توقفنا في المقال السابق عند تجربة المسلمين المغول بتطبيق دستور جنكيزخان ( الياسق ) برغم إسلامهم والذي اعتبرته أول منهج علماني لدولة مسلمة – طبقاً لإقرارهم أنهم مسلمون – ولم يقف المسلمون كثيراً عند هذة التجربة لأن دستور ( الياسق) إن كان يوائم القبائل المغولية فقد كان - وبلا شك - سينهار عند احتكاكهم الثقافي بالممالك الاسلامية المحتكمة للشريعة الاسلامية وخاصة أن الفقة الاسلامي في المعاملات والاحكام كان بلغ أوجه وغلب عليه التنوع فكان فقة الشافعية في مصر والمالكية بالمغرب والاندلس والحجاز والحنفية بالعراق وعلم الحديث عند الحنابلة وتطور الفقة والقضاء حتى شمل كل مناحي الحياة لمئات السنين. وسأضرب مثلاً بالأندلس فقد كانت مرتعاً للثقافة والعلوم والفنون والأدب والشعر وكانت ثغراً إسلامياً مجاوراً للحضارة المسيحية ومع هذا لم تتأثر ثقافة المسلمون بذلك بل على العكس تأثر المسيحيون بالثقافة الاسلامية وكانت بداية المذهب البروتستانتي وهو الغالب على غرب أوروبا حيث اعترضوا على الكهنوت الكنسي وأن تكون العلاقة مباشرة في الاتصال بالسماء وهذا من تأثرهم بالمسلمين فالحضارة تشبة نظرية الضغوط تنتقل من العالي إالى المنخفض ومن هنا تبدأ التجربة الثانية للعلمانية في بلاد المسلمين ..وكذلك كان حال الحملات الصليبية من الكر والفر لكن الحالة الثقافية الاسلامية والتشريع الإسلامي والقضاء كانت دائماً وأبداً غير قابلة للتفاوض أو التفريط نعود لأواخرالقرن الثامن عشر الميلادي حيث انهزم نابليون بونابرت ولكن المسلمين اهتزت ثقتهم بأنفسهم فقد دخل الفرنسيون ومعهم الجن الذي يطبع المخطوطات ( الطابعة) وكذلك معهم المدافع الذي تفوق سيوف المماليك وحاول محمد علي باشا أن يقيم لنفسه وذريته امبراطورية ترث العثمانيين وتلاعب به الانجليز(الروم ذات القرون ) ليكون مخلب قط في تأديب الخلافة العثمانية ولكن لم يسمحوا له بأن يبدأ خلافة جديدة وهم قد استعدوا للخلاص من فكرة الخلافة للأبد .. نحن الأن في بيزنطة .. آسف اسلامبول ( مدينة الإسلام ) .. اسطنبول في أواخرالقرن التاسع عشر ونسبة الأمية في دولة الخلافة العثمانية تزيد عن التسعين في المائة وغلب على الدولة نزعات التصوف الظاهري وفي الولايات العربية ظهرت الحركات القومية في مصر والشام والعراق بل وفي الحجاز ( موطن الخلافة الأولى ) .. كانت معركة السلطان عبدالحميد صعبة جداً إما المخاض لخلافة جديدة أو الحقيقة الأبدية وهي موت الحضارة بعدما تشيخ شأنها شأن البشر .. كان السلطان قوياً وذكياً ولكن الدولة ترهلت وتراكمت عليها الديون وانشقت عنها الأطراف ليتم خلع السلطان القوي ويبدأ الأفول بالضربة القاضية أو المقامرة الكبرى أو الحرب العالمية الأولى وكالعادة المنتصر هو من سيكتب التاريخ .. ظهر مصطفى كمال أتاتورك كبطل قومي .. جنرال يرفض الانسحاب من الحرب ويهزم الانجليز واليونانيين والقبارصة .. كان يستطيع أن يكون خليفة المسلمين وخاصة يعد قصيدة أمير الشعراء إذ شبهه بخالد بن الوليد – رضوان الله عليه – ولكن كان الرجل يؤمن بالعلمانية طبقاً للتعريف الثالث " دولة مدنية ضد الدين " فكان ضد الدين وضد العروبة وضد الخلافة ليضع اللبنة الأخيرة على ضريخ الخلافة العثمانية ويبدأ معركة جديدة مستمرة حتى الآن بين علمانية أتاتورك القومية وجذور الأتراك العثمانية الاسلامية. وقد كنت مضطراً لهذة الديباجة التاريخية وفي المقال القادم – بإذن الله – نستكمل تجارب العلمانيين في بلاد الاسلام ونحاول أن نجيب على السؤال الإجباري وهو هل هناك ملتقى للطريق العلماني مع الطريق الإسلامي ؟ [email protected]