلمنا لتُقيدنا العادة أصبحنا ندور فى الحلقة المفرغة التى قلت أنت عنها نخرج منها بعد أن تضعف قوتنا فنحاول أن نحرر إرادتنا بعد أن سجنتها حلقة العادة.. اللهم اهدنا الصراط المستقيم. - أمين.. فعلاً حان وقت الخروج من ذلك السجن. رحلة قصيرة يقضيها صاحبنا فى جو سريرته.. تنتشر بعدها الراحة على وجهه مع ظهور النور فى السماء (يظهر أنه يعبر أكثر مما يتكلم).. قبل أن ينطق بحرف.. إذا بغرابٍ ينزل من السماء فقد وجد طعامًا ما على بعد خطوات من مجلسنا، فيأتى نسرٌ من فوقه يحاول أن ينقض عليه ويلتهم رزقه، فاستمر الغراب يبعده بجناحيه حتى ينجح بعد مجاهدة وعدم استسلام شأنه فى هذا شأن الأقوياء.. سبحان الله.. سبحان الخالق البديع. كلمتان تفوهنا بهما أنا وصاحبنا الشارد.. فقد ظل الغراب واعظًا لنا منذ عهد ابنى آدم عليه السلام.