تعرف الضاحية الباريسية منذ عشرة أيام، تصعيدا لموجة من العنف غير المسبوق في التاريخ الحديث لفرنسا. فقد أضحت المواجهات التي تندلع كل ليلة ديكورا يلازم العاصمة الفرنسية الغارقة منذ عقود في أزمات اجتماعية خانقة، لم تفلح وسائل التمويه هذه المرة في التغطية عنها، لأن ما تتناقله مختلف الفضائيات من صور صار أكبر من أن يتستر عنه مثلما جرت العادة قبل اليوم. وليست المرة الأولى التي يخرج فيها شباب "الضاحية"، لأن الشيء المؤكد هو أن هؤلاء لا يعتبرون أنفسهم ثوارا من غير هدف مثلما تريد إيهامنا وسائل الإعلام الفرنسية، لقد خرج الشبان هذه المرة بُعيد أن توفي اثنان منهم بطريقة نازية شائنة في أحد مخافر الشرطة صعقا بالكهرباء يوم السابع والعشرين من شهر تشرين الأول المنصرم. إن "الثورة" الأخيرة تحمل في أحشائها كل معاني البؤس والتهميش الذي تعانيه هذه الشريحة سليلة أمواج المهاجرين الذين اضطرتهم فرنسا الاستعمارية إلى الرحيل عن أوطانهم والرضا بكل مظاهر الميز العنصري والعرقي في سبيل تحصيل لقمة العيش خلال منتصف القرن الأخير. لقد تغير هذا الواقع الآن ولم يعد أبناء أولئك القادمين الأوائل ملزمين بالرضا عن تلك المهانة، بعد أن صمت آذانهم تصريحات الرسميين الفرنسيين في الحكومات المتعاقبة على الجمهورية أن "إجراءات" الإدماج تسير بخطى واثقة، رغم أنها لم تحقق شيئا منذ ما يزيد على أربعة عقود. إن المشاهد الراهنة ترجعنا إلى سنة 1961 وبالضبط إلى تاريخ السابع عشر من ذات الشهر الذي اندلعت فيه هذه الثورة الجديدة، حينما "اضطرت" الشرطة الباريسية إلى أن تقمع مئات المهاجرين الجزائريين وقتها، لا لذنب سوى لأن هؤلاء كانوا يرفضون أن يعيشوا بمعزل عن واقع بلادهم، وقتها كان الاستعمار يلفظ أنفاسه. والسلطة نفسها التي كانت تفاوض الثوار في الجزائر، لم تجد أدنى حرج بالموازاة مع هذا في أن تأمر جلاديها من البوليس بأن يعمدوا إلى رمي كل ما يمكن رميه من بين تلك "الحثالة" -وهي الصفة التي لم يجد الفرنسيون غيرها آنذاك- في نهر السين لتقتل العشرات. لم تتغير الذهنية هذه مع الأسف، ولم تثبت لنا الأحداث التي نعيشها اليوم سوى أن "الكبرياء" الفرنسي لا يمكنه أن يتغير، لأنه لا يحق لنا أن نفاجأ حينما نكتشف أن وزير الداخلية في الحكومة الفرنسية الحالية نيكولا ساركوزي لم يجد هو الآخر من وصف يطلقه على هذه الأمواج من الشباب المتذمر واليائس من جدب الوعود الكاذبة، غير العودة إلى القواميس نفسها واستعارة ذات الكلمة: "حثالة". إنها لمصادفة غريبة حقا أن يكون هذا الشخص هو الآخر سليل مهاجرين من دولة هنغاريا (المجر) الأوروبية الشرقية. ألا يعني هذا ببساطة شديدة أن "الإدماج" ليس موجها لكي يشمل الجميع؟ ألسنا نغالط أنفسنا لو حاولنا الانفلات من التفسير الوحيد الذي لا يعدو أن يكون الحرص الفرنسي على أن تبقى فرسنا دائما راعية لتلك الروح العنصرية المتوقدة؟ إن التدابير التي انتهجتها وزارة الداخلية لا تعدو أن تكون في الواقع مجرد إجراءات هدفها تعزيز حظوظ هذا الرجل الطموح جدا لأن يعتلي سدة الرئاسة خلال الانتخابات القادمة، إلا أن ما فات هذا القادم من بعيد، أن هذا "الردع" لن يؤدي إلا إلى مزيد من الثورة. إن الوضعية تتطلب معالجة سياسية حكيمة تمنع تكرار مثل الذي كان، بدل التعويل على أساليب لا تستعمل إلا في أوطاننا. فشل الأنموذج الفرنسي: هل يدرك الفرنسيون هذه المرة أن أنموذجهم في إذابة الفوارق المجتمعية في طريقه إلى الزوال والاندثار، رغم أنه يمثل القاعدة الأساسية التي بنوا عليها كل مقاربات السياسة التي قامت عليها جمهوريتهم الخامسة؟ . إن ما يقع الآن قد يعجل بانهيار ما بناه الجنرال ديجول قبل نحو خمسين سنة في سبيل قيام الفصل السادس منه، ولكننا ملزمون على أن نلاحظ بأن هذا الشكل من الحكم هو حاليا بصدد تجرع أوزار تلك الممارسات المنافقة التي لم تغادر مع الأسف ذهنية الكثيرين من الذين اعتلوا سدة الإدارة في فرنسا. إن فرنسا التي طالما تغنت بسعيها الدءوب نحو محو كل مظاهر الفرقة والطبقية، ولم تجد في سبيل ذلك حرجا في أن تمنع حتى بنات المسلمين من حقهن في تغطية رؤوسهن، لا تزال عاجزة في أن توفر العدالة للجميع. لقد أثبتت الأيام الأخيرة حجم الفارق في كبريات المدن بين الأحياء الراقية "المتحضرة" وبين تلك الضواحي البائسة التي لا تختلف كثيرا عن "الجيتوهات" Ghettosالتي يقطنها المهاجرون وأبناؤهم من المغاربة وكل اللاجئين الاقتصاديين والسياسيين من أفريقيا الغربية، فهؤلاء لم يكونوا يوما جزءا من المجتمع الفرنسي لأنهم ببساطة لم يكونوا إلا طبقة اجتماعية من درجة لم تعرف إلا مظاهر التمييز والاحتقار. إنه، ورغم أن هؤلاء الشباب هم في الواقع من أولئك الذين ولدوا و"تعلموا" في فرنسا، إلا أن هذا لم يشفع لهم في أن يرزحوا دائما تحت وطأة تلك الذهنية البليدة التي تأبى التفريق بينهم وبين آبائهم، وتحملهم فشل حكومات فرنسا المتتالية لتهرب من مواجهة الحقيقة المرة، وهي أنها لم تتمكن إلى اليوم من التخلص من العقلية الاستعمارية. إن فرنسا التي تتبجح بمثل المساواة تحشر مبعديها في مدن الصفيح بعيدا عن أنظار الأغلبية، وبدون وجود سياسات عامة تتوجه إلى الشباب وعائلاتهم بتفهم واحترام لهويتهم، لن تتمكن فرنسا من تخطي شرخ ثقافي وسياسي واجتماعي. المصدر : العصر