تعكس الأمثلة المصرية قدرًا من الطرافة, ولا تخلو كثيرا من الحقيقة, ففى أحيائنا الشعبية (كما صورته بعض الأفلام القديمة) قد نجد أحيانًا سيدة سليطة اللسان تقف فى شرفتها أو فى الحارة تصيح بأعلى صوتها صخبًا كرد فعل على شىء ما, وغالبا ما تكون على الباطل, ونجد أن جيرانها يخشونها, وربما يسكتون عن حقهم تفاديًا للمشاكل, وهنا تبدو هذه السيدة المشاغبة وكأنها سيدة الحارة, مما جعل أهل الأمثال قديما يقولون: (الغجرية ست جيرانها)!. ومن يتابع المشهد السياسى المصرى حاليًا سيكتشف بكل وضوح أن ما يتحقق (فعليا) هو ما تريده الأقلية, وذلك لأنها أعلى صوتا وأكثر صخبًا, فحين كان مجلس الشورى بقيادة صفوت الشريف يُعين أو يعزل رؤساء تحرير الصحف القومية لم يكن أحد ينطق بكلمة واحدة, وحين أعلن الدكتور أحمد فهمى، رئيس مجلس الشورى، عن تعيين رؤساء جدد لتحرير الصحف والمجلات القومية بصفته رئيس المجلس الأعلى للصحافة وبحكم القانون, هاج وماج عاليو الصوت, بل وصرح بعضهم أن ذلك ليس من حق مجلس الشورى! وحين ترد كلمة (الحدود) على لسان إسلامى ما فى مناسبة ما, فإنهم يضطرونه بعدها للتصحيح أو التوضيح أو التنقيح ليقول أن الكلام قد أخرج من سياقه أو فُهم على غير معناه! وربما تتفق القوى السياسية المختلفة على اعتبار أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع, لكنهم جميعًا يعلمون أن المادة ستوضع فى ثلاجة التجميد, فما من حزب ولا تيار ولا مرشح إسلامى أو غير إسلامى يجرؤ على القول إننا بحاجة ماسة وسريعة لتطبيق الشريعة الإسلامية وكأننا فى وطن لا ينتسب أغلبه للإسلام, وكأننا فى وطن لا تُصوت أغلبيته للإسلاميين! الأقلية تكسب! لقد استطاعت الأقلية أن تجبر الإسلاميين على كثير من المواءمات ولعلها "التنازلات", ومن ثم تكرر دفاع الإسلاميين عن أنفسهم (وكأنهم متهمون) فهم لا يتحدثون عن العراة ولا عن محلات الخمور, ولن تمتد أياديهم إلى نظام البنوك الربوى بالتغيير, وأنهم مع اقتصاد السوق ومع اتفاقية السلام وغير ذلك, بل سارع أحد المرشحين للرئاسة إلى القول: نحن لسنا بحاجة إلى تطبيق سريع للشريعة, وأن تطبيقها ربما يتطلب خمس عشرة سنة بحجة التدرج أو بحجة أن الشعب لم يستعد بعد!, دون إدراك أنها نفس حجج النظام السابق الذى حافظ على وجود مادة الشريعة فى الدستور لكنه لم يطبقها أبدًا. إن فى مصر (كما كتبت من قبل) حزب (غير مُهيكل) يُمكن تسميته "حزب أمريكا" على غرار "حزب فرنسا" بالجزائر, وهو حزب يضم فنانين وأدباء ومثقفين وسياسيين ورجال أعمال ومتنفذين فى جهات سيادية يعملون معا على ترسيخ هذه التبعية, وكلما ارتفع صوت ينادى بما يتسق مع هويتنا واستقلالنا فى أى مجال أدبى أو سياسى أو اقتصادى تداعى أعضاء حزب أمريكا فى صحفهم وفضائياتهم لإرهاب صاحب الصوت تطبيقا للمثل (الغجرية ست جيرانها)! إننا يجب أن نعتز بديننا وشريعتنا, فرئيس وزراء بريطانيا خرج على الناس بقوله: "نحن لا نخجل أن نقول إن إنجلترا دولة مسيحية", ومن قبله رفض ساركوزى ضم تركيا للاتحاد الأوروبى وقال: "يجب أن يظل الاتحاد الأوروبى مسيحيا", وفى مصر, فإن البابا شنودة فى تعليقه على حكم المحكمة المصرية بشأن الزواج الثانى للمسيحيين قال: إننا نطبق حكم الإنجيل لا حكم المحكمة! وأظن أنه من حق البابا شنودة أن يقول ما قال, وظنى أيضًا أن من حق كاميرون وساركوزى أن يقولا ما قالا, ويبقى من حقنا أن نقول ما نؤمن به دون خجل أو مواربة, ودون خشية من أى ردة فعل, وأجرنا على الله.. [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا] (65) النساء مصطفى كمشيش [email protected]