في البداية تصورت أن التسريب الذي أذاعه أحمد موسى في برنامجه ليلة 7 يناير 2017 يتعلق فقط بمكالمة هاتفية بين الدكتور محمد البرادعي نائب رئيس الجمهورية السابق، وبين الفريق سامي عنان رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق. من مضمون المكالمة يتضح أنها كانت خلال رئاسة الفريق أحمد شفيق للحكومة، أي في الفترة بعد تخلي مبارك عن الحكم في 11 فبراير 2011، وقبل إقالة شفيق في 3 مارس من العام نفسه، في هذه المرحلة كان زخم الثورة هائلا، وقد استجاب المجلس العسكري للمطالب التي نقلها البرادعي في المكالمة بتغيير الحكومة، وكان ذلك قبل مليونية جرت في لهذا الغرض. المعنى هنا أن التسجيلات الهاتفية لكبار الشخصيات السياسية والحزبية والعامة كانت مستمرة بعد ثورة 25 يناير، ولو عدنا للتسريبات التي أذاعها عبدالرحيم علي في برنامجه "الصندوق الأسود" خلال فترة سابقة سنجد أن التسجيلات كانت تتم للنشطاء صغار السن أيضا، وبالتالي فإن الجميع كان يتم التسجيل لهم، لا فرق بين شخصية كبيرة سنا وتأثيرا، وأخرى صغيرة، ونقصد في السن، وليس الدور والتأثير. وزارة الداخلية في تلك الفترة كانت تمر بما يشبه أزمة عصيبة بسبب حالة الإنكسار المعنوي الذي تعرضت لها يوم 28 يناير، ونزول الجيش للشارع وتوليه مسؤولية الأمن الداخلي، ثم توليه مسؤولية الإدارة الشاملة للبلاد، وصارت الداخلية في حمايته، وبدت كما لو كانت ملحقة به. هل كانت الداخلية هى من تقوم بهذه التسجيلات؟، ممكن، ففي تلك الفترة كان جهاز مباحث أمن الدولة في حالته الطبيعية، ولم يمسسه سوء يهدد كيانه، أو يمنعه عن مواصلة عمله، بعد ذلك تم اقتحام مقراته، والعبث بها في مشهد فوضوي لم يكن لائقا لأنه بغض النظر عن الممارسات المنسوبة إليه، لكنه يبقى كمباني وإدارات وقدرات وإمكانيات وتجهيزات ملك للدولة والشعب، وليس ملكا لوزير، أو حتى رئيس، ولا تعني تجاوزات الجهاز أن يتم تدميره، إنما الأجدى هو إصلاحه، فالعقول التي تديره تنفذ سياسة موضوعة له، ولا تتحرك من نفسها، والسياسة مصدرها، ليس وزارة الداخلية، إنما السلطة السياسية الحاكمة، وكذلك السلطة التشريعية، أي أن المؤسسات العليا التي تحكم البلاد هى من تحدد له ولوزارة الداخلية كلها منهج عملهم. هل السلطة مع جعل جهاز الأمن كله ملتزما بالدستور والقوانين في ممارسة مهامه اليوميه، وفي صيانة حقوق وكرامة الإنسان، أم هى لا تعبأ بالحقوق والواجبات الواردة في الدستور، وتترك منظومة الأمن تعمل وفق قانونها الخاص؟، الإجابة على السؤال مرتهنة بدرجة الديمقراطية ومساحة الحرية ومدى الاعتبار بدولة القانون ومستوى الرقابة والمحاسبة من جانب البرلمان، وسلطات الرقابة الشعبية من إعلام ومنظمات مجتمع مدني وجماعات ضغط وجمهور. في إسرائيل المجاورة لا أحد فوق القانون قولا وفعلا، وناهيك عن الرؤساء ورؤساء الحكومات السابقين المحبوسين، فإن رئيس الوزراء نتنياهو يتعرض وهو في السلطة للتحقيق مرتين في أسبوع واحد ولساعات طويلة ، في قضايا فساد منها ما يتعلق بتلقيه هدايا عبارة عن علب سيجار فاخر، هذه هى الدولة النتوء في منطقتنا، التي تشعر بأنها مهددة على الدوام، وتعيش حالة استنفار وحرب واستعداد عسكري، لكن ما يعصمها من الهزيمة، ومن التفتت والسقوط هو مبدأ الالتزام الحاسم بالقانون والمحاسبة القاسية لكل مسؤول فيها مهما كان موقعه من رئيسها ورئيس حكومتها والوزراء وصولا لأصغر مسؤول، ولو لم يتم ذلك منذ يومها الأول ما كانت استمرت قائمة لعقد واحد من الزمن. في العالم الديمقراطي الحر فإن مبدأ احترام الدساتير والقوانين والمحاسبة يسمو إلى درجة التقديس، وفي أمريكا الكذب تحت القسم جريمة يمكن أن تطيح بالرئيس المنتخب، وفي كوريا الجنوبية، وهى دولة لازالت تنهض وفي بدايات الديمقراطية، يمثل القانون فيها سيفا لايرحم، والرئيسة الحالية تخضع للتحقيق من النيابة والمحاسبة من البرلمان، وقد يكون مصيرها العزل، لأن صديقة لها استغلت اسمها وعلاقتها بها في ممارسة النفوذ والتربح في أعمالها، هذا البلد شهد دخول عدد من رؤساءه للسجن بسبب الفساد، لذلك يصعد في مؤشر الديمقراطية والنمو الاقتصادي. في المساواة أمام القانون والمحاسة فإن الدول تبقى وتعيش وترتقي وتصعد ولا يخشى عليها من السقوط، إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة، وإسقاط الدولة هى الكلمة التي تتردد في مصر بلا توقف حتى فقدت معناها، وما يهدد الدولة في مصر ليس كل من يقول كلمة حق أو نقد، وليس كل من يرفع مطلبا عادلا أو يختلف مع السلطة للصالح العام، فهذا يعضد بنيان الدولة لأنه يخشى عليه فيدلها على مواطن الخلل في البنيان، إنما إهدار نصوص الدستور والقوانين والحقوق والحريات هو ما يهدد الثقة في الدولة، ويمثل خطرا حقيقيا عليها. إذا لم يكن جهاز مباحث أمن الدولة، أو الأمن الوطني، هو من يقوم بالتسجيل، فإن جهازا أمنيا أو أجهزة أخرى تكون قد تولت المهمة منذ 25 يناير 2011، ولا أظن أن عملية التسجيل توقفت، أو ستتوقف، فهى سياسة أو عادة تكون مقرونة دوما بمقولة الحفاظ على الأمن القومي، وهذا الجهاز لديه ذخيرة هائلة من أحاديث كل نخبة 25 يناير، من كانوا فيها، ومن جاؤوا بعدها وظهروا على السطح وتحركوا في الساحة طوال مراحلها، وتلك التسريبات تُستخدم وفق رؤية يحددها ويختار توقيتاتها صاحب القرار في تلك الأشرطة التي لو تم تفريغها فإنها ستقدم صورة أخرى مغايرة تماما للصورة التي رسمها أصحابها لأنفسهم عبر الإعلام والمجال العام كما بدا من تسريبات البرادعي العديدة التي ظهر أن ما أذيع منها في برنامج أحمد موسى لم يكن يتعلق بالفريق سامي عنان فقط، إنما أذيعت تسريبات مع شخصيات أخرى، وكان البرادعي يتحدث على راحته، وكذلك الأطراف التي على الهاتف معه، وفي التسجيلات المذاعة منذ فترة للنشطاء والإخوان وغيرهم نجدهم جميعا يتحدثون على طبيعتهم دون تحفظات، ومرجع ذلك أنه بعد 25 يناير تولدت قناعة أن نهج التسجيلات والمراقبات خلال عهد مبارك قد انتهى، وهى سياسة تفترض أن الخطر كامن وراء كل شخص نشط وفعال ويتحرك في المجال العام، ولذلك لابد من رصده من خلال اتصالاته وتحركاته، ويبدو أن السياسة والنهج كما هما لم يتغيرا، بل ربما ازدادا بعد يناير، وما أعقبها من انفتاح وحريات ونشاط وآراء ومواقف هائلة غير مسبوقة. عندما ختمت مقالي أمس بمسألة أنه في سياق ردود الإعلام المعبر عن السلطة على حوار البرادعي مع قناة عربية خارجية فإنها لم تقتصر على الاستهزاء به، والتسخيف منه، والاتهامات المعروفة بالخيانة والعمالة والمؤامرة مع الأمريكان وتدمير العراق فقط، لكن هذه المرة حدث ما لم يكن متصورا، مما يعتبر خروجا عن القواعد الحاكمة للدول الكبيرة العريقة العتيدة، وأنظمة الحكم التي تسعى بكل وسيلة لتصدير صورة القوة والصلابة والثبات عنها، وكان المقصود من ذلك تسجيل مكالمة له مع الفريق سامي عنان، والاحتفاظ بالمكالمة طوال 6 سنوات، ثم إذاعتها ليلة 7 يناير 2017 بعد وقت قصير من انتهاء بث الحلقة الأولى لحوار البرادعي في سلسلة حلقاته مع تلفزيون "العربي" اللندني دون اعتبار لكون من يتحدث معه هو قائد عسكري كبير حتى لو كان ترك الخدمة. وللحديث صلة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.