لو أردنا أخذ الدرس والعبرة من تاريخ الثورات التى عرفتها البشرية، على الأقل خلال القرن المنصرم، سنجد أن الخطاب السياسى التعبوى، كان له دور مهم، بل ربما رئيسى فى نجاح الثورات، حتى أن بعض الثورات التى تختلف الآراء حولها، مثل الثورة البلشفية فى روسيا أو ثورة حزب البعث فى العراق وسوريا فى الخمسينيات، وثورة 52 فى مصر، وثورة ليبيا 1969، والثورة الشيوعية فى كوبا أو حتى ثورات هتلر وموسيلينى فى أوروبا، كلها كانت تستخدم لغة الخطاب السياسى الحماسى المتكرر والمتلاحق، لتعبئة وحشد الجماهير وراء أهدافها. ذلك أن ترك الكتل الضخمة من الجمهور بمفردها دون مخاطبتها أو التقرب منها والعمل على توعيتها وشرح سير الأمور لها والرد على الطرف الآخر، يقود فى الأغلب الأعم لفشل هذه الثورة أو تلك. فالخطاب التعبوى المستمر للجمهور، يجذبها ويشد انتباهها ويثبت قناعاتها أو يدفعها نحو تبنى موقف من قضية ما. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فالشىء الذى نعرفه جميعاً، أنه استخدم طوال 18 سنة من حكمه الخطاب السياسى الحماسى والتعبوى لشد الكتل الجماهيرية نحوه ودعمه فى مواقفه وقراراته، الصحيح منها والخاطئ، نفس الأمر قام به الفهلور الألمانى الشهير أدولف هتلر وكذا موسيلينى فى إيطاليا وقام به فيدل كاسترو فى كوبا، لا أقصد من ذكر بعض الأسماء هنا أنه يجب الاحتذاء بهذا السياسى أو الزعيم أو جعله قدوة لتعبئة وحشد الجماهير ولكن قصدى هو التذكير بالأهمية القصوى لدور الخطاب السياسى الحماسى والتعبوى فى تحقيق الأهداف الكبيرة فى تاريخ الشعوب. لو نظرنا للثورة الشعبية المصرية التى تتعرض لثورة مضادة مستمرة، يخطط لها بكل دقة وعناية وباستخدام كل الخبرات الأمنية والوحشية المالية فى التعامل مع الثورات وحركات العصيان الشعبى والمدنى، سنجد أنها يتيمة محرومة من الخطاب السياسى الحماسى. صحيح أن الشباب يستخدم شبكة الإنترنت للحشد والتعبئة فى النزول للميادين والشوارع؛ للاحتجاج وهى وسيلة تعبوية حديثة ومتطورة، لكنها منحصرة فى قطاع الشباب – هم كثر والحمد لله – لكنها لا تتعلق بالكتل الشعبية، من كبار السن والسيدات المقيمين فى الريف والقرى وصحراء سيناء وأودية مصر وواحاتها. صحيح أيضاً أن الحشود التى تشهدها الميادين بين الحين والآخر منذ وقوع ثورة 25 يناير 11 20، تشهد خطباً وخطباء يوجهون كلمات حماسية للجمهور حول قضايا الساعة وهو شىء طيب ومحمود. غير أنه محدود وغير مستمر ومرتبط بعدة ساعات ولقطاع محدود من الشعب ولا تصل هذه الخطب بمضامينها للكتل الجماهيرية فى المحافظات المصرية. وهذا العجز الواضح فى مسيرة الثورة المصرية، ساهم بدور ما وسهل الطريق على عمل وعملاء الثورة المضادة، لأن كتل جماهيرية كبيرة ومهمة، باتت فريسة يومية للدعاية الإعلامية المضادة. أنا أفهم جيداً نقطة ضعف الثورات الشعبية فى عدم وجود قائد محدد لها، تلتف حوله وتسير الكتل الجماهيرية وراءه، لكن التجربة السياسية التركية التى أرصدها على مدار ربع قرن، تسير بخطوات رصينة وتحقق نجاحات من وراء الخطاب السياسى التعبوى، قد لا يتوفر لكل ثورة خطيب بارع، تنجذب له الكتل الجماهيرية، كما كان الحال مع أتاتورك (تركيا) ومع الزعيمين مصطفى كامل وسعد زغلول (مصر) لكن الراحل طورجوت أوزال (توفى 1993)، والذى لم يكن يمتلك مهارات الخطابة، تمكن من تعبئة الجمهور، من خلال خطاب شهرى تليفزيونى أو من خلال الكلمات التى ألقاها فى مؤتمرات حزب الوطن الأم الذى حكم تركيا بين سنوات 83-1993. نفس الأمر يقوم به طيب أردوغان، على مدار 10 سنوات، وبدون انقطاع أو كلل، وإن كان أردوغان، يمتلك قدرة على مخاطبة الجمهور فى المدن والريف التركى، ومقارعة خصومه السياسيين، بصوته الجهورى وعباراته وقفشاته ونكاته الشعبية التى تعجب وتنال رضا الكتل الشعبية، حتى أنه يخصص خطبًا للسيدات، وهو الأمر الذى سهل لطورجوت أوزال وطيب أردوغان البقاء فى حكم تركيا لفترات طويلة وفى تحقيق نجاحات متنوعة، رغم الحملات المضادة، بسبب دعم وقوف الكتل الشعبية وراءهما.