كما ل حبيب لم يكن العثمانيون يعرفون أنفسهم بأنهم أتراك ، فالتركي كان إشارة إلي الجماعات الشعبية غير الحضارية التي تعيش في منطقة الأناضول ، وحتي نهاية عصر السلطان عبد الحميد ( 1876-1908م ) كانت كلمة التركي تشير إلي عدم التحضر ، كانت الرابطة التي تجمع الشعوب العثمانية الشرقية هي الولاء للإسلام والولاء للبيت العثماني أو السلطان العثماني . كانت العصبية العثمانية للدولة وللدين وعلي فكرة فإن التأثير المباشر علي الحركة الإسلامية في أهمية الدولة وارتباطها بالدين مصدره التصور العثماني عن العلاقة بين الدين والدولة ، فالدولة مهمة جداً عند العثمانيين لحماية الدين وإعزازه والحفاظ عليه . وكما هو معروف فإن مفتاح فهم الاجتماع العربي هو العصبية التي تقوم علي العرق العربي وعصبية الدم العربي كما هو عند بن خلدون في مقدمته الشهيرة ولكن عند العثمانيين العصبية كانت تعبيراً عن رابطة تجمع كل أولئك الذين لهم ولاء للدولة وللبيت العثماني . ولأول مرة في التاريخ تستطيع دولة ممتدة علي ثلاث قارات كاملة أن تحكم شعوباً من غير ملتها أو عرقها أو دينها في ظل سياق شهد له كل المتخصصين بالنموذج المثالي للتعايش الآمن المستقر ولا يمكن فهم ذلك إلا عبر مفهوم العثمانية الذي هو تعبير عن المواطنة بالمعني الحضاري الذي يعني ولاء غير المسلم للدولة حتي ولو كان مختلفاً معها في دينها . لم يخرج جيش عثماني لم يكن ضمن فصائله مجموعات مكونة من غير المسلمين لحماية الدولة ومد سلطانها وأرضها ، وضمنت الدولة الحرية الدينية الكاملة لمخالفيها في الدين فيما عرف" بنظام الملة العثماني " وهو نظام أصيل أخذه الغرب عنا ومحوره هو الاعتراف بتقاليد المجموعات الدينية وثقافتها وحريتها وحقها في الممارسة الشعائرية والتعبدية ، المجموعات المختلفة مع الدولة في الدين تأخذ كامل حقها في الحفاظ علي تقاليدها وعاداتها وممارساتها ، ولكن شرط الترقي داخل النظام العثماني مرهون بتحول من يريد ذلك إلي الإسلام . ولذلك تجد المطبخ العثماني فريد جداً فقد جمعتني مع الوفد المصري الذي حضر " مؤتمر الشرق " جلسة تحدثنا فيها عن الطعام التركي أو بالأحري العثماني ، وكان معنا صحفية لبنانية علي المائدة ، الكل اعترف للمطبخ العثماني بالثراء والتنوع المدهش الذي لاحدود له ، هل سمعت أن الباذنجان يمكن عمله شيكولاته ، العهدة في تلك الرواية علي الأستاذ فهمي هويدي الذي روي لنا هذه الأعجوبة ، الحلوي العثمانية مدهشة ومتنوعة ، المهم أنها تعبر عن ثقافة خاصة للعثمانيين فهم مخترعوها ومطوروها . ولمن لا يعرف فإن تركيا الجمهورية هي أقل في مساحتها من مصر ولكنها تتضمن حوالي ستة أقاليم مناخية مختلفة كلها لها نظام مناخي وزراعي وموارد وثقافات مختلفة ، ولكن الامتداد التركي الأفقي في منطقة الأناضول يعطي الانطباع بضخامة حجم تركيا . لم يستطع " أتاتورك " المتغرب الكاره لكل التراث العثماني أن يعيش في اسطنبول فكل ذرة فيها تحكي قصة عثمانية حاضرة ناطقة ، والمدهش أن السلاطين تحولوا إلي أولياء صالحين في الحس التركي المعاصر بحيث تجد الجماعات يتجهن لزيارة قبر " الفاتح " ويقرأون القرآن علي روحه ، وأنا أحب مسجد الفاتح جدا وحين أنظر إلي قبره وقد جسد العثمانيون وجوده ووضعوا عمامته علي رأس قبره تشعر وكأنه حي يتابع مايجري . مررت بمسجد" بيازيد الثاني " الضخم وصليت فيه ثم مررت بقبر السلطان عبد الحميد حيث يرقد قبله بزيادة بسيطة السلطان عبد العزبز( 1861-1876 م ) وقبله بقليل يرقد السلطان محمود الثاني ( 1808-1839 ) ، قرأت الفاتحة بشكل خاص علي روح السلطان عبد الحميد وخلفهم قبور لزوجاتهم وأبنائهم الصغار . وللعثمانيين نظام غريب جدا في الدفن فتجد الأسرة كلها قبورها في مكان واحد وعلي رأس كل شاهد يقوم عمود رخام عليه عمامة إذا كان الميت من علماء الدين أو يكون عليه طريوش إذا كان من رجال الدولة وإذا كان طفل صغير فإن العمود الرخام يكون صغيرا والمرأة تعرف بشعرها وهكذا تكون أمام الأسرة جميعا وعادة ما يكون ذلك في محيط مسجد ضخم . كل المساجد التي صليت فيها كانت مملوءة بالمصلين وفي أوقات الآذان تجد الجميع يندفع إلي المسجد ويتوضأ رغم البرودة الشديدة وقطاعات المصلين من الأعمار الشابة ومن النساء والرجال والشباب منظر جعلني أقول" الله أكبر" من أتاتورك " ومن العلمانية ، فخيار شعب تركيا هو خيار الإسلام . وللحديث بقية [email protected]