عزالدين شكرى فشير وعلى عرفان تحتاج السياسة الخارجية لأى دولة للمراجعة الدائمة كى تتواءم وتغيُّر الظروف العالمية وأوضاعها الداخلية. وفى الوقت الذى تتغير فيه مصر بشكل جذرى داخلياً وتتغير المنطقة والعالم من حولها، فلابد من إعادة النظر - وبسرعة - فى المنهج والمنحى اللذين حكما سياستنا الخارجية عبر العقود الأخيرة. وقد طرح الوزير نبيل العربى (الشروق - 19/2/2011) والسفير نبيل فهمى (الأهرام - 28/3/2011) رؤيتيهما. ونريد فى هذا المقال أن ندفع بالنقاش خطوة للأمام، عسى أن تشكل هذه المساهمات بداية لعملية المراجعة المطلوبة. وننطلق فى طرحنا من حقيقة حسمتها ثورة يناير، وهى أن الحديث الذى تنامى فى السنوات الأخيرة عن تقلص ثقل مصر الإقليمى والدولى خلط - عن سوء قصد أو بحسن نية - بين تباطؤ «النشاط» من ناحية، وتقلص «المكانة» من ناحية أخرى. ونظن أن الاهتمام العالمى بالأحداث فى مصر منذ 25 يناير حسم بشكل قاطع هذه المسألة، وأكد أن مصر دولة «إقليمية كبرى ذات تأثير عالمى». ومن هنا، فإن نقطة الانطلاق التى نراها لمراجعة السياسة الخارجية المصرية هى أن نتوقف عن التساؤل عما إذا كانت لمصر أهمية إقليمية أم لا، ونركز على السؤال العملى وهو: «كيف تتصرف مصر كدولة إقليمية كبرى ذات تأثير عالمى، وكيف تعيد توجيه مؤسساتها الدبلوماسية لتتماشى مع هذه المكانة؟». وبداية الإجابة عن هذا السؤال هى تذكر حقيقة أن الدول الإقليمية الكبرى تتحرك على أساس أن تأثيرها يتعدى محيطها المباشر، وأن أمنها القومى يتأثر بتطورات إقليمية ودولية تتعدى هذا المحيط. وعليه، فعلى مصر أن تغير من المنهج والمنحى العام لسياستها الخارجية فى خمسة أمور: 1- التعامل مع الدول المختلفة ليس فقط من منظور العلاقة الثنائية مع تلك الدول، وإنما أيضاً كجزء من رؤية جديدة وشاملة لأولويات الأمن القومى المصرى تشمل الارتباط التقليدى لأمن مصر بأمن حوض النيل والقرن الأفريقى وتداخله مع الأمن العربى والإقليمى، ولكنها أيضاً تضم عنصرين جديدين: أولهما أن الأمن الشخصى والاقتصادى للمصريين فى الخارج يشكل امتداداً للأمن القومى المصرى، وثانيهما أن احترام حقوق الإنسان والحرية وإعلاء قيم العدل والمساواة فى العالم تشكل ركائز أساسية لرؤية المصريين لعلاقتهم بالعالم. 2- أخذ زمام المبادرة، والتحول من سياسة رد الفعل وإدارة الأزمات إلى الدبلوماسية الوقائية الساعية لمنع الأزمات والتركيز على تحقيق أهداف محددة، تُحدث تغييراً على أرض الواقع، والتحول من تفضيل الاستقرار الإقليمى - حتى لو كان خادعاً - إلى النشاط بجرأة لحماية مصالحنا فى أى وضع إقليمى أو دولى. 3- إنهاء الازدواجية فى السياسة الخارجية بين ما يقال علناً وما يتم فعلياً، بحيث تقوم السياسة الخارجية الجديدة على قاعدة صلبة من التأييد الشعبى، يمكّن الحكومة من التحرك بفاعلية وحرية أكبر فى المجالين الإقليمى والدولى. ولا يتحقق ذلك إلا بحوار حقيقى وتواصل بين مؤسسات السياسة الخارجية الرسمية والقوى السياسية المختلفة وهيئات المجتمع المدنى والعمل الأهلى. 4- الاستثمار فى السياسة الخارجية، بما يشمله ذلك من تخصيص للموارد البشرية والاقتصادية اللازمة، فالقدرة على التأثير فى مجريات الأمور إقليمياً وعالمياً تحتاج أدوات للتدخل والنفوذ، المباشر وغير المباشر، المعلن والمستتر، الخشن والناعم، وهى أدوات إن توفر بعضها لمصر بحكم المكانة والتاريخ فإن البعض الآخر منها يحتاج لاستثمار وإنفاق ووقت حتى يبدأ فى دَرِّ العائد. 5- تغيير أسلوب إدارة مؤسسات العمل الخارجى ومهامها وعملية اتخاذ القرار بها، سواء من جهة تطوير هياكل وأهداف وأسلوب عمل وزارة الخارجية والسفارات المصرية، أو من جهة التعاون بين مؤسسات العمل الخارجى، بحيث لا تتصرف إحداها وكأنها تستطيع الانفراد بالعمل الخارجى.. فنجاح الجميع يعتمد على حُسن توزيع الأدوار والمهام وتنسيق التعاون بينهم بشكل مستمر وكجزء من آلية العمل فى كل مؤسسة، وعلى جميع المستويات. المنهج الجديد للسياسة الخارجية هذا سيعكس نفسه فى تناولنا للمجالات الرئيسية لعلاقاتنا الخارجية، فلم يعد من الممكن التعامل مع منطقة حوض نهر النيل من منظور العلاقات الثنائية المصرية - السودانية ومسائل الأمن المائى فحسب، بل يجب التعامل مع هذه المنطقة، باعتبارها نطاق أولوية استراتيجية، بنظرة شاملة، تتداخل فيها عناصر السياسة والاقتصاد والأمن الإقليمى، بشكل يجعل منها منظومة إقليمية متكاملة ومستقرة، تدعم وتحفظ أمن جميع أطرافها بشكل متكافئ، ربما من خلال السعى لإنشاء «منظمة للأمن والتعاون» فى حوض نهر النيل. تتماشى مع هذا الطرح كذلك ضرورة التعامل مع منطقة البحر الأحمر بمنظور شامل، باعتبارها نطاق أولوية استراتيجية، فلا يمكن الاستمرار فى النظر إلى التطورات الحادثة فى أقطارها - كاليمن والصومال - على أنها مسائل داخلية أو قضايا متعلقة بالعلاقات الثنائية. وعلى المستوى العربى والإقليمى، لابد أن نتعامل مع جيراننا وأقراننا بأسلوب مغاير يحترم احتياجات ومخاوف جميع الدول ويراعى فى الوقت نفسه متطلبات التوازن بين القوى الرئيسية الفاعلة فى المنطقة، فقوة إقليمية كبرى كمصر يجب ألا تبنى أسس علاقاتها مع أقرانها كتركيا وإيران على أساس الغيرة السياسية أو الاختلاف فى التوجه السياسى، بل على العكس، فالاختلاف فى التوجهات السياسية تجاه المنطقة يحتم إيجاد قنوات اتصال مباشرة وفاعلة لضبط أبعاد هذا الاختلاف والحيلولة دون وصوله إلى مراحل تضر بمصالح البلاد. كذلك لا تستطيع دولة إقليمية كبرى كمصر أن تتحمل تعطّل أداة من أدوات العمل الإقليمى بالشكل الذى وصلت إليه جامعة الدول العربية، فإذا تعذر إحياء تلك المؤسسة فى شكل جديد، يشمل آليات وقواعد صنع قرار جديدة، ووفقاً لمهمات جديدة، فإنه على مصر العمل مع الدول العربية ذات التفكير المتشابه ككتلة مستقلة خارج أو داخل جامعة الدول العربية، وقيادة عمل عربى مشترك جديد، وفقاً لرؤية واضحة وعصرية للمستقبل الذى نريده للمنطقة، إلى حين إصلاح الجامعة المعطلة. وفى سياق الحديث عن المنطقة، يتعين التوقف عن المراوغة فيما يتعلق بالصراع العربى - الإسرائيلى، وعن التعامل معه وكأنه القضية الحاكمة لسياستنا الخارجية تارة، ومعيار أهمية مصر تارة أخرى، ومصدر «استرزاق» ومساومة تارة ثالثة، فدور مصر فى هذا الصراع أعمق وأخطر من أن يُعامل بهذا المنطق، ويحتاج أكثر من أى موضوع آخر لوفاق وطنى حول شكله فى المرحلة المقبلة، ولربطه برؤيتنا الشاملة للمنطقة ولترتيبات مستقبلها. ودولياً، يشمل المنهج الجديد السعى لإنضاج العلاقة مع الولاياتالمتحدة والخروج بها من ثنائية الاختيار بين العداء أو التحالف. فالولاياتالمتحدة شريك لا غنى عنه فى عدد من القضايا، يجب العمل معه دون حساسيات زائفة لتحقيق مصالحنا، ولكنها ليست القوة الوحيدة فى العالم، ولا هى قادرة على التعامل مع جميع القضايا التى تهمنا، بل فى بعض القضايا تتعارض مصالحنا مباشرة. وعليه، يجب أن نبادر بالتحرك للتعامل مع هذه القضايا بشكل مستقل دون خوف. من ناحية أخرى، يجب مراجعة ملف المساعدات ووضعه فى حجمه الصحيح، بحيث لا يزيد ثمنه على قيمته الحقيقية، وذلك بهدف تقليصه مع الوقت واستبدال علاقة أكثر تكافؤاً به. كما يجب السعى لإنهاء حالة الارتباط المعيب بين العلاقة المصرية - الأمريكية من ناحية، والمصرية - الإسرائيلية من ناحية أخرى، فالعلاقة مع الولاياتالمتحدة يجب أن تقوم بذاتها، وفق مصالح البلدين، وليست كضلع فى مثلثٍ، زاويته إسرائيل. ويتسق ذلك مع توسيع وتعميق العلاقات مع أوروبا، ليس باعتبارها بديلاً عن الولاياتالمتحدة، ولكن باعتبارها الأقرب إلى فهم قضايانا، وأكثر تأثراً بمشاكلنا، وباعتبارها عنصراً حاكماً فى خلق الإجماع الدولى حول أى قضية. هذا بالإضافة إلى كون أوروبا شريكتنا فى نطاق ذى أولوية استراتيجية لنا، وهو حوض البحر المتوسط، الذى يتطلب - مثل منطقتى نهر النيل والبحر الأحمر - نظرة شاملة، باعتباره منظومة متكاملة فيما يتعلق بعناصر «الأمن والتعاون» فى محيطها. ولابد كذلك من التعامل مع القوى الجديدة البازغة فى عالم السياسة الدولية، الصين والهند والبرازيل، بأسلوب مختلف، يتعدى اهتمامنا بهم على مستوى العلاقات الثنائية، ليشمل نظرة جديدة لهم، كلاعبين جدد، ككتلة أو فرادى، بعد أن بدأوا فى ترجمة أدائهم الاقتصادى إلى وزن سياسى معتبر. وختاماً، فإن ما نطرحه هنا مجرد رؤوس موضوعات، وهناك موضوعات أخرى وتفصيلات تحتاج لبيان، ولكن تلك مهمة يتعين على وزارة الخارجية الاضطلاع بتنسيقها، وهذا هو إسهامنا الأولىّ فى هذه المناقشة، التى نأمل فى أن تضم كل المهتمين بالسياسة الخارجية فى مصر، داخل مؤسسات الدولة وخارجها. * الكاتبان سبق لهما العمل بالسلك الدبلوماسى المصرى لمدة تزيد علىعشرين عاماً.