رغم أن الوقت لا يزال مبكراً لتقييم نتائج الانتخابات التشريعية في مصر، إلا أن نتائج مرحلتها الأولى التي تمت يوم الخميس الماضي (10/11) كشفت عن مجموعة من النتائج المثيرة، أهمها أنه باستثناء الحزب الوطني الحاكم، فإن جميع الأحزاب المصرية المعترف بها ومنها (12 حزباً) تشارك في الانتخابات لم يفز أحد من مرشحيها في تلك الجولة، في حين أن حركة الإخوان المسلمين المحظورة قانوناً فازت بأربعة مقاعد (أعلن رسمياً عن فوزها بمقعد خامس ثم عدلت نتيجة الفوز بعد ذلك)، وخاض 42 من مرشحي الجماعة انتخابات الإعادة التي تمت أمس، في منافسة مكشوفة للحزب الحاكم. الانتخابات التي تقرر إجراؤها على ثلاث مراحل جرت في 82 دائرة، والمنافسة فيها كانت على 164 مقعداً في المجلس النيابي، غير أن الحزب الحاكم لم يفز إلا ب 26 مقعداً فقط، ويفترض أن يحسم مصير بقية الدوائر بعد انتهاء فرز أصوات انتخابات الإعادة، وكانت أبرز الملاحظات على المرحلة التي تمت هي: * أن الشرطة التزمت الحياد في المعركة، ولكنه كان «حياداً سلبياً» بإجماع المراقبين، بمعنى أنها لم تتدخل لصالح أحد من المرشحين، ولكنها لم توقف الممارسات غير القانونية التي لجأ إليها بعض المرشحين، خصوصاً تلك التي تمثلت في شرائهم للأصوات بمبالغ كبيرة تحدثت عن تفصيلاتها الصحف القومية، ولأن رجال الأعمال أصبحوا لاعبين مهمين في الساحة السياسية، فإن ذلك كان عنصراً أسهم في ارتفاع أسعار الأصوات. من تلك الممارسات أيضاً عمليات التعدي و«البلطجة» التي لجأ إليها أنصار بعض المرشحين، الأمر الذي دعا بعض الصحف المصرية إلى الحديث عن «ميليشيات» للمرشحين الأقوياء، تولت ترهيب وتأديب أنصار المرشحين المنافسين. * ثارت شكوك كثيرة حول تدخلات أجهزة الإدارة، من خلال التلاعب في كشوف أسماء الناخبين، وإجراء عمليات قيد جماعي لصالح بعض المرشحين في الحزب الحاكم، كما أن الإعلان رسمياً عن فوز أحد مرشحي الإخوان في القاهرة، ثم تعديل النتيجة بعد ذلك لصالح مرشحة للحزب الوطني (وزيرة سابقة أصبحت وكيلة للمجلس النيابي السابق). هذه الواقعة أثارت شكوكاً من جانب منظمات المجتمع المدني في عملية احتساب الأصوات. * عزز من تلك الشكوك أن كل وزراء الحزب الحاكم نجحوا في الجولة الأولى، ولم يخسر أحد مقعده، في حين أن الدوائر التي رجح فوز مرشحي الإخوان بمقاعدها، أجلت فيها النتائج إلى ما بعد انتخابات الإعادة. * نسبة المشاركة في التصويت كانت متواضعة، ففي حين ذكر البيان الرسمي أن النسبة اقتربت من 25% فإن إحدى الجمعيات الأهلية (الجمعية المصرية لدعم التطور الديمقراطي) ذكرت في بيان لها أن نسبة المشاركة لم تصل إلى 15% في معظم الدوائر، وأنها انخفضت في بعض اللجان إلى 3%، الأمر الذي يعني أن الحماس الجماهيري للمشاركة في الانتخابات لا يزال مفتقداً إلى حد كبير. لم يتوقع أحد أن يفقد الحزب الوطني الحاكم أغلبيته في المجلس النيابي القادم، وكان أقصى ما تتمناه أحزاب المعارضة أن تحصل على ما بين 25 و35% من الأصوات، الأمر الذي يوفر لها حوالي ربع مقاعد البرلمان، غير أن مؤشرات الشق الذي أعلن في المرحلة الأولى لا توحي بإمكانية بلوغ هذه النسبة، وإذا استمرت المعدلات على النحو المعلن حتى الآن، فذلك سيعني أن المجلس النيابي القادم سيكون ضعيفاً إلى الحد الذي يجعله نسخة من السابق، وهو عامل سلبي يجهض الكثير من الآمال التي علقت على احتمالات الانفراج السياسي والتحول الديمقراطي، التي جرى الترويج لها بعد التعديل الدستوري الذي سمح بالتنافس على منصب رئيس الجمهورية، لا يقل أهمية عن ذلك أن غياب المعارضة أو ضعفها لن يمكنها من المشاركة في انتخابات رئيس الجمهورية القادم، لأن التعديل الدستوري الذي تم يسمح للأحزاب بذلك فقط إذا حصلت على 5% من مقاعد البرلمان. ورغم الفوز المنتظر للحزب الوطني، إلا أنه من زاوية التحليل السياسي فإن الفائز الأكبر في كل الأحوال هم الإخوان المسلمون.. لماذا؟ * لأن الإخوان أثبتوا خلال الحملة الانتخابية حضوراً في الإدراك للعامة وفي الشارع السياسي وفي وسائل الإعلام، لم يتوفر لهم منذ خمسين عاماً، وإذ يحسب للأوضاع الراهنة أنها رفعت كثيراً من سقف التعبير وحرية الحركة، فإن حركة الإخوان والصحف المستقلة والمعارضة استفادت كثيراً من تلك الأجواء، وفيما يتعلق بالإخوان فإنهم نظموا حملة انتخابية علنية رفعت شعاراتهم ونداءاتهم في كل أنحاء مصر، حيث لم تخل قرية أو مدينة أو شارع رئيسي من لافتات باسم الإخوان المسلمين، وتلك صورة لم يألفها المجتمع المصري منذ حل الجماعة في عام 1954، حيث كان أعضاؤها في أحسن أحوالهم يعملون متحالفين مع آخرين ورافعين لراياتهم، ولم يحدث من قبل أن أسفروا عن وجودهم بهذه الدرجة من العلانية، وحين أتيح لهم أن يشاركوا في برلمان عام 1987 بعدد من الأعضاء غير مسبوق (35عضواً) فإنهم خاضوا المعركة الانتخابية بالتحالف مع حزب العمل وكانت لافتاتهم تحمل اسم «التحالف الإسلامي»، ولم يذكر اسم الجماعة في اللافتات والملصقات. * إلى جانب حضورهم القوي والعلني في ساحة العمل العام، فإنهم وجدوا أنفسهم قطباً مهماً في الساحة السياسية، تخطب وده مختلف القوى السياسية للاستفادة من جماهير الجماعة وحضورها في الشارع، بل إنها فرضت شعاراتها على الآخرين أيضاً، حتى أن أحد مرشحي الحزب الوطني لجأ إلى رفع شعار «القرآن هو الحل»، لكي يجذب الجمهور الذي تجاوب مع شعار الإخوان «الإسلام هو الحل»، ورغم أن شعارهم أثار جدلاً في أوساط المثقفين، إلا أن محكمة القضاء الإداري لم تجد فيه مخالفة قانونية، حين عرض الأمر عليها في قضية مستعجلة رفعها أحد المرشحين المنافسين، طالباً وقف استخدام الشعار، وكان ذلك الحكم أحد المكاسب التي حصدتها الجماعة من وراء الانتخابات. * بسبب ضعف الأحزاب السياسية في مصر، فإن الإخوان بدوا في المشهد الانتخابي وكأنهم القوة الوحيدة المنافسة للحزب الوطني، الأمر الذي وجه رسالة إلى الجميع في الداخل والخارج نبهتهم على أن حضورها لم يعد ممكناً تجاهله، بالتالي فإن الإصرار على وصفهم بالجماعة المحظورة بدا أمراً غير مستساغ، وهو ما دفع بعض عقلاء المحللين السياسيين في مصر إلى الدعوة إلى إضفاء الشرعية عليهم، حتى لا يطول أجل المفارقة التي باتت تخصم من رصيد احتمالات الانفراج السياسي. * تبين من إحصاء الأصوات التي حصل عليها مرشحو الجماعة، الذين فازوا والذين دخلوا مرحلة الإعادة، أن نسبتهم مثلت 35% من مجموع الناخبين، وذلك رقم مرتفع له دلالته البالغة، من حيث أنه يثبت لهم موقعاً بارزاً في الخريطة السياسية، رغم كل الضغوط وحملات التعبئة التي استهدفت تشويه صورتهم وحصارهم سياسياً. * التدخلات التي حدثت لصالح الحزب الحاكم، والتي أفاضت الصحف المستقلة والمعارضة في وقائعها وتفاصيلها، أكسبت الحزب مقاعد أكثر في المجلس النيابي، لكنها سحبت الكثير من رصيد ثقة الرأي العام في صدق توجه الحزب إلى الإصلاح السياسي، وهو ما أضعف الحزب من الناحية المعنوية والسياسية في أوساط الرأي العام، وهذا الإضعاف صب في صالح الإخوان المسلمين في نهاية المطاف، من حيث إنه دفع البعض إلى الانصراف بآمالهم عن الحزب الوطني، وتحولهم إلى تلك القوى البديلة الصاعدة، التي لم تختبر. هذا كله حصدته حركة الإخوان قبل أن تعلن النتائج النهائية للانتخابات، لذلك قلت إن الإنجاز الذي حققوه أثناء الحملة الانتخابية وقبل النتائج الأخيرة يتجاوز بكثير ما يمكن أن يحققوه داخل البرلمان، أياً كان عددهم، طالما أن الأغلبية معقودة للحزب الوطني، لأنهم سيظلون أقلية في هذه الحالة، وستظل حركتهم محكومة بإرادة الأغلبية من ناحية، وبالنصوص التي تقيد الاستجواب وتضعف من موقف البرلمان في مواجهة السلطة، حيث ليس بمقدور أعضاء المجلس أن يسحبوا الثقة من أي وزير أو أن يعدلوا في الميزانية، ناهيك عن أن صوتهم في داخل البرلمان يسمع بصعوبة خارجه، بسبب موقف وسائل الإعلام الخاضعة للتوجيه الحكومي، ولذلك فإن الإخوان الذين يشاركون في المجلس النيابي أصبحوا يلجأون في نهاية كل مجلس إلى جمع مداخلاتهم واستجواباتهم وطباعتها في كتب تطرح في الأسواق، لكي ينقلوا إلى الرأي العام صورة لمشاركاتهم التي لم يمكن من متابعتها. ----- صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في 16 -11 -2005