صرخة صامتة، للأمير الشاعر المعتمد بن عباد؛ أحد ملوك الطوائف الذين حكموا الأندلس بعد سقوط الخلافة الأموية بالأندلس، والتى أسسها صقر قريش عبد الرحمن الداخل، والتى امتدت لحوالى ثلاثة قرون. لماذا أصبح معتمداً؟ فبينما كان الأمير محمد بن عباد يتمشى مع وزيره عند ضفاف النهر أعجب بذكاء وجمال جارية كانت تغسل الثياب ولأنها أكملت له بيتاً شعرياً، وعلم أنها جارية عند الرميك ابن الحجاج تخدم زوجه؛ ففتن بها حتى حررها وتزوجها؛ حتى إذا مات أبوه وتولى من بعده الحكم، سمى نفسه المعتمد بالله بن عباد من اسمها اعتماد، وعاشت معه فى رفاهية فاقت الحدود والتخيل. رفاهية.. وبطر: وذات يوم رأت الملكة البدويات يبعن اللبن، وقد شمرن عن سوقهن، وخضن فى الطين. فقالت: أشتهى أن أفعل أنا وبناتى؛ مثلهن! فجهز طيناً صناعياً بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد، وأحضر القرب والحبال، فحملنها وخضن فى الطين الصناعى، وهن يتضاحكن وينادين: من يشترى اللبن؟! انقلاب: وعندما انقلب المعتمد على المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين الذين نصروه على النصارى؛ فنفوه إلى مدينة أغمات بأقصى بلاد المغرب على بغلة يركبها هو وزوجته؛ لإذلالهما؟! وأسكنوه فى بيت وضيع بدائى، فعادت اعتماد إلى سيرتها الأولى، ولكن أشد بؤساً، تتسول مع أولادها، وعدن الأميرات يخضن فى الطين، ويغزلن الغزل ويبعنه فى الأسواق، ويتلقين الصدقات! ولا يوم الطين؟: وذات يوم كان حاجبه الذى كان يدفع الناس عن بابه ويخدمه قد هاجر إلى المغرب، ورأى أبناء وبنات المعتمد؛ فكان يحسن إليهم ويتصدق عليهم! فعلم أن حاجبه السابق يتصدق على بناته؛ فغضب وصمم على رد عطاياه؛ فأبت اعتماد وتشاجرا؛ حتى عيرها بأصلها؛ فأقسمت أنها لم تر منه خيراً قط! فقال: ولا يوم الطين؟! فاستحيت واعتذرت. ولكن ظلت كلماته محفورة فى التاريخ؛ كأبلغ رد على كل من أنكر جميلاً، أو أساء إلى إنسان كانت له عليه أيادٍ بيضاء، أو جحد من أسدى إليه معروفاً، أو جرح عزيز قوم ذل! الذين نسوا أيام الطين!: وهنا نتذكر الكثيرين منا وقد نسوا يوم طينهم؛ مثل: 1-الآباء الذين يستشيطون غضباً عند أول سقطة لأبنائهم وينسون كل ما أحرزوه من تفوق ومواقف شرفتهم وقرت أعينهم. 2-الأبناء الذين يظنون أن الرجولة هى الاستقلالية عن الوالدين ولا يقبلون تدخلهم ولو على سبيل النصيحة، فينسفون كل ما صنعوه معهم، وينسون بر الوالدين. 3-بعضنا لا يذكر فى أحاديثه عن بعض معلميه إلا العصى التى كانوا يؤدبونه بها وينسى فضلهم فى تعليمه، وكيف شاركوا فى صياغته ووضعوا أساس نجاحه فى الحياة. 4-ما يحدث فى بعض الأحزاب؛ عندما يتساقطون زلات أعضائهم ويبنون قرارات التعامل معهم على آخر موقف؛ فينسون سبقه وينصبون المقصلة لخطأ قد يحتمل التأويل أو زلة قد يزيلها قليلٌ من روح التغافر والتسامح. 5-عندما تأخذ البعض العزة بالإثم عندما تقسو عليه جماعته أو حزبه؛ لمجرد التأديب والتربية، ولا يقبل حزم وجدية المحاسبة؛ فينقلب على رفقاء الأمس؛ فيصبح قاتلاً بالإيجار وهادماً لبيته القديم والأصيل حسب الطلب، ويسلم قياده إلى المتساقطين والمناوئين. 6-الأحزاب التى طالما اتحدت من أجل الأهداف والمصالح القومية العليا، ثم لا تلبث عند أول مأزق أو اختلاف فى اجتهاد حول القرارات؛ فإنها تتفرق وتتخاون وتنسى أيامهم الحلوة. كما حدث مع الذين تعايشوا فى التحرير وتقاربوا، ثم ما لبثوا أن فرقتهم حمى الهرولة حول الغنائم النيئة، والشك فى التوجهات السياسية! وهذه الصور أتذكرها على سبيل المثال لا الحصر، والصور كثيرة وتتكرر كل يوم حولنا، ويجمعها رد المعتمد: ولا يوم الطين؟!. د. حمدى شعيب [email protected]