أما وقد أوشكنا علي طي صفحة المعركة الانتخابية وتوافرت لنا إلي حد كبير إجابة السؤال من الذي فاز أو خسر، فقد اصبحنا مطالبين بأن ننقل الحوار إلي مستوي أخر نجيب فيه علي السؤال: ماذا نحن فاعلون ؟ (1) سنواجه مشكلة كبيرة، إذا اصر البعض علي استبقاء أجواء المعركة بانفعالاتها ومراراتها، وغبارها الذي حجب عن الأعين الأهداف الكبيرة وضيع منا البوصلة التي نهتدي بها لكي نصل بالمسيرة إلي بر الأمان والسلامة. وستكون مشكلتنا اكبر لو ان ميليشيات البلطجية اختفت من الشوارع في حين استمر نظراؤهم في ممارسة الدور عبر وسائل الإعلام حيث لايخفي عليك أن الأخيرين أخطر بكثير من الأولين، لأن بلطجية الانتخابات تولوا ترويع وتخويف بعض الناخبين في دوائر بذاتها. أما ميليشيات وسائل الإعلام فإنها تشيع الترويع والتخويف في الوطن بأسره. في مواجهة هذا الموقف، فإننا لانملك سوي ان ندعو للجميع إلي الارتفاع فوق المرارات والحسابات الصغيرة، والتعامل بمسئولية مع المشهد الراهن، ووقف حملات الترويع والكيد، واضعين في الاعتبار أمورا أربعة هي: * ان استمرار التراشق والاحتراب الأهلي يضيع علي الجميع فرصتهم التاريخية في الاحتشاد والضغط لصالح المضي في خطوات الاصلاح الديمقراطي. * انه ليس مفهوما ولامعقولا أن ترتفع الأصوات مطالبة بضمان حرية الانتخابات ونزاهتها، ثم حين يسفر بعض الحرية المتاح عن فوز فئة من الناس لاتعجب البعض نضيق بالنتيجة ونشهر بها وندعو إلي الانقلاب عليها. * ان ماجري حتي الآن ليس اكثر من تغيير نسبي في موازين القوي السياسية داخل مجلس الشعب لم يمكن قوي المعارضة حتي من الفوز بثلث المقاعد، وهي النسبة المقدرة لطلب تعديل الدستور، ناهيك عن انه لم يخل بالأغلبية المقررة للحزب الوطني الحاكم الذي سيظل صاحب الكلمة الأخيرة في كل الأحوال، في حين ان الحملات المضادة تصوره بحسبانه تغييرا في نظام الحكم وتمهيدا لإرساء حكم جديد. (2) لقد سلطت أضواء قوية علي مثالب التجربة الانتخابية وخطاياها، وبالتالي حظي النصف الفارغ من الكوب بالقدر الأكبر من الاهتمام ربما لأنه الأكثر إثارة وهو ماحجب نصفه الملآن وظلمه في حين اننا بحاجة لاستدعائه للإفادة منه والاسترشاد به في الإجابة علي السؤال ماذا نحن فاعلون في ذلك النصف الملآن نلحظ مجموعة من الإشارات المهمة التي في مقدمتها مايلي: * أنه لأول مرة منذ خمسين عاما أو أكثر يدخل المجلس التشريعي ذلك العدد من المعارضين الذي ناهز المائة عضو، يمثلون ربع أعضاء المجلس، الأمر الذي يعني إننا سنشهد في الفترة المقبلة معارضة قوية، وبالتالي مجلس قوي بصورة نسبية علي الأقل فإنه سيكون أقوي من كل ماعرفته مصر من مجالس نيابية منذ قامت الثورة في عام1952. * ان تصويت مابين35 إلي40% من الناخبين لصالح المعارضة بمختلف فصائلها وفقدان الحزب الوطني لأكثر من مائة مقعد في المجلس الجديد محمل برسالة صريحة في الاحتجاج والمطالبة بالتغيير، وهي رسالة يتعين قراءتها جيدا سواء من جانب الحزب الوطني الذي يجب ان يستوعب الاحتجاج، ويعالج أسبابه أو من جانب أحزاب المعارضة التي صارت مطالبة بأن تلبي بعضا من أشواق الجماهير التي صوتت لها. * ان المجتمع المدني في مصر اثبت حضورا لافتا للانتباه من خلال مجموعاته المنظمة التي تمسكت بحقها في الرقابة ومتابعة عملية التصويت، وقاتلت علي ذلك الصعيد بإصرار حتي انتزعت ذلك الحق، ومارسته وأبدت استعدادا مدهشا لدفع ثمن الممارسة. * ان عددا غير قليل من القضاة الذين انيطت بهم عملية الإشراف علي الانتخابات كان لهم موقفهم النزيه والجسور، ساندهم في ذلك بقوة نادي القضاة، الذي حفر لنفسه مكانة صنفته بامتياز ضمن حصون الدفاع عن الحرية في مصر، وكانت الشهادة التي أعلنتها المستشارة نهي الزيني نائب رئيس النيابة الإدارية تجسيدا لمدي النزاهة والجسارة التي تحلي بها القضاة في مباشرتهم لمسئوليتهم. * ان نتائج الانتخابات كشفت للرأي العام عن وجه للحياة السياسية لم يكن معلوما اذ رسمت لنا خريطة جديدة نسبيا للأحزاب، والقوي السياسية المصرية. ورغم كل ماقيل عن ملابسات التصويت التي تابعها الجميع فالقدر الثابت إننا بعد الانتخابات أصبحنا نري مشهد التعددية السياسية في البلاد بعين اخري مغايرة الأمر الذي ينير لنا طريق التعاطي مع مختلف القوي في تقدير احتمالات المستقبل. (3) اذا استمر التراشق والاشتباك والكيد الإعلامي بين الفرقاء السياسيين فلا مجال للحديث عن أي تقدم في مسيرة الإصلاح السياسي، إذ في هذه الحالة ستنقلب الطاولة، ولن يكون الانتصار للديمقراطية هوالهدف وإنما سينتكس الأمل وسيكون محور العراك وهدفه هو تصفية المنافسين، والخصوم، وسيصبح الوطن هو الخاسر الأكبر في تلك الحرب الأهلية البائسة، الأمر الذي لااستبعد في ظله أن يصبح الحل هو الحل بمعني أن ينتهي الأمر بحل أو وأد المجلس النيابي الوليد، يدعوي تجنيب البلاد حالة الفوضي التي قد تنجم عن استمرار العراك خصوصا إذا تزامن ذلك مع كثافة الطعون المقدمة في نزاهة النتائج المعلنة. أما إذا استعادت القوي السياسية رشدها، وتذكرت أن هناك وطنا ينبغي الدفاع عن حلمه، وان شوق أبنائه كبير لإقامة الديمقراطية وتثبيت أركانها، باعتبار ذلك طوق النجاة، والمخرج من أزمة الاحتقان الراهنة إذا توافر ذلك الإدراك فستكون تلك بداية مشجعة للتقدم إلي الامام والتفاؤل بالمستقبل. عملا بالقول المأثور، تفاءلوا بالخير تجدوه فسوف نفترض أن ذلك حدث، وان الله نور بصيرة قادة القوي السياسية المصرية فإن المسئولية الوطنية، والسياسية تفرض عليهم في هذه الحالة ثلاثة أمور هي: * أولا: نقد الذات ومراجعة ماجري للاستفادة من دروس مرحلة الانتخابات بوجه أخص فإن فقر الاحزاب السياسية مع تدهور وضع حزب عريق مثل الوفد وتراجع شعبية الحزب الوطني ذلك كله يتطلب وقفة طويلة، لبحث مواضع العطب في علاقة تلك الأحزاب بالمجتمع. كما أن حجم التصويت الذي حازه الاخوان يحتاج بدوره الي دراسة، لتبين المدي الذي أشرف به عوامل الانتماء والبفغاطت الاحتجاج في كتلة المصوتين لهم مما يحتاج إلي مناقشة ايضا ظاهرة غياب76% من الناخبين عن عملية التصويت وغياب الأقباط والمرأة وتفشي ظاهرتي العنف والرشوة في أغلب الدوائر الانتخابية هذه العناوين كلها ينبغي ان تبحث بشكل جاد سواء داخل الاحزاب ذاتها، أو علي المستوي الوطني بحيث يظل الهدف هو كيفية تجديد الحياة السياسية وتطهيرها مما يعلق بها من شوائب، ومعوقات، وليس خافيا ان بعضا من تلك المعوقات يتعلق بالأحزاب ذاتها، والبعض الأخر يتعلق بسياسة الحزب الوطني التي تداخلت مع سياسة الدولة وصارت تجسدا لموقفها من مجمل الحياة السياسية. * ثانيا: التزام قوي المعارضة إطار الجبهة الوطنية من أجل التغيير، باعتبارها لافتة جامعة تعبر عن حالة الاحتشاد الوطني الداعي إلي الإصلاح السياسي ورغم التفوق العددي المشهود لممثلي الإخوان، فإن انخراطهم في الجبهة سيكون ادعي إلي تعزيز الثقة بينهم وبين الاحزاب الأخري، ورسالة مهمة لطمأنة القلقين والخائفين كما ان تعاونهم مع الأحزاب الأخري داخل المجلس سيقوي من حضور المعارضة ومن قدرتها علي تحمل مسئوليتها في ممارسة دورها. * ثالثا: التوافق حول ترتيب أولويات العمل الوطني، بعد تنحية كل ماهو ذاتي في الحساسيات والمرارات أو في البرامج ولأن الاخوان هم أكبر كتلة برلمانية بعد الحزب الوطني فإن التحدي الذي سيواجههم هو ما إذا كانوا سيقدمون مصلحة الجماعة علي مصلحة الوطن أم العكس، وكيف سيترجم شعار الإسلام هو الحل عند تنزيله علي ارض الواقع، في هذا الصدد فإنني ازعم ان قضية اطلاق الحريات العامة ينبغي ان تحتل رأس الأولويات فيما هو سياسي علي الأقل، لسبب جوهري هو أن أي كلام عن الاصلاح أو الديمقراطية سيفرغ من مضمونه ويفقد جدواه، في غياب ضمانات الحرية بمختلف تجلياتها، ومالم تتوافر تلك الحريات حرية التعبير، والاجتماع وحرية تشكيل الأحزاب والتجمعات الأهلية فستظل الحياة السياسية تعاني الهشاشة والضعف، وسينعكس ذلك علي ضعف المجتمع وهزاله واستقالته من الشأن العام. (4) لامستقبل للديمقراطية في مجتمع ضعيف، وعافية المجتمع تقاس بمقدار مايتوافر له في مؤسسات ومنظمات أهلية فاعلة، وهذه المؤسسات لاتتشكل، وفعالياتها لاتتوافر إلا في ظلال الحرية التي علمتنا خبرات التاريخ أنها تنتزع ولاتوهب. والنضال علي تلك الجبهة ليس سهلا، ولا هو قصير الأجل فتأسيس الديمقراطية في المجتمعات الغربية استغرق مابين مائة ومائة وخمسين عاما تبلورت خلالها أفكار المواطنة والشفافية والحريات المدنية، وتداول السلطة والفصل بين السلطات، وغير ذلك من ركائز البنيان الديمقراطي، ونحن لسنا مضطرين لانتظار تلك المدة وقطع الشوط من أوله، بعدما تبلورت منظومة القيم الديمقراطية، وصار بين أيدينا خريطة طريق مؤدية إليها. ما أريد أن الفت الانتباه إليه أن قوة المجتمع هي الضمان الأول لثبات الديمقراطية واستقرارها وأننا نخطئ إذا اكتفينا في تقييم المستقبل بالنظر إلي الطرف الذي يتولي السلطة، وتجاهلنا ما يتمتع به المجتمع من قوة أو ضعف، فالمجتمع اذا قويت شوكته من خلال ثبات وفعالية مؤسساته كفيل بتقويم مسيرة السلطة والحد من تغولها والحيلولة دون جنوحها إلي الاستبداد. وقعت علي محاضرة لمست الموضوع، ألقاها الدكتور عزمي بشارة المثقف الفلسطيني البارز، بالعاصمة الأردنية عمان( في2005/9/10)، كان عنوانها تحديات الانتقال إلي الديمقراطية أشار فيها إلي أن الإصلاحات الليبرالية الحاصلة في العالم العربي، تمثل تغييرا في وسائل الحكم، ولا تعتبر نقلة حقيقية نحو الديمقراطية، تكرس مفهوم سيادة الشعب بما يستصحبه من حقوق في المشاركة والمساءلة وتداول السلطة. أضاف في هذه النقطة أنه في التحولات الديمقراطية التي شهدتها أوروبا الشرقية غالبا ما ظلت السلطة الحاكمة هي القابضة علي زمام عملية التحول الديمقراطي، ولم تسمح باشرك قوي اجتماعية حقيقية من خارج النظام في تلك العملية، في حين أن الاصلاح المؤدي إلي الديمقراطية يجب أن يكون ثمرة لصفقة اجتماعية تعقد بين القوي الممثلة للنظام، وبين قوي سياسية أخري من خارجه الأمر الذي يعني أن وجود تلك القوي التي تمثل المجتمع شرط لحدوث التحول الديمقراطي. أن سؤال الوقت هو: هل تتيح التركيبة الجديدة للمجلس التشريعي المقبل فرصة عقد هذه الصفقة المرتجاة، أم إنه في ظل استمرار الأغلبية لصالح الحزب الوطني ستعود ريمة إلي عادتها القديمة، وبالتالي سيظل الحديث عن الديمقراطية نوعا من التجمل لا علاقة له بالفعل السياسي؟ أم أن السيناريو الأسوأ هو الذي سيتحقق بحيث يصبح الحل هو الحل؟. ليست لدي إجابة شافية علي السؤال، لكني أعرف شيئا واحدا، هو أن شوق المجتمع إلي التغيير والاصلاح السياسي لم يتراجع، وأن صوت احتجاج الجماهير وغضبها إزاء الاوضاع الراهنة يجب ان يسمع قبل فوات الأوان، وأن الناس لن يهمهم في نهاية المطاف هوية الذي كسب أو خسر، بقدر ما يهمهم أن تكون النتيجة إضافة إلي حلم الوطن وليست خصما منه. ----------------------------- الاهرام