عندى للقارىء اليوم "مفاجأة" قد تذهله، وهى أن سليمان الحلبى ذلك الشاب السورى الذى قتل كليبر، لم يكن بطلاً، ولم يقتله انتقامًا منه على حرقه للقاهرة، أو تنكيله بمشايخ الأزهر، ولا لأنه محتل غازى لبلاد المسلمين، بل كان سليمان مأجورًا لقتله من قبل القادة العثمانيين الذين هزمهم كليبر، والفيصل بينى وبين القارىء هو تاريخ الجبرتى، وهو المرجع الوحيد الذى سجل تاريخ هذه الحقبة الزمنية باليوم والساعة، حتى يبدو لمن يقرأه كأنه يقرأ صحيفة يومية يتابع من خلالها أخبار كل شىء بما فيها أسعار الخضر واللحوم والفاكهة والألبان، وأسعار المعادن النفيسة والعملات الأجنبية، وكل ما يحدث فى القطر المصرى، فجاء مؤلفه هذا عملاً تاريخيًا أشاد به كبار المؤرخين الأجانب قبل العرب، وقد أعاننى الله ووفقنى فى تحقيق وتهذيب إحدى النسخ الأصلية لهذا المؤلَّف العظيم، وبذلت فيه مجهودًا شاقًا، وهو الآن متاح فى المكتبات لمَن يريد أن يقرأه. يقول الجبرتى: وفى ذلك اليوم أعنى يوم السبت (الموافق لمثل هذا اليوم عام 1800) وقعت نادرة عجيبة وهى أن سارى عسكر كلهبر (يقصد كليبر) كان مع كبير المهندسين يسيران بداخل البستان الذى بداره بالأزبكية، فدخل عليه شخص حلبى وقصده فأشار إليه بالرجوع وقال له: ما فيش وكررها فلم يرجع وأوهمه أن له حاجة وهو مضطر فى قضائها فلما دنا منه مد إليه يده اليسرى كأنه يريد تقبيل يده، فمد إليه الآخر يده فقبض عليه وضربه بخنجر كان أعده فى يده اليمنى أربع ضربات متوالية فشق بطنه وسقط إلى الأرض صارخاً فصاح رفيقه المهندس فذهب إليه وضربه أيضاً ضربات وهرب، فسمع العسكر الذين خارج الباب صرخة المهندس فدخلوا مسرعين، فوجدوا كلهبر مطروحاً وبه بعض الرمق ولم يجدوا القاتل فانزعجوا وضربوا طبلهم وخرجوا مسرعين وجروا من كل ناحية يفتشون على القاتل واجتمع رؤساؤهم وأرسلوا العساكر إلى الحصون والقلاع وظنوا أنها من فعل أهل مصر، فاحتاطوا بالبلد وعمروا المدافع وحرروا القنابر وقالوا لا بد من قتل أهل مصر عن آخرهم، ووقعت هوجة عظيمة فى الناس وكرشة وشدة انزعاج وأكثرهم لا يدرى حقيقة الحال، ولم يزالوا يفتشون عن ذلك القاتل حتى وجدوه منزوياً فى البستان المجاور لبيت سارى عسكر المعروف بغيط مِصباح، بجانب حائط منهدم، فقبضوا عليه، فوجدوه شامياً فأحضروه وسألوه عن اسمه وعمره وبلده، فوجدوه حلبياً واسمه سليمان، فسألوه عن محل مأواه، فأخبرهم أنه يأوى ويبيت بالجامع الأزهر، فسألوه عن معارفه ورفقائه وهل أخبر أحداً بفعله وهل شاركه أحد فى رأيه وأقره على فعله أو نهاه عن ذلك وكم له بمصر من الأيام أو الشهور وعن صنعته ومِلته، وعاقبوه حتى أخبرهم بحقيقة الحال، فعند ذلك علموا ببراءة أهل مصر من ذلك وتركوا ما كانوا عزموا عليه من محاربة أهل البلد وقد كانوا أرسلوا أشخاصاً من ثقاتهم تفرقوا فى الجهات والنواحى، يتفرسون فى الناس فلم يجدوا فيهم قرائن دالة على علمهم بذلك، ورأوهم يسألون من الفرنسيس عن الخبر فتحققوا من ذلك براءتهم من ذلك". (يتبع غدًا ...).