راهنت كثرة من الكتاب والصحفيين على مرشح بعينه، هو الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ضد المرشح الإخوانى، ولم يتصوّروا أبدًا أن تأتى الخطورة عليه من أحمد شفيق، ومن ثم ركّزوا هجومهم على الإخوان المسلمين، فكانوا بذلك عاملاً من العوامل التى صرفت جمهورًا كبيرًا من المواطنين عن مرشح الإخوان، مفضلين عليه أحمد شفيق الذى خدع الجماهير بادّعائه أنه وحده القادر على إعادة الأمن للناس فى ساعات، وأنه سيعالج مشكلاتهم المعيشية بجرّة قلم، وصدّق الناس وعود الجنرال القوى، فقد توهّموا أنه مدعوم بالعسكرى والشرطى، وأركان النظام السابق المسيطرين على إدارات الدولة، وبأيديهم مفاتيح المال والاقتصاد.. كانت هذه نتيجة طبيعية ليأس كثير من الناس من الثورة ومن البرلمان الذى انتخبوه ولم يفعل لهم شيئًا؛ فلم يحسّن معيشتهم البائسة، ولم يوفر لهم أنبوبة الغاز ولا رغيف العيش، ولا عالج شيئًا من مشكلاتهم الملحّة، ويرجع الفضل الأكبر فى إيصال الناس إلى هذه الحالة من اليأس المُقْنط، إلى الكُتَّاب والإعلاميين الذين تفنّنوا فى رسم صورة مخيفة للإخوان المسلمين وللبرلمان، فمهّدوا بذلك الطريق لأحمد شفيق ليركب ظهر الموجة التى حملته إلى النتيجة الحالية.. باعتباره المنقذ المنتظر.. ولو كان هؤلاء الكتاب منصفين حقًا لشرحوا للناس حقائق الواقع كما هى، ولبيّنوا لهم أن البرلمان بدون حكومة تنفّذ قراراته لا يمكن أن يفعل لهم شيئًا ملموسًا، ناهيك أن تكون الحكومة والمجلس العسكرى، فى حالة تصادم مقصود مع البرلمان لإرباكه، ووضعه تحت التهديد المستمر.. إنهم لم يكتفوا بتضليل الناس عن هذه الحقائق، وإنما حمّلوا البرلمان والإخوان المسئولية عن كل الجرائم والآثام التى ارتكبها غيرهم فى حق هذا الشعب.. لقد مد الإخوان أيديهم يطلبون من القوى السياسية الأخرى المشاركة فى حمل المسئولية، ولكن تجاهلهم الجميع وأنكروا عليهم مكتسباتهم الديمقراطية. لا شك أن الإخوان قد اجتهدوا، ولا شك أيضًا أنهم ارتكبوا كثيرًا من الأخطاء فى التقدير والخطاب.. ولكنهم تراجعوا وصححوا مواقفهم، واستجابوا لنقد الآخرين ولم يغلقوا آذانهم عن سماع النصيحة.. إلا أن هجوم الآخرين عليهم اتسم بالمبالغة والتصعيد المتواصل، والتشويه المتَعَمَّد، الذى بلغ حد اتهام جيناتهم الوراثية..! وفى أثناء الانشغال بهذا التناوش العقيم، كانت الثورة المضادة تدبّر فى الخفاء لتمهّد لأحمد شفيق، حتى وصل إلى هذه النتيجة المفاجئة، ليهدّد صاحب المركز الأول بالضربة القاضية فى الجولة القادمة.. لقد استفاق كُتاب أصدقاء على هول الصدمة وتراجعوا عن مواقفهم السابقة، وتلك علامة على سلامة النسيج الأصلي لتكوينهم الفكري.. يغفر الله لهم ما قد سلف.. أما صاحبنا الذى أفردت لنقد أساليبه فى التضليل المعرفي بضع مقالات سابقة فلا يزال - مع عدد آخر من الكتاب - سادرًا فى غيّه القديم؛ فقد كتب مقالة بعنوان "شفيق ومرسى.. ولا عزاء للثورة.."، يكرر عباراته القديمة نفسها، ولا يأتى بشىء جديد.. دليلاً على إفلاسه الفكرى.. يقول: "لم يتغير شىء فى مصر طوال ستين عامًا.. فالقوتان الرئيسيتان الحاكمتان فى المشهد السياسى منذ عام 52 وحتى الآن، هما المؤسسة العسكرية والإخوان المسلمون..."، وأن ما سيواجهه الناس فى انتخابات الإعادة هو الاختيار بين شرّين: "الدولة العسكرية (شفيق) أو الدولة الدينية (مرسى)..."، وأبسط تعليق على هذا الهراء هو أنه تزييف للحقيقة، وتزييف للواقع التاريخى؛ فلم يكن الإخوان حزبًا مناوئًا للمؤسسة العسكرية على مستوى الندّية، ولكنهم كانوا طليعة المقاومة الشعبية ضد الاستبداد وحكم الفرد المستند إلى قوة الجيش وقوة الشرطة، وكانت النتيجة الطبيعية محاكمات عسكرية عبثية قادها ضابط مشهور بالجنون، فحكم على المستشار عبد القادر عودة وصحْبه بالإعدام، وزجّ بعشرات الألوف من الإخوان إلى أقبية السجون بتهم ملفّقة، ليواجهوا عمليات تعذيب.. احتمالها يفوق طاقة البشر.. حتى أن أحدهم كان يبحث عن فتوى شرعية تجيز له الانتحار، ليتخلّص من هول التعذيب الذى دفعه إلى حافة الانهيار العقلى، فكان يدسّ أصابعه فى مقبس الكهرباء لينهى حياته، ولكنه كان يصاب بصعْق، ثم يفيق ليواصلوا معه التعذيب.. عرفت هذه الحقيقة من صاحبها مباشرة بعد أن قضى فى السجن والتعذيب ستة عشر عامًا، ليخرج كيانًا محطَّمًا. كان تاجر عطور محبوبًا من الجميع، يقيم بجوارنا فى "منيل الروضة" وكانت لنا معه علاقات صداقة أسرية.. أرانى آثار الحريق فى أصابع يده اليمنى المشوّهة.. ولكن ما أصاب حياته النفسية من فزع وتشوّه لا يمكن وصفه بكلمات اللغة.. هذه الحالة تمثل طرف المعادلة التى يزيّفها صاحبنا للقراء كلما تحدث عن ثنائية العسكر والإخوان، وكأنهما ندّان متصارعان للسيطرة على البلاد والعباد.. وليست علاقة طاغية بضحيته.. ثم يتحدث عن ثنائية الحكم الدينى والحكم العسكرى.. مروّجًا لخرافة أخرى من صنع خياله.. ليس لها أساس فى الواقع المشهود.. إنما هى صورة نمطية بمضمونها وألفاظها، يرددها هو وأمثاله من عيّنة د.محمد المسبكاوى فى مقال له بالأهرام بعنوان "الاختيار العدمى"، وهم إذ يفعلون هذا لا يقدّمون نصيحة، ولا يسعون إلى رأب الصدع بين القوى الوطنية، وإنما يكتفون بلطم الخدود وإهالة التراب على مسيرة الثورة، فى محاولة غبية لإحياء الصراع العقيم بين العلمانيين والإسلاميين، وهو تناقض أصبح فى اللحظة الراهنة ثانويًا وهامشيًا، بالنسبة للتناقض الجذرى الذى ينبغى أن يحتشد له المجتمع بكل فئاته لإنقاذ ثورة الشعب، من الثورة المضادة التى يمثلها أحمد شفيق.. وقد أدرك هذه الحقيقة وائل غنيم الناشط السياسى الثائر حيث قال: "الكثير من المصريين اختاروا شفيق لخوفهم من الإسلاميين" ويعزو هذا إلى الإعلام المضلل الذى ركّز على أخطاء الإسلاميين ووضعها تحت المجهر وروّج ضدهم شائعات غير صحيحة. ويلفت النظر إلى حقيقة هامة فيقول: إن "الثورة ليست ميدانًا ولا اعتصامًا ولا مظاهرة.. الثورة فكرة والفكرة – مهما كان ما يحدث على الأرض - تحقق الكثير من الانتصارات.. آخرها أننا الآن بصدد اختيار رئيس...". وأقول: ليست الثورة فكرة فحسب وإنما هى روح، والروح باقية لا تموت حتى لو تمزق الجسد وتبدّد.. ستبقى روح الثورة حية فى وعى الشعب وضميره، ولن يسمح هذا الشعب بالعودة إلى الوراء، ولن يسمح بإعادة إنتاج النظام الاستبدادى بأى صورة.. وتحت أى عنوان: ليبرالى أو إسلامىّ.. ولن يتراجع عن مسيرته الديمقراطية، ولن يسمح بتجاوز أهداف الثورة أو الالتفاف عليها.. ولن يملّ من تقديم التضحيات والشهداء لتعزيز ثورته وتأكيد كرامته وخياره الديمقراطى.. ولكن ما ينشده المخلصون لهذا الوطن - لتحقيق هذه الغاية - هو الاحتشاد فى مواجهة الثورة المضادة، حتى لا نطيل فى أمد عذابات هذا الشعب الصبور، المُبْتَلَى بنخبه الفكرية... [email protected]