تُوضع الدساتير من أجل احترامها، والالتزام بها، باعتبارها الوثيقة الأرفع في حفظ كيان الدولة والمجتمع، وتنظيم العلاقة بين السلطات، ورسم الحقوق والواجبات، فتسير الحياة سيرها الطبيعي دون مشاكل أو أزمات، أو افتئات أحد على أحد، أو جهة على أخرى. لكن الدستور في مصر يظل نصوصا مكتوبة لا تحظى بالتطبيق والتفعيل، ولا الاحترام الواجب. دستور 2014 جيد، ومهم، ولا غبار عليه، ويؤسس لدولة عصرية مدنية ديمقراطية، لكنه لايزال حبرا على ورق حتى الآن، كل ما فيه من نصوص ومواد رائع وجميل، لكن كل ما في الواقع، أو معظمه، أو كثير منه لا يلتزم بالدستور ولا يخضع له، وتُدار الأوضاع كأنه لا يوجد دستور ينظم العلاقة بين الدولة ومواطنيها، وبين السلطات التي تشكل النظام السياسي للدولة، أو لا يجد الرعاية والحرص التام على تنفيذ ما ورد فيه من مواد من جانب أركان النظام وهم المسؤولون عن تلك المهمة. في قضية تعيين الحدود البحرية مع السعودية، وتوقيع اتفاق مفاجئ وصادم بأحقية المملكة في جزيرتي تيران وصنافير، وهى قضية وطنية استراتيجية ذات حساسية خاصة وفائقة، هناك تجاهل لما ورد نصوصا وروحا في الدستور الذي كتبته السلطة الحالية، وتم استفتاء الشعب عليه. ألم يقرأوا الدستور؟، أم قرأوه ولم يعيروه اهتماما؟، أم ينظرون للدستور على أنه مجرد وثيقة دعائية للتفاخر بكوننا كتبنا دستورا متقدما، ثم في الواقع يبقى موضوعا على الرف؟. لنقرأ ونعقب. مادة(1) "جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة, موحدة لا تقبل التجزئة, ولا ينزل عن شيء منها". هذا هو السطر الأول في المادة الأولى وهو ما يعنينا هنا منها، وما ورد فيها كلام واضح جدا، لا يحتمل التأويل، وبالتالي ماذا نسمي اتفاق تسليم الجزيرتين، ومضي الحكومة في إجراءات التسليم بإحالة الاتفاقية إلى مجلس النواب بعد أشهر من توقيعها، وقبل أيام من صدور حكم المحكمة الإدارية العليا بشأن طعن الحكومة في حكم محكمة القضاء الإداري ببطلان توقيع الحكومة على الاتفاقية، وتأكيد أن الجزيرتين مصريتان؟. أليس الاتفاق والتنازل عنهما يصطدم مع أول مواد الدستور؟. مادة(139) "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة, ورئيس السلطة التنفيذية, يرعي مصالح الشعب ويحافظ علي استقلال الوطن ووحدة أراضيه وسلامتها, ويلتزم بأحكام الدستور ويباشر اختصاصاته علي النحو المبين به". هذه هى المادة 139، وتتضمن توصيفا لمهام رئيس الجمهورية، ومنها الحفاظ على وحدة أراضي الوطن وسلامتها، والالتزام بأحكام الدستور، فهو مقيد في مباشرة مهامه بالدستور، فأين ذلك النص القاطع الثاني، بعد المادة الأولى، من تسليم الجزيرتين لدولة أخرى؟، ألا يعد ذلك تفريطا في التراب الوطني بالمخالفة للدستور؟. وبعد حكم المحكمة الإدارية العليا الذي قطع بأحقية مصر في الجزيرتين وبطلان توقيع الحكومة على اتفاق التنازل عنهما فإن كل ما جري يعتبر خرقا واضحا للدستور في مادته الأولى، وفي تلك المادة، وفي المواد التالية التي سيأتي ذكرها، ولم يعد كلامنا اجتهادا، أو تجنيا، بل هناك حكم قضائي تاريخي له حيثيات مهمة من محكمة عليا، والحكم هو عنوان للحقيقة. مادة(144) "يشترط أن يؤدي رئيس الجمهورية, قبل أن يتولى مهام منصبه, أمام مجلس النواب اليمين الآتية أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصا علي النظام الجمهوري, وأن أحترم الدستور والقانون, وأن أرعي مصالح الشعب رعاية كاملة, وأن أحافظ علي استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه". هذا هو نص القسم الرسمي، قسم أداء اليمين الدستورية للرئيس قبل أن يباشر عمله، وبدون حلف اليمين فإنه لا يمكنه أن يباشر مهامه الرئاسية، ويلاحظ أن القسم يتضمن نفس عبارة مهام الرئيس في المادة 139، وهى الحفاظ على وحدة وسلامة أراضي الوطن، إذاً، فقضية التراب الوطني غاية في الأهمية، ولذلك تتكرر بنصها مرتين في مادتين دستوريتين. مادة(151) "يمثل رئيس الجمهورية الدولة في علاقاتها الخارجية, ويبرم المعاهدات, ويصدق عليها بعد موافقة مجلس النواب, وتكون لها قوة القانون بعد نشرها وفقا لأحكام الدستور. ويجب دعوة الناخبين للاستفتاء علي معاهدات الصلح والتحالف وما يتعلق بحقوق السيادة ولا يتم التصديق عليها إلا بعد إعلان نتيجة الاستفتاء بالموافقة. وفي جميع الأحوال لا يجوز إبرام أية معاهدة تخالف أحكام الدستور, أو يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة". هذه المادة المهمة والحاضرة باستمرار في الاستشهادات بعدم دستورية التنازل عن الجزيرتين تتوج كل المواد السابقة وهى واضحة وقاطعة وحاسمة في عدم جواز التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة. وتلك المادة رائعة حيث تجعل الشعب هو صاحب القرار في قول الكلمة النهائية في معاهدات الصلح والتحالف وما يتعلق بأمور السيادة عبر الاستفتاء، والقيمة الكبيرة لتلك المادة أنها تمنع حتى الاستفتاء الشعبي فيما يتعلق بإبرام أي معاهدة تخالف الدستور، أو يترتب عليها التنازل عن أي جزء من الدولة، ونموذج ذلك العملي هو الجزيرتين. بالتالي يكون الاحساس الشعبي الوطني العام الرافض لكل ما يجري الحديث عنه بشأن عدم مصرية الجزيرتين لم يأت من فراغ. يلفت الانتباه في دستور 2014 الحرص على التشديد حتى التشدد والمبالغة في قضية الحفاظ على الأرض وإقليم الدولة المصرية، وعدم جواز التنازل عن أي جزء منه بأي شكل أو طريقة، ولا حتى عبر الاستفتاء الشعبي، وذلك تحوطا وسدا لأي ثغرة قد ينفذ منها أي تلاعب في حدود الإقليم، فقد تردد خلال رئاسة العام الواحد فقط للرئيس المعزول محمد مرسي أن هناك نية للتنازل عن حلايب وشلاتين للسودان، والتنازل عن جزء من سيناء للفلسطينيين لإقامة دولة لهم عليها تضم غزة مع الجزء المفترض من سيناء في إطار الحل النهائي للقضية. لكن المفارقة أن مرسي رحل دون أي تنازلات عن الأرض، بينما النظام الذي جاء مؤسسا جزءً من مشروعيته الوطنية والسياسية على الحفاظ على كيان الدولة من التفتت، والحفاظ على الأرض من التنازل للغير، وكتب دستورا مقيدا تمام لأي تنازل عن حبة تراب واحدة هو من يتورط، أو يورط نفسه اليوم في التنازل عن جزيرتين مصريتين!. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.