مصيبة الاستبداد الذى انكوت الشعوب بناره وانطوت وانزوت البلاد مغلقة تحت تأثيره أنه خلق نمطًا من التفكير لدى بعض من عاشوه وساهموا فيه أن السلطة قادرة على كل شىء، بداية من تزوير الانتخابات، وانتهاء بصناعة الزعيم وتزوير التاريخ. أصحاب هذا التفكير يحتاجون إلى إعادة تأهيل تعلمهم أن الثورات كالطوفان تغسل الأرض من أدرانها وتعيد تشكيل جغرافيتها من جديد ولا تسمح للنباتات الضارة بمكان لها على سطح الأرض الجديدة. المشهد المتأزم اليوم بين كل التيارات السياسية، والذى وصلت درجة الاحتقان فيه إلى الالتهاب، وتطاير شرره من قبل فى أحداث ماسبيرو، ومحمد محمود 1،2، ومجلس الوزراء وما يسمى بموقعة الجمل الثانية فى العباسية يدفعنا إلى استدعاء مجموعة من الحقائق أشرنا إليها من قبل، ولكن تكرار المشهد والأحداث وبذات السيناريو يوجب استحضارها فى الذهن، والتذكير بها إن كان البعض قد أصابه الزهايمر السياسى وأغراه الموقع وتحصن بمشروعية وجوده فى مجلس الشعب أو اللجنة العليا للانتخابات أو كرسى إدارة البلاد فى المرحلة الانتقالية، وهذه الحقائق هى: • أن جيش مصر وشعب مصر مزيج متحد فى خلاياه ونسيجه العام، ولا يستطيع أحد أن يفصل تلك الخلايا أو يمزق ذلك النسيج الحى وبخاصة بعد ثورة 25 يناير. • إن إقحام جيش مصر فى إهانة شعبه جريمة أخلاقية تمنح فرصة مجانية فى داخل مصر وخارجها لجهات مشبوهة تتطاول وتريد إسقاط مهابة مصر وجيشها، وهو الذى خاض المعارك من أجل مصر وقدم التضحيات من أجل كرامتها ورفع بين أمم الأرض رأسها وأعلامها، وانتزع باقتدار وتفوق وجسارة شهادة التقدير فى التضحية والبطولة والعزة حتى من ألسنة أعدائه. • إن المجلس العسكرى ليس هو الجيش المصرى، وإن كان يمثله فى قيادة البلاد. خلال المرحلة الانتقالية، فالجيش المصرى هو جيش مصر ورجاله هم أبناء الفلاح والعامل والموظف والمهندس والطبيب والسياسى وإمام المسجد وكاهن الكنيسة، جيش مصر هو أبناء هؤلاء جميعًا وولائه حتى تحت الانضباط العسكرى ليس لأشخاص وإنما للوطن، وإذا استشعر يومًا أن أحدا يعبث بمصير مصر فسيكون أول من يتصدى له مهما علا كعبه. • الدعوة لاقتحام مقر وزارة الدفاع إن كانت قد حدثت وليس التظاهر أو حتى الاعتصام تشكل بغير شك جريمة، ولكنها لا ترتفع لمستوى استباحة دماء شباب مصر واستباحة كرامتهم بأيدى فصيل من جيش بلادهم الذين يفترض فيه حمايتهم. • التظاهر أمام وزارة الدفاع كالتظاهر أمام وزارة القوى العاملة، أو وزارة الزراعة، أو وزارة الشئون الاجتماعية لا فرق، فكلها أماكن مصرية وكلها ملك للمصريين، والقول بأنه انتهاك لسيادة المكان عبث لا معنى له، لأنه تكريس لا لطبقية البزة الميرى على غيرها فقط، وإنما هو تكريس أيضًا لطبقية المكان وإضفاء نوع من القدسية المزيفة على بعض الأماكن، لا باعتبار ذاتها، وإنما باعتبار القاطنين فيها، والسؤال الأولى بالإجابة والعناية هو: لماذا اقتحم الجنود مسجد النور بالعباسية وهم يرتدون البيادة العسكرية؟ وكيف جرؤ الجنود على ذلك؟ ومن أعطاهم ذلك الأمر المنكر باقتحام أقدس الأماكن حقيقة على الأرض والقبض على المصلين فيه؟ • فى تصورى أن الفعل اللا أخلاقى الذى حدث وتكرر يشكل حماقة كبرى كونت بعناصرها الثلاثة فى الصوت والصورة وتكرار المشهد المسىء فى ماسبيرو ومحمد محمود ا ،2 ومجلس الوزراء وموقعة الجمل الثانية فى العباسية، تكرار الحدث المسىء كون القاتل الإعلامى الحقيقى لكل تجليات الفعل الأخلاقى والتحضر، الذى ظهر فى ثورة 25 يناير وتحدث عنه رؤساء العالم وطالبوا شعوبهم بأن يتعلموا منه، وكأن قدرنا أن نعيش حالة الاستلاب الحضارى وبشكل دائم، ولا يجوز أن يكون لنا ما نعتز ونفخر ونرفع به رءوسنا كمصريين. • المشهد فى العباسية وقبلها فى محمد محمود وزوار الفجر الذين بدأوا يعودون بعد منتصف الليل يذكرنا فى مصر بممارسات البوليس الحربى أيام حمزة البسيونى وصلاح نصر وجمال سالم واقتحام قرية كمشيش، وتصرفات المجلس تخلق البيئة التى تساعد على تصديق ذلك. • كل المصريين يكنون لجيشهم كل التقدير، لكن رقصات الجنود بعد فض اعتصام العباسية ولدت لدى الناس سوء الظن والتوجس، والشك فى الثوابت الثقافية لديه تجاه جيشه وقواته المسلحة، ومن أكبر الكوارث أن يفقد الشعب ثقته فى جيشه، ومن أكبر الكبائر أيضًا أن يكون الجيش هو المسئول عن هذه الحالة، ومن ثم يجب بسرعة أن تسترد القوات المسلحة مكانتها فى قلوب المصريين. • التصرفات المخزية تمنح العدو الإسرائيلى مبررات حرب الإبادة وانتهاك الحقوق التى يمارسها ضد الشعب الفلسطينى، وتسكت كل أصوات العرب فى الاعتراض على ممارساته. • على الجميع أن يعلم أن شعب مصر كسر حاجز الخوف وانتصر على الخطة رقم (100) التى أعدها حبيب العادلى ليقمع بها أى تمرد أو اعتراض على توريث جمال مبارك، واستطاع هذا الشعب بثورته السلمية أن يجمع رءوس الفلول فى سجن طره، وعقارب الساعة لا تعود إلى الوراء أبدًا ولن تعود مصر لما قبل الثورة، والشعب والجيش قادر على سحق كل الرءوس التى تتآمر عليه إذا تيقن من ذلك، فحذار أن تغضبوه. • بعض الجنرالات عليهم أن يعلموا وأن يدركوا أنه من المستحيل أن يعود زكريا عزمى وحبيب العادلى وأنس الفقى مرة أخرى. • زيارة المشير للجندى المصاب من أفراد القوات الخاصة فى أحداث العباسية كشفت جانبًا من غموض اللهو الخفى حيث ظهر الجندى بلحية طويلة بينما لا تسمح العسكرية المصرية لمجنديها بتربية لحاهم، فماذا يعنى ذلك...؟ وهل دفعت أجهزة الأمن ببعض الجنود إلى ميدان العباسية وموهت بتربية لحاهم حتى يتمكنوا من شيطنة المتظاهرين سلميا ويتحقق المطلوب...؟ وهل يتصور العسكر أن شعب مصر قابل للاستغلال مرة أخرى؟ • أعرف أن هندسة الرأى العام يمكن أن تخدع بعض الناس عن طريق الصحف والفضائيات، لكن شيئًا جديدًا طرأ على خريطة الرأى العام المصرى بعد ثورة 25 يناير، وهو عدم الرغبة فى تصديق الإعلام صحفًا وفضائيات، بل الشك فيما يتداوله فضائيات بعينها وصحف بذاتها، يصفها بأنها فضائيات الفلول الممولة بالمال الحرام. • الشعب الآن لديه خريطة وعى جديدة تستعصى على الخداع والتمويه، ومصادرة فى الحصول على الحقيقة أضحت متعددة، وقد انفكت قبضة النظم فى السيطرة على المعلومة، ولم يعد احتكار الخبر مجديًا فى وقف انتشاره أو وقف زحف العقول فى التعرف عليه وكشف جوانب الخداع والتدليس فيه بسهولة، وما كذبة عمرو عبد السميع فى مضاجعة الوداع عن الناس ببعيدة. الشعب يحتاج إلى إعادة الشعور بأن قواته المسلحة مازالت له، وأنها منحازة إليه وليست حامية لنظام المخلوع ولا متواطئة مع فلوله المخربة. • مصر اليوم فى حاجة لتضميد جراحها ولم شمل أبنائها وجمع لحمتها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وقبل ذلك وبعده لحمتها الإنسانية، وهى التى قامت من أجلها ثورة 25 يناير. • عامل الزمن مهم فى استعادة ثقة الشعب فى جيشه، ولذلك فمن المهم سرعة التصرف والتعامل بإحساس كامل بالمسئولية وعلى الجهاز الحاكم أن يدرك حساسية المرحلة وحاجة الشعب إلى رسالة تطمين واستعادة الثقة. • من هنا تكون الأولوية لتضميد الجراح وسد الفتق الذى حدث وبالسرعة الممكنة، فالدنيا تغيرت يا سادة فغيروا من نمط تفكيركم وإلا تجاوزكم الزمن وتخطاكم بسرعة تطوره، الذى يجرى بها وهى سرعة مذهلة ولا تنتظر أحدا لتستأذن منه. مفتى أستراليا Email: [email protected]