يُرجَّح أن غالبية قرَّاء "المصريون" لم يسمعوا باسم "مراد دهينة" من قبل، إلا أنه على السَّاحة السياسية والاجتماعية الجزائرية يعد رمزًا بارزًا ساهم فى العمل السياسى والاجتماعى فى بلاده - وإن كان من خارجها لحوالى عقدين من الزمان، كما أنه على مستوى نشطاء حقوق الإنسان أصبح أحد الجراح المفتوحة التى يندى لها جبين البشر هذه الأيام. بدأت حياة "مراد دهينة" فى إحدى مدن الجزائر، وتدعى "البليدة" وانتهى به المطاف الآن فى سجن "لا سنتى" بباريس، حيث احتجز قبل حوالى 100 يوم، بموجب طلب تسليم أصدرته السلطات الجزائريَّة منذ 9 سنوات! يبدو أن الفرنسيين تذكَّروه فجأة! عاش فى هذه الفترة أيَّامًا من أصعب الأيام فى تاريخ الجزائر الحديث، فهو من الجيل الذى عاش الحرب الأهليَّة الجزائريَّة التى اندلعت غداة انقلاب نخبة الحكم والجيش آنذاك على نتائج الانتخابات الديمقراطية التى أجريت فى1991، والتى كانت نتيجتها فوزًا كاسحًا للتيار الإسلامى هناك الممثل حينها بالجبهة الإسلامية للإنقاذ. وهى من أصعب الأيام لأن 200 ألف جزائرى تقريبًا قضى فيها، واستمرت لحوالى عشر سنوات، والحقيقة أن هذه الأيام مثلما كانت نقطة تحول كبيرة للجزائر والجزائريين كانت كذلك ل"دهينة" التى أخذت حياته منذ ذلك الحين منحى آخر؛ فبعد أن بدأ حياته كشاب جزائرى متفوق تلقى تعليمه فى أعرق الجامعات الغربية، وكان ينبئ مستقبله بحياة شخصية هانئة، تحوَّل بفعل تداعيات الانقلاب على الديمقراطية فى الجزائر إلى ناشطٍ سياسى وحقوقى أقض مضجع السلطات الجزائرية، على الرغم من أن هذا النشاط كانت قاعدته الضفة المقابلة لبلاده.. فرنسا! حياة عادية.. حتى الآن! ولد "مراد دهينة" فى نهاية عام 1961، وهو ابن لعائلة كبيرة وعريقة فى الجزائر عرف عنها نضالها المستمر قبل استقلال الجزائر، وخدمة أفرادها لبلادهم بعد إعلان الاستقلال، والواقع أن سيرة والده وعمه الذى اعتنى به، تظهر كيف أن "مراد" قد ترعرع فى بيئة روحية وفكرية مفعمة بالروح الوطنية والقيم الأصيلة لمجتمع الجزائر كمجتمعٍ عربى مسلم. وعلى الرغم من أن "دهينة" تابع ثانويته بتفوق فى مسقط رأسه، إلا أنه تخرج فى أفضل الجامعات فى العالم فى مجال العلوم والتكنولوجيا؛ حيث حصل على الماجستير من معهد "ماساشوسيتس" للتكنولوجيا عام 1987، والدكتوراه بعدها بعامين فقط، وفى نفس العام، عُيَّن "دهينة" كأخصائى فى الفيزياء التجريبية فى قسم الفيزياء المرموق التابع للمدرسة الفيدرالية متعدَّدة التقنيات فى العاصمة السويسرية. على أى حال، كانت الأمور تنبئ بمستقبلٍ شخصى واعد لشابٍ حقق نبوغًا علميًّا ومهنيًّا واضحًا، إلا أن تطور الأمور بسرعة فى الجزائر وانقلاب الأوضاع بها بفعل انقلاب حكامها وبدعمٍ من الجيش على عملية ديمقراطية أتت بالإسلاميين، هذا الانقلاب غيّر مسار دهينة من شابٍ جزائرى عادى يسعى لمستقبل أفضل لحياته، إلى ناشطٍ سياسى وحقوقى، يدافع عن حلمٍ ديمقراطى وتحيق به المخاطر من كل جانب! انقلاب على الديمقراطيَّة وفى حياة "دهينة"! يمكننا القول إن الجزائر شهدت فى أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات ما يشبه ربيعًا عربيًّا مبكرًا؛ حيث شهدت البلاد فترة وجيزة من الانفتاح السياسى النسبى توُّجت بانتخابات عامَّة حققت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية فوزًا كبيرًا مما هددَّ النظام القائم آنذاك المدعوم من الجيش، فألغى الأخير نتائج الانتخابات وانقلب عليها فى 1992، فدخلت البلاد فى أتون صراعٍ لم تتعافَ _ نسبيًا منه إلا فى أوائل العقد الماضى. لم يكن "دهينة" بعيدًا عن هذه الأحداث، بل إنها قلبت مجرى حياته رأسًا على عقب. فرغم أن "مراد دهينة" لم يكن عضوًا فى الجبهة الإسلامية للإنقاذ، إلا أنه أدان عملية الانقلاب العسكرى فور وقوعها، وقرَّر معارضة خطة الانقلابيين، وعلى مدار عشرين عامًا صار دهينة معارضًا شرسًا ودءوبًا للنظام الجزائرى انخرط مراد دهينة فى حملة إعلام للرأى العام الدولى عن انتهاكات حقوق الإنسان فى الجزائر، وقام بتنظيم العديد من الفعاليات لهذا الغرض. وعندما قام الجنرالات بحلِّ الجبهة الإسلامية للإنقاذ، قرّر دهينة، احتجاجًا على ذلك، الانضمام إلى صفوفها كأحد ناشطيها فى الخارج, وفى الذكرى السنوية الأولى للانقلاب، قام دهينة بتنظيم حلقة نقاش فى جنيف للتعريف بما يقع فى الجزائر من انتهاكات، مثل الاحتجاز التعسفى، والاعتقال فى معسكرات الصحراء والتعذيب المنهجى للمعتقلين السياسيين. وبعد الانقلاب بسنتين، شارك مع مجموعة من الأصدقاء، فى تأسيس دار للطباعة، تولّت نشر تقارير عن حالة حقوق الإنسان فى الجزائر، وتكفّل بنفسه بطباعة أولى منشورات هذه الدار، ومنها الأجزاء الثلاثة للكتاب الأبيض عن القمع فى الجزائر، الذى تمّ حظره فى فرنسا. ساهم كذلك فى إعادة تأسيس جبهة الإنقاذ فى الخارج، إلا أنه استقال منها بعد ذلك وأسس حركة جديدة سمَّاها "الرشاد"، وهى حركة سعت بوجهٍ عام إلى تضافر جهود كل القوى السياسية والاجتماعية الجزائرية، ومن ثم إحداث تغيير جذرى فى النظام السياسى فى البلاد، كما أنشأ قناة تليفزيونية بنفس الاسم على شبكة الإنترنت فى بداية الأمر، فى عام 2010، ثمّ عبر القمر الاصطناعى. وكان أبرز ما قام به بعد تفجر الاحتجاجات فى أرجاء العالم العربى هو أنه شكل مع قيادات سابقة فى جبهة الإنقاذ تقيم فى خارج البلاد حركة جديدة تدعو إلى انتفاضة سلميَّة على غرار انتفاضات الرَّبِيع العربى فى الجزائر، إلا أن هذه الدعوة تقلصت عندما ألقى القبض على "دهينة" فى فرنسا فى يناير بعد أن طلبت الجزائر تسليمه. نظام الحكم يستشعر خطر "دهينة" من باريس! لا شكَّ أنه لم يغب عن "دهينة" ما سيكلّفه هذا المسار من ثمن باهظ فى ظل معارضة نظام استبدادىِّ، سواء كان ذلك خطر الاغتيال، أو الاعتقال أو النفى. صحيح أن غالبية نشاطاته انطلقت من خارج الجزائر، ولكن نظرًا لما حظى به الانقلاب من دعم من دوائر الحكم فى فرنسا، بالإضافة إلى حملة الدعاية واسعة النطاق التى شنت على كلِّ من عارض الخيارات السياسيِّة للجنرالات الجزائريين، فإن المخاطر كانت تحيق به وبنشاطاته. لم يتوانَ النظام الجزائرى عن مواجهة الخطر الذى مثله " دهينة" ونشاطه الكبير فى الخارج، حيث واصل عبر قنواته الدبلوماسية ووسائل الإعلام التابعة له شنّ حملة تشهير ضدّه، من خلال تقديمه أمام السلطات الأوروبية فى صورة "إرهابى" يجب تسليمه إلى الجزائر. مُطارد فى "عاصمة الأنوار"! تعرّضَ "دهينة" بعد تعرّضه للمطاردة من قِبل وزير الداخلية الفرنسى شارل باسكوا، الذى باشر فور تنصيبه فى عام 1993 حملة اصطياد للجزائريين المعارضين للانقلاب، خلّفت العديد من الضحايا، بين مرحلين، ومنفيين، واضطرّ مراد دهينة إلى الهروب من فرنسا، ليلجأ إلى جنيف. اتُّهِمَ مراد دهينة فى البداية، فى عام 1994، بتقديم الدعم اللوجستى، بل وحتى الأسلحة، إلى الجماعات المسلّحة فى الجزائر، استنادًا إلى تقرير أحد أفراد الشرطة فى جنيف، ثبت فيما بعد. وفى 1997، أصدرت العدالة الجزائرية الخاضعة للأوامر العسكرية حكمًا غيابيًا بحقّ مراد دهينة بالسجن لمدة 20 عامًا، وكلّفت البعثات الدبلوماسية المسخّرة لخدمة الجنرالات بتقديم طلب تسليمه. على الرغم من انسحابه من الجبهة الإسلامية للإنقاذ، صدر ضده فى 2005 حكمًا غيابيًا جديدًا بالسجن المؤبّد، على أساس "اعترافات" انتزعت من محتجزين تحت التعذيب. تصفية الحساب.. لماذا الآن؟ ألقت السلطات الفرنسية القبض عليه فى 16 يناير 2012، بناء على طلب ترحيل صادر على النظام الجزائرى من الصعب أن نقول إلا أن أسبابه سياسيَّة، ورفضت المحكمة الاستجابة لكل طلبات الإفراج المؤقت رغم الضمانات التى قدمتها هيئة دفاعه. وارتأت غرفة التحقيق فى 4 إبريل 2012 تأجيل القضية إلى 6 يونيه القادم وتمديد فترة اعتقاله، رغم اعتراف رئيسة غرفة التحقيق والمدعى العام علنيًّا بتناقضات الطلب الجزائرى وعدم توافقه مع الاتفاقية الثنائية المتعلقة بطلبات الترحيل لسنة 1964، ومع الأحكام ذات الصلة من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسية. كما أن طلب الترحيل هذا لا يشمل تواريخ ولا أماكن الوقائع، كما يستند على وثائق متناقضة كانت السلطات القضائية الفرنسية سترفضها لو تعلق الأمر بقضية أخرى، لولا أن الأمر هنا يتعلق بمعارض جزائرىِّ. يذكر أن المدّعى العام الفرنسى قد أكد أنّ عملية الاعتقال جاءت فى أعقاب طلب تسليم من السلطات الجزائرية يعود تاريخه إلى عام 2003، تتّهمه فيه بارتكاب أعمال إرهابية فى سويسرا، خلال السنوات 1997- 1999، وبينما رفضت السلطات السويسرية استمرار الاستجابة للطلبات العديدة باعتقال وتسليم مراد دهينة إلى النظام الجزائرى، قرّر القاضى الفرنسى وضعه رهن الاعتقال فى انتظار الفصل فى طلب التسليم. وهذا يجعلنا نتساءل.. لماذا الآن؟ يقول دبلوماسى مغربى سابق إن ثلاثة أسباب على الأقل تقف وراء اعتقال "دهينة": أولها أنه جاء رد فعل على الرفض المطلق لحركة "الرشاد" الاستجابة لمحاولات النظام الجزائرى فتح قنوات للحوار معها، والثانى هو المظاهرة التى نظمتها الحركة بمناسبة الذكرى العشرين لوقف المسار الديمقراطى فى الجزائر وهى المظاهرة التى سببت إزعاجًا كبيرًا جدًا للنظام الحاكم فى الجزائرولفرنسا على السواء، وليس أخيرًا اعتقال أحد رءوس حربة النظام - الجنرال خالد نزار - فى الحرب على الإسلاميين أثناء وجوده فى سويسرا، وإن أطلق سراحه بعد ذلك. فى كل الأحوال يبدو أنه وبعدما ضاق وطن "مراد دهينة" به، لم يجد فى نهاية المطاف إلا سجنًا فى منفاه! بالتعاون مع منظمة "الكرامة" لحقوق الإنسان