التقرير الذي نشرته النيويورك تايمز الأسبوع الماضي لمدير مكتبها السابق في القاهرة "ديفيد كيركباتريك" هو تقرير من النوع الثقيل مهنيا ، فهو متخم بالمعلومات والمقابلات ، وهو نموذج للعمل الصحفي "المتعوب عليه" ، وهو ما نفقتده كثيرا في صحافتنا العربية إلا ما ندر ، والحقيقة أن التقرير مشحون بالمعلومات والأحداث الصغيرة التي جرت في الغرف المغلقة في أكثر من عاصمة ، وإن كانت بعض أجزائه في خطوطها العامة لم تغير كثيرا مما انتشر وعرف بعد ذلك ، مثل أن الإمارات دعمت التحركات التي انتشرت ضد الرئيس المعزول محمد مرسي ، فهذا شرح في المشروح ، وحتى الإمارات نفسها لم تعد تنكر ذلك الآن . غير أن التقرير كشف بعض الأمور المهمة ، والمفيدة لنا كدروس في الوعي بحسابات السياسة المحلية والإقليمية وطبيعة ارتباطها بمراكز القرار الدولي المهمة ، مثل واشنطن ، فالتقرير كشف عن أن الرئيس الأمريكي "أوباما" ظل حتى اللحظة الأخيرة يتمسك بالأمل في أن يقدم الدكتور محمد مرسي على إجراء سياسي شجاع يخلط الأوراق وينقذ الوضع من الانهيار ، وفي آخر اتصال له كما روى باتريك ألح عليه أن يقتدي بالزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا ، الذي تصالح مع أعدائه ، وحتى حارس الزنزانة التي كان يقبع فيها مانديلا في سنوات القمع ، عينه مسئولا أمنيا بعد توليه السلطة ، وقال أوباما لمرسي أن هذه لحظة تاريخية وتحتاج إلى شجاعة القرار وشجاعة التنازلات الضرورية ، المكالمة ربما توضح أن "أوباما" كان لديه أمل في نجاح التجربة الديمقراطية في مصر ، وأنه رغم الأداء السيء من الإخوان وكوادرهم إلا أنه ظل متمسكا بالأمل في أن ينجحوا في احتواء خصومهم ويطرحوا مبادرات شجاعة بتنازلات ضرورية لإنقاذ سفينة الحكم ، وبطبيعة الحال لم يستجب الدكتور مرسي لشيء من ذلك ، بل إنه في خطابه الأخير قبل عزله بيوم واحد لم يفكر حتى في تغيير رئيس وزرائه هشام قنديل أو أي شيء عملي يهدئ من عصبية الحشد ضده ، واستغرق خطابه كاملا في حديث عاطفي عن الشرعية وحماية الشرعية . التقرير كشف عن أن كثيرين في إدارة أوباما لم يكونوا على اتفاق مع الرئيس الأمريكي في الموقف من تجربة الإخوان في مصر ، وأن بعضهم كان متأثرا بالمخاوف التي طرحتها عواصم إقليمية من تجربة الإخوان وخطورتها ، كما أن تقييم الخارجية الأمريكية لتجربة الإخوان في الحكم كانت شديدة السلبية ، وروى "باتريك" أن وزير الخارجية جون كيري عندما زار القاهرة والتقى مرسي خرج بانطباع سيء للغاية عنه ووصفه بأوصاف لا تليق ، وقال أن هؤلاء لا يمكن أن ينجحوا ، هؤلاء "مجانين" ، حسب قوله الذي نقله التقرير . أكثر ما يوجع قلبك في روايات "باتريك" عن تناقضات الموقف داخل الإدارة الأمريكية ، بين البيت الأبيض والخارجية والدفاع ، هو تصور أن مصير البلاد والعباد في الشرق أحيانا يكون متوقفا على وحدة القرار السياسي في واشنطن ، أكثر من أن يرتبط بشيء آخر ، وأن الانقسام الشديد في الرأي داخل الإدارة الأمريكية تجاه الموقف مما يجري في مصر هو الذي أضعف أي دور أمريكي في مجريات الأمور ، ويروي "باتريك" أن الإدارة الأمريكية كانت لديها معلومات قبل شهور عن تحرك يجري الإعداد له في القاهرة سينهي كل شيء ، وأن السفيرة الأمريكيةبالقاهرة وقتها "آن باترسون" أبرقت رسالة مشفرة إلى واشنطن تقول فيها : إن لم يكن خلال أيام فسيكون خلال أشهر قليلة ، سيحسم الجيش كل شيء في مصر . التقرير أشار إلى فزع عواصم خليجية من تجربة الإخوان ، بعد أن ظهرت تصريحات ومواقف سياسية وبرلمانية وديبلوماسية فهمت على أنها تحرش بعواصم خليجية ، ومن ذلك لغة التهديد المبطن التي وجهها قيادات الإخوان في البرلمان والخارجية والقصر الرئاسي نفسه تجاه الإمارات ، على خلفية اعتقال أبو ظبي عددا من كوادر الإخوان هناك ، وطلب قيادات الإخوان إطلاق سراحهم فورا ، وهو ما أرعب دوائر القرار في أبو ظبي من صورة المستقبل في ظل حكومة مثل هذه في أهم عاصمة عربية . تقرير مدير مكتب النيويورك تايمز السابق في القاهرة مهم جدا ، ومن الضروري أن يقرأه بهدوء وتمعن كل المهتمين بالتجربة التي حدثت في مصر ، ففيه من الدروس ما يحتاجه كثيرون في مصر الآن ، وخاصة المعارضة بشقيها المدنية والإسلامية ، ولعل الدرس الأهم فيه أن السياسة والحكم والنجاح في إدارة الدولة ، أعقد كثيرا من مجرد أن تحصل على عدد أصوات أكثر في صندوق الانتخابات . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1