إن استخدام القوة الناعمة في العلاقات الدولية بات من المواضيع ذات الأهمية البالغة في الأوساط الدولية، فأسلوب التهديد بالأسلحة النووية واستخدام الأسلحة التقليدية في الحروب بدأ يواجه انتقادات لأسباب عدة أهمها التكلفة التي تتكبدها الدول جراء الحروب والأسلحة النووية عالية جداَ هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن مستوى الدمار الذي ينتج كبير جداً ولا يتلاءم مع القيم والمبادئ الحديثة التي تؤمن بحقوق الإنسان واحترام الروح البشرية، لاسيما إن القوة الناعمة من الممكن أن تؤدي نفس الدور أو التأثير المطلوب فيما يتعلق بتغيير سياسة دولة ما لصالح دولة أخرى تجلي هذه الأهمية في التطور الذي تشهده العلاقات الدولية, حيث لم تعد الدبلوماسية التقليدية الرسمية وحدها كأداة تنفذ فيها السياسة الخارجية, وإنما أصبح هناك فاعلون جدد يشاركونها في تنفيذ أهداف وأولويات السياسة الخارجية باعتبارهم طرف مهم وفاعل على الساحة الدولية. وهي آلية الدبلوماسية الموازية غر الرسمية عبر وسائلها المختلفة من دبلوماسية برلمانية ومنظمات غير حكومية ووسائل الإعلام وتأثير الرأي العام والقوة الناعمة وجماعات الضغط والمنظمات الدينية وتأثيرها الديني والروحي...الخ، وهذا احد الأسس التي تقوم عليها الحروب واغلب الصراعات المسلحة، إن عملية صنع سياسة خارجية فاعلة ليست مسئولية الرئيس وحده, أو الحزب الحاكم وحده, وإنما هي عملية وطنية تشاركية لابد أن تشارك في صناعتها وصياغتها مؤسسات متعددة, أغلبها قائمة بالفعل لكنها بحاجة للتطوير والتفعيل, وبعضها بحاجة للإنشاء والتأسيس وفقاً لرؤية واضحة ومحددة. فالدولة (أ) ترغب في تغيير سياسة الدولة (ب) تجاه شأن سياسي معين، مثل الصراعات حول مناطق متنازع عليها، أو اختلاف جهات نظر البعض حول صراعات دولية تصب في مصلحة البعض من جهة وتضر دول من جهة أخرى. إلا أن تحديات العلاقات الدولية المحيطة بنا تفوق بكثير الفرص المتاحة والمستجدة؛ أثرا عن ميراث ثقيل من التخلف والتبعية والانقسام. وخلاصة أهم هذه التحديات: 1-وقوف قوى كبرى دولية وإقليمية دون قيام نموذج ديمقراطي حقيقي في مصر، أو قيام تحالف عربي أو إقليمي مستقل الإرادة. 2-استمرار السياسات الدولية ثابتة المصالح متنوعة الأدوات، والتي تضع في أولوياتها أمن العدو الإسرائيلي وضمان سيطرتهم على النفط العربي والممرات المائية والجوية العربية. 3-استمرار التعامل مع مصر من خلال الدور المرسوم لها منذ كامب ديفيد باعتبارها عاملا مساعدا في الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة. 4-استمرار موجة العولمة وسياساتها، واشتداد صراع الرأسمالية من أجل البقاء، خاصة مع تحرك مركز القوة الاقتصادية نسبيا باتجاه آسيا. 5-التحولات الكبرى في الأدوار السياسية لدول مثل روسيا والصين، واحتمالات التوجه نحو قطبية ثنائية نسبية سياسيا اقتصاديا؛ وهي ساعتها يمكن أن تكون مواتية لدور مصري فعال أكثر منه في ظل أحادية الهيمنة الأمريكية. 6-انهيار النظام العربي التقليدي بغير بديل يظهر في الأفق؛ الأمر الذي يصعّب على السياسة الخارجية المصرية مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني، خاصة مع اندراج قوى عربية وإقليمية في تياره ضمن برنامج "التسوية" الذي بات يعني إنهاء القضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي عند النقطة الراهنة: اللادولة، واللامقاومة. ومن تجليات ذلك في الحالة الإقليمية والدولية وتحدياتها: 1-انفجار الطائفية في مصر والجوار، وتكريسها بابا للضغوط الدولية. 2-الصعود الإسلامي في الثورات العربية واحتمالات الاتكاء عليه لمحاصرة مصر والمنطقة بهالة من التهديدات والضغوط التي توقف نمو التجربة الجديدة. 3-تفجر الأوضاع في المنطقة وبالأخص حول مصر منذ ما قبل الثورات العربية 2011، واستفحالها فيما بعد النجاح المبدئي لثورتي تونس ومصر. 4-تحكم الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة وحلفائها في مسار الثورتين الليبية والسورية. 5-حوض النيل والسودان وخروجه عن القدرة المصرية على احتواء الأزمات أو الترتيبات الإقليمية الجديدة، بعد التخاذل الذي أرساه نظام مبارك في هذا الملف. 6-الملف الإيراني يمثل معضلة مركبة من الناحيتين العالمية التي تقودها الولاياتالمتحدة، والإقليمية في موقف كل من إسرائيل ودول الخليج من عدوان مرتقب على إيران. 7-تعاظم القوة السعودية في ظل استمرار موضعها من الاستراتيجية الأمريكية من جهة، وموقفها المجافي للثورات العربية والمصرية بخاصة، ومن ورائها دول كالإمارات. 8-استمرار منطق تقسيم المنطقة وقواها السياسية إلى أجنحة معتدلة مرضي عنها وأخرى متطرفة أو متشددة مغضوب عليها. ضرورة التفات صناع السياسة الخارجية المصرية في مرحلتها الجديدة إلى أهمية الأدوات الثقافية خاصة ما دخل عليها من فواعل وأبعاد جديدة صارت تعرف في أدبيات العلاقات الدولية (بالقوة الناعمة) و(القوة ما بعد الناعمة) و(القوة الذكية)، فبدءًا من الأدوات الثقافية التقليدية في السياسة الخارجية المصرية كالأزهر، والتعليم، والفن كالدراما وغيرها، إلى مؤسسات وأدوات أثبتت فعاليتها عبر السنوات الأخيرة مثل: الدبلوماسية العامة والشعبية، القنوات الفضائية، ومنها ما أثبت فعاليته بشكل أكثر كثافة بعد الثورة كالمؤسسات الإغاثية ولنا مثال في الدور الذي تقوم به حاليًا في سوريا، وقبل في الصومال وغيرهما. إضافة لدور صناعة المعلومات ونقلها بين الداخل والخارج، ودور الغرف التجارية والصناعية ودور الجالية المصرية بالخارج في صناعة أصدقاء لقضايانا، وكذا تأسيس مراكز بحث وفكر في دول خارجية، ودور وكالات الأنباء. فجميعها أدوات –ذات أبعاد ثقافية وحضارية إنسانية-تنطلق من مفهوم غير تقليدي للأمن القومي، وتنجدل مع أدوات القوة الأخرى، ومحالها ملفات ذات مردود كبير لخدمة السياسة الداخلية والخارجية، وهي لا تتطلب موارد مالية كبيرة بقدر ما تتطلب إعادة بناء علاقات شبكية منظوميه في إطار شراكات بين قوى مجتمعية متعددة. وهي الشراكات التي تتطلب رعاية وزارة الخارجية ومركزية دورها في تصميم وتنفيذ هذه الشراكات تجاه الملفات الساخنة المفتوحة. وحتى نضمن كفاءة وفعالية هذه الأدوات وتطويرها بشكل مستمر، فلابد أن تستند هذه الأدوات على قاعدة أساسية من (التقارير الرصدية) تقوم بها جهات معنية مسئولة عن رصد كل ما يصدر عن الغرب تجاه القضايا محل الاهتمام من المسلمين، بما يؤدي في النهاية لأن تكون أفعالنا ومواقفنا قائمة على المبادرة وليس رد الفعل. وبالرغم من تعدد وتنوع وتكامل هذه الأدوات المختلفة التي تطرح إجابات عملية عن التساؤل السابق الذي تم طرحه, إلا أنها في ذات الوقت تطرح تساؤلاً آخر مفاده "من المسئول عن استخدام وتفعيل هذه الأدوات "وإذا كانت فاعلية عملية صنع السياسة الخارجية تبدأ بإصلاح المؤسسات الفاعلة في هذه العملية, فإنه لابد من البحث في الموجود, لإيجاد المفقود, وصولاً وتحصيلاً للمقصود, ولقد أشار السادة الحضور إلى العديد من المؤسسات المهمة القائمة بالفعل ولكنها عانت من الإقصاء والتهميش والتقويض, ومن ثمّ فهي بحاجة لإعادة التشغيل والتفعيل, اتفق علماء السياسة على أن الدولة هي الإطار الذي يتوج البنيان الاجتماعي منذ الفلسفة اليونانية مرورا بالفكر الإسلامي ووصولا للفكر الحديث، حيث استقر القول بأن اكتمال الإنسان الأخلاقي لا يتم إلا في ظل الدولة، ومن هنا استمدت طبيعتها التي تنفرد بها وسيادتها على جميع أشكال التجمعات الأخرى. فالدولة في أحد تعريفاتها المستقاة من نظريات العقد الاجتماعي والمستلهَمة من تاريخ الفكر السياسي الإسلامي نظام معياري للقيم العامة في المجتمع. وهو ما يعلو على الدولة ككيان مؤسسي وبنية قانونية وإدارية، والدولة كسلطة حاكمة. لم يكن غريبا أن تسعى الدولة القومية إذن لأن تكون فاعلا أخلاقيا كي تكون لها الهيمنة على المرجعية السياسية وتنزعها من المؤسسات الدينية من ناحية والاجتماعية من ناحية أخرى، وتؤسس بذلك سيادتها في مواجهة جميع الأطراف في الداخل والخارج، محتكرة المجال الرمزي والثقافي بقدر ما احتكرت أدوات القوة. والحقيقة أن قدرة الدولة تعني بالأساس القدرة على تنفيذ الأهداف الرسمية والتعبير عن مصالح القوى الاجتماعية، عوضا عن التصور الخاص باستمداد الدولة قوتها من التغلب على المعارضة القوية. ومن ثم فإن العلاقة بين الدولة والمجتمع هي نتاج التفاعل بين الفاعل القومي والفاعل الاجتماعي رغم أن العلاقة بينهما غير متكافئة. ومن ثم فإن الدولة الضعيفة تكون غير قادرة على تنفيذ السياسات العامة وتفتقد الاستقلالية في مواجهة النخب الاجتماعية المهيمنة. كما أن الدولة الضعيفة تفتقد وجود إدارة قائدة تمتلك السلطة الكاملة على عملية صنع القرار، كما أن أجهزتها ليس لديها المعلومات الكاملة ولا تتسم بالمهنية. ومن ثم فإن قوة الدولة ترتبط بوجود إدارة متناغمة وقوية لديها تماسك في رؤيتها لعملية صنع السياسات، ولديها مهارة توظيف المنهج التفاوضي والتشاركي عند اتخاذ القرار. كما أن هذه الإدارة القوية تمتلك المعلومات الكافية بداخلها.