زلزال المراجعات وغياب التنظيم الحديدى ومرارة التجربة كرّست التعددية السياسية داخل الجماعة مبادرة وقف العنف قادت ثورة ثقافية داخل الجماعة الإسلامية وسددت رصاصة الرحمة على قدسية القيادة دربالة حظر تقبيل يد القيادات وفتح الباب أمام التنوع الفكرى والمرونة السياسية قبول الجماعة الإسلامية للآخر درس مفيد للفصائل الإسلامية قد يعينها على تجاوز الأزمة الحوار بين القواعد والقيادات وأزمات المحنة ومعارك "العقرب" الثقافية والتربية العلنية أرست قيم التنوع الإطاحة ب"زهدي" أعادت الاعتبار لخيار الشورى وحوّلت الجمعية العمومية للرقم الأهم فى اتخاذ القرار دعم القواعد ل"أبو الفتوح" والقيادات ل"مرسي" قدم درسًا عمليًا على احترام الجماعة للأغلبية فاجأ الكاتب الصحفى سليم عزوز، الرأى العام المصري، بتدوينة له على شبكة التواصل الاجتماعى "فيس بوك"، هذا نصها: "تمتلك قيادة الجماعة الإسلامية – فى حدود مَن عرفتهم - وعيًا مدهشًا وليبرالية يفتقدها كثير من الليبراليين بخلاف الصورة النمطية عنهم"، متسائلاً هل هذه الليبرالية هى نتاج قسوة التجربة أم نضوج أم نتاج شيء آخر؟! وقد تنوعت الردود على تدوينة "عزوز"، بدأها سمير العركي، القيادى فى الجماعة الإسلامية، حيث رد بالقول "ما ذكرته - موجهًا كلامه لعزوز- معتبر ولكن الأمر يعود إلى أن الأوضاع التنظيمية داخل الجماعة الإسلامية ليست حديدية وقاسية.. فالجماعة فى وعى أبنائها تأتى فى المرتبة الثالثة بعد الدين والوطن، فضلاً عن أن تجربة المراجعات قد حررتها من عبء المثالية، وعلّمت أبناءها أن تجارب البشر فكرة وممارسة خاضعة للنقد، وأن البشر يمكن أن يلتقوا متى تحاوروا واقتربوا من بعضهم البعض حتى لو اختلفوا فى المذهب أو الدين. فيما رأت بعض الردود أن الليبرالية وقبول الآخر هى من تعاليم الإسلام، فيما نبه آخر أن أبناء الجماعة الإسلامية ليس لديهم تنظيم يعد عليهم أنفاسهم وأفكارهم، لذا جاءت حرية الطرح، وثالث يرى أن المراجعات الفكرية التى أدارتها الجماعة فى تسعينيات القرن الماضى كان لها وقع الصدمة على الجماعة الإسلامية، حيث خففت للحد الأدنى من القدسية التى يتمتع بها القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية. فيما ثمن الشيخ عبود الزمر، عضو مجلس شورى الإسلامية، تدوينة عزوز، إلا أنه شدد على أن ليبرالية الجماعة تعنى الليبرالية فى الفكر وقبول الآخر واحترام الدستور وإمكانية التحالف مع الآخر لتحقيق غايات طيبة، مثلما جرى فى الجاهلية، فيما أطلق عليه "حلف الفضول" الذى امتدحه الرسول دون الاقتراب بأى شكل من الأشكال من الثوابت الشرعية والعقدية. واعتبر الزمر، أن الليبرالية السياسية للجماعة الإسلامية تنطلق من تعاليم الإسلام ومن الواقع الأليم الذى مرت به الجماعة الإسلامية، والتعامل السياسى مع أنظمة مختلفة والصدام معها فى مرحلة ما بشكل أدى إلى بلورة رؤية صحيحة للتعامل مع الواقع فى إطار التعايش مع الآخر والتوافق معه على منطلقات لا تمس الثوابت العقدية. ونبه الزمر إلى أن غياب التنظيم الحديدى الذى يلزم أعضاءه بنهج سياسى وفكرى معين هو ما سمح لأعضاء الجماعة بشيء من المرونة والتنوع وتباين الآراء، لافتًا إلى أن الثقة فى قيادة الجماعة كانت قوية جدًا من قبل القواعد، لكن المحنة التى مرت بها الجماعة هى من دفعت القيادة والقواعد للتشاور للبحث عن سبل للخروج من المأزق دون أن يقلل هذا من مكانة القيادة وثقة القواعد فيها. وشدد الزمر على أن مبادرة وقف العنف والمراجعات الفكرية فتحت المجال واسعًا أمام مناقشات بين القواعد والقيادات، وكانت هناك اختلافات فى وجهات النظر، وكرست التنوع الفكرى داخل الجماعة وكرست مبدأ الشورى قبل اتخاذ القرار، حيث يسمح للآراء المختلفة بالتنوع دون الحجر عليها، مع اعتبار أن القرار الذى يصدره مجلس الشورى هو المعبر الرسمى عن الجماعة، وهو نهج أكسب تجربة التنوع والليبرالية داخل الجماعة مذاقًا خاصًا. فيما أيدت مصادر متطابقة داخل الجماعة، وجهة نظر الزمر، مؤكدة أن الطابع الزلزالى لمبادرة وقف العنف والمراجعات الفكرية، كان لها أثر السحر على تعديل المسار الفكرى لقيادات وقواعد الجماعة الإسلامية، حيث كانت القواعد فى الجماعة الإسلامية لا ترى قدسية إلا للقرآن والسنة، فيما تجمعها ثقة مطلقة فى حكمة القيادات، حيث تأتى مرجعيتها بعد الكتاب والسنة، حيث كان تقبيل القواعد لأيدى ورؤوس القادة التاريخيين للجماعة الإسلامية خلال لقاءاتهم فى السجون والليمانات وقاعات المحاكم، إحدى كلاسيكيات الجماعة. غير أن الدكتور عصام دربالة، رئيس مجلس الشورى الراحل، وخلال وجوده فى سجن العقرب، أصدر تعليمات لكل قواعد الجماعة بالكف عن تقبيل أيدى القيادات وأعضاء مجلس الشورى، وأطلق دربالة الذى يعتبره الكثيرون أبرز منظرى الجماعة الإسلامية "صرخة كلنا إخوة"، والتى سددت رصاصة الرحمة على ظاهرة تقبيل الأيدى وكرست يقينا بين قواعد الجماعة بانتهاء عصر القداسة بين القيادة التاريخية وجميع أبناء الجماعة. وإذا كان دربالة قد أنهى للأبد عهد القداسة بين القواعد والقيادات التاريخية، فإن هناك شخصيات قوية أسهمت إسهامًا قويًا فى إنهاء هذه القداسة وهذه المرة ليست من قيادات الجماعة، بل من أبرز خصومها وهو اللواء فؤاد علام، وكيل جهاز أمن الدولة السابق، حيث حث القيادات الأمنية التى تقود المراجعات وفى مقدمتهم اللواء أحمد رأفت، الناس على تبنى فكرة جمع القواعد مع القيادات داخل السجون بشكل أذاب كثيرًا من الفوارق بين الطرفين. وشهدت أروقة سجن العقرب، سجالات فكرية حول بحث أعده الدكتور ناجح إبراهيم حول "الحاكمية"، تحولت فى كثير من الأحيان لصدامات، حيث رفض كثير من قواعد الجماعة لا سيما من ذوى الخلفية الشرعية، وجهة نظره، حيث كان إبراهيم يرى ضرورة المساواة بين الحاكم الممتنع عن تطبيق الشريعة وبين الحاكم المستبدل وقارعة بعضهم بأن وجهة نظره فى قضية "الحاكمية" غير مقبولة، بل تخالف نهجه القديم. وأسهمت اللقاءات المباشرة بين القواعد والقيادات سواء عبر توزيع القواعد على زنازين القيادات أو من خلال الاجتماعات الموسعة وإقرار قيادات الجماعة التاريخية بأخطائها أمام القواعد فى محو العديد من الصور الخالية التى ارتسمت للقيادات فى عيون القواعد بشكل مبالغ فيه، وفى مقدمتها الهالة العلمية، حيث كانت تترد داخل القواعد بأن القيادى فلان يحفظ صحيح البخارى كاملاً وفيما يعد قيادى آخر ضابطًا للمذهب الحنفى والآخر للمذهب الشافعي، وهى أمور اكتشفت القواعد مدى المبالغة فيها. وتحولت العلاقة بين القواعد والقيادات التاريخية من نظرة الإجلال والتقديس إلى مرحلة السجالات والمواجهات، وبعد أن كانت أغلى أمانى القواعد أن تلقى ابتسامة أو إشادة أو حتى هدية من القيادات التاريخية لتعتز بها وتفتخر فى أوساط القواعد صار الأمر مختلفًا، وانتهت مرحلة بين الطرفين، ولعل ذلك ما أسهم فى تفكيك الالتزام التنظيمى ولو نسبيًا وأتاح المجال أمام تنوع فكرى ومرونة عقلية تجلت فى اختلاف وجهات النظر بين الجميع، ووجود نوع من الاستقلالية الفكرية لدى أفراد الجماعة وإن بقيت منطلقاتهم الدينية متشابهة إلى حد التطابق. وكان من اللافت، بحسب مصادر متطابقة داخل الجماعة الإسلامية، وجود دعم كامل أو لنقل شبه كامل من جميع كوادر الجماعة، من بينهم "الشواكيش"، لمبادرة وقف العنف داخل محبسهم، وإن بدت بعض التباينات بين كتل بعينها داخلها الجماعة لافتة لدرجة أن البعض اعتبر أن المبادرة قد قضت على الجماعة وسلمت مفاتحها للأمن، وبدت انتقادات لاذعة للأداء السياسى لكل من الشيخ كرم زهدى والدكتور ناجح إبراهيم، وهو ما دفع فى النهاية لإبعاده عن سدة القرار، ومعهم مجموعة من القيادات التاريخية لصالح محور دربالة وعبدالماجد والزمر ومن بعدهم الدكتور صفوت عبدالغني. واعتبر الكثيرون، أن إبعاد الشيخ كرم زهدى وناحج إبراهيم قد أنهى مرحلة القداسة بالنسبة للقيادة، وكرس نوعًا من الجماعية فى اتخاذ القرار، فبعد أن كان مجلس الشورى هو المخول وحده باتخاذ القرارات غدت الجمعية العمومية شريكًا له فى القرار، بل وتجبره على تبنى قرار استراتيجي، وهو ما ظهر جليًا فى دعم الجمعية العمومية للدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح فى انتخابات الرئاسة، فيما كان مجلس الشورى يؤيد الدكتور محمد مرسي. واجمع عدد من المراقبين،على أن تجربة المراجعات وثقل التجربة والمحنة العظيمة داخل السجون والتباينات فى وجهات النظر بين القواعد والقيادات وغياب التنظيم الحديدي، أسهم فى ثقل الجماعة وأعطاها مسحة ليبرالية فيما يتعلق بالممارسة السياسية وقبول الآخر مع التمسك بثوابت العقيدة والفكر. ويدعم هذا الطرح الدكتور أنور عكاشة، القيادى الجهادي، الذى يرى أن المحنة الشديدة التى ألمت بالجماعة الإسلامية وكرّست نوعًا من الهزة فى الثقة المطلقة بين القيادات والكوادر، هى التى سمحت بتنوع الآراء داخل الجماعة وأعطت الأمر طابعًا ليبراليًا، فضلاً عن أن المراجعات الفكرية كشفت للقواعد تهاوى القدسية التى كانت تتمتع بها القيادة، لذا وجدنا مجاهرة من قيادات من الصفين الأول والثانى للجماعة ضد القيادة، وهو ما ظهر خلال ثورة الخامس والعشرين من يناير، حيث شاركت قواعد وقيادات من الصف الأول فى الثورة بالمخالفة لتعليمات الشيخ كرم زهدي، رئيس مجلس الشورى وقتها. ونبه عكاشة إلى أن القواعد التى أسست من خلالها الجماعة وعلى رأسها أن الشورى ملزمة للأمير، خلقت نوعًا من السعة التاريخية داخل الجماعة، فضلاً عن غياب التنظيم الحديدى داخل أطرها فى مراحل معينة، قد أفرز نوعًا من التنوع وعكس نضجًا فى تعامل الجماعة مع الآخر، وهو ما كان محل استحسان من القوى السياسية لممارسات الجماعة. ولفت إلى أن الفصل بين القواعد والقيادات لعقود طويلة أسهم فى إسباغ نوع من القداسة على القيادة، وهو الأمر الذى اختلف بعد الاختلاط بين الطرفين بعد ما يقرب من 15عامًا من العزلة، قد سمح بتبادل الآراء وفتح الباب أمام محاسبة القيادة على أخطائها بشكل كرّس نوعًا من التعددية الفكرية داخل الجماعة. وشاطره القول الدكتور خالد الزعفراني، الخبير فى شئون الجماعات الإسلامية، مؤكدًا أن انطلاق الجماعة الإسلامية من الجامعات والتربية العلنية وغياب قيم التنظيم السري، هو الذى خلق نوعًا من الانفتاح والتنوع الفكرى والتباينات بين أبنائها بشكل أفضل من جماعة الإخوان، التى حكمتها التربية السرية والتنظيم الحديدي. وأضاف: الجماعة الإسلامية بتنوعها الفكرى وثرائها وانفتاحها على الآخر وغياب قيم العنف عن "منفستو" تأسيسها، كان سيجعل للجماعة شأنًا عظيمًا فى المجتمع، لولا تسلل أفكار زعيم جماعة الجهاد محمد عبدالسلام فرج إلى صفوفها، حيث أسهمت فى تعديل مسارها وتبنيها نهج العنف، حتى لو كان العنف ردًا على ممارسات رسمية.