حسنا فعل الأزهر بتعاطيه مع القضايا الجوهرية التي تمس وتهدد وجود المسلم بل والإسلام نفسه في هذه الفترة المتسارعة نحو التطرف السياسي والديني وربط الإسلام بالإرهاب، وأمام فضيلة الإمام الأكبر ودائرة صنع القرار بالأزهر فرصة عظيمة في ملء فراغ المرجعية الدينية في دول الاتحاد الأوربي وبخاصة ألمانيا في ظل الخلاف الشديد بينها وبين تركياالتي تعد رافد ألمانيا الرئيسي بالأئمة وبالمرجعيات الدينية، ونظرا لأن توجهات أردوغان السياسية الأخيرة خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة توصف بتنكرها لقيم الديمقراطية والمبادئ الدستورية تحاول ألمانيا التقرب من الأزهر لإيجاد بديل أو رافد إضافي للمرجعية الدينية وهو ما يفسر زيارة نائب رئيس البرلمان الألماني لشيخ الأزهر قبل أيام ثم زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل له اليوم. في هذا السياق يجب على الأزهر اغتنام الفرصة النادرة وذلك في تصوري عبر إدراكه للمفاهيم الأساسية التي تشكل جوهرالخلاف مع المسلمين والخوف ومنهم، ونأخذ على ذلك مثالا مفهومي "المواطنة" و"التعددية الدينية"اللذان وردا أمس في "إعلانُ الأزهرِ للمُواطَنةِ والعَيْشِ المُشتَرَكِ"، حيث يلاحظ على إعلانات الأزهر الأخيرة ووثائقه أنها تعطي للمفاهيم المستقرة في الوعي الجمعي العالمي السياسي منه والاجتماعي دلالة مقيدة لمعناها، ولا عيب في ذلك إن أراد الأزهر استخدامها بمضمون مغاير يرتضيه لنفسه ولكن عليه أن يحدده سلفا، أما أن يستخدمها في إعلاناته هكذا بدون تقييد مستفيدا من دلالتها الإيجابية في الذهن الثقافي العالمي ثم يخالف واقعه لكثير من مضامينها فهذا سيحول حتما دون الاعتماد على الأزهر كمرجعية دينية ذات طابع علمي بل سيؤدي إلى ترسيخ الصورة الذهنية عن انغلاقه وتقليديته وعدم وعيه بمضامين مفاهيم الفكر الحداثي. فعندما يستخدم الأزهر في إعلانه مصطلح "التَّعدُّديَّةِ الدِّينيَّةِ" يوحي بقبوله مفهوم التعددية الذي لا يفرق بين تابع دين سماوي أو غيره، في حين أن "وثيقة الأزهرحول مستقبل مصر"الصادرة في يونيو 2011 قصرت التعددية الدينية على أتباع الديانات السماوية فقط، رغم أنها تعد رغم كل شيء أفضل ما قدمه الأزهر أو بالأحرى ما حمل اسم الأزهر منذ زمن بعيد. كما أن في تعبير "انطِلاقًا من الإرادةِ الإسلاميَّةِ-المسيحيَّةِ المُصمِّمةِ على العَيْشِ المشترَك" قصر واضح لمفهوم التعايش الشامل لكل المواطنين على المسلمين والمسيحيين فقط، وهو ما يعكس التأثر الواضح بالظرف السياسي الحالي في مصر حيث يعاني المسيحيون خاصة من العنف والإرهاب باسم الدين، وهذا يتعارض مع نص البند الأول القائل بأن "مصطلح "المواطنة" هو مصطلحٌ أصيل في الإسلام"، فطالما أن المواطنة مصطلح إسلامي فلا يجب الإشارة في ذكره إلى أي دين لأنه يعني تساوي كافة المواطنين في كافة الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين أو الجنس أو اللون، ناهيك على أن استخدام لفظ "مصطلح" يوحي بأن من صاغ الإعلان لا يدرك الفرق بين كلمتي مصطلح ومفهوم، فمفهوم المواطنة يمكن الاستدلال عليه بصحيفة المدينة التي أوردها الإعلان باسم "دستور المدينة" إيحاء بمعرفة اللسان الإسلامي لكلمة دستور، أما مصطلح المواطنة فهو جديد على اللسان العربي تبعا لحداثة أصله الغربي. هذا التعميم في الصياغة وعدم إدراك جوهر المفاهيم هو الذي دفع إلى صياغة عبارة : "ويُبادر الإعلان إلى تأكيدِ أنَّ المواطنة ليست حلًّا مستوردًا، وإنَّما هو استدعاءٌ لأوَّل ممارسةٍ إسلاميَّةٍ لنظام الحُكمِ طبَّقَه النبيُّ ... وفي أوَّلِ مجتمعٍ إسلاميٍّ أسَّسَه، هو دولة المدينة." فبغض النظر عن الدلالة العدائية لعبارة "المواطنة ليست حلًّا مستوردًا" التي توحي بكراهية كل مستورد نافعا أو ضارا، وتتجاهل معنى التثاقف والتكامل الحضاري وأن التراث الفكري مشترك كوني بين كافة الحضارات ومنها الإسلامية، فهذه العبارة تستخدم لفظ "دولة المدينة" وكأن التراث الإسلامي السياسي عرفها بمعناها الحالي وهو ما يخالف ما استقر في الذهن بأن معناها الأسرة الحاكمة شخوصا أو حقبة مثل الدولة الأموية والعباسية الخ وهو من معنى التداول أي التعاقب الذي ورد في القرآن الكريم. وللحديث بقية!