يحتوى إعلامنا على عناكب خفية لا يراها الناس كما يرون البغال والجمال والذباب ومندوبى المبيعات ومحصلى التذاكر، ولكن آثارها تظهر وتتجلى فيما تهجم به علينا هذه القناة أو تلك من تلك القنوات التى تكاثرت تكاثر الشياطين الزرق فى الحمامات العامة، وتفجائنا تلك العناكب من حين لآخر بضيوف على الفضائيات ذوى ألسنة مِراض وأقفاءٍ عِراض، يخوضون فى الشأن العام بكل بجاحة وهم أجهل من الجهل نفسه، ومن أفكار هؤلاء المرضى المتخلفين يتخلق رأى عام زائف حول كثير من قضايا الأمة، ولست أفتقر إلى شجاعة عرض أسمائهم ولكنى أضن بوقتى وقلمى أن أنشغل به بأمثال تلك الشرذمة من المرتزقة البلهاء. على أننى لا أقف بهذا المصطلح الشبابى الساخر (افتكاسات) عند حدود ما يتقيأ أزلام الضيوف فى برامجهم الضحلة وأمام مذيعين ومذيعات جُوف يحاورونهم بانبهار، كما لو كانوا يفهمون!! وإنما أنطلق بمصطل الافتكاس هذا إلى جانبٍ فنّى، يحيرنى كثيرا ولا تسيغه النفس، وهو هذا المنظر السخيف لمذيع ومذيعة يقفان جنبا إلى جنب حين ابدأ قراءتهما لنشرة الأخبار فى القناة الأولى، ويقرآن العناوين وبعض الأخبار وقوفا ثم يجلسان!! أريد أن يتكرم أحد علينا بشرح (الفلسفة) العميقة التى يعتمد عليها (الفكر الجديد) الذى افتكس هذه الافتكاسة؟ وماذا عليهم وماذا على مشاهديهم من بأس لو أنهم كانوا جالسين طوال القراءة؟ وماالذى يضير قارئ (فشرة) الأخبار لو قرأها جالسا؟ الناحية الثانية أن لنشرة الأخبار فى القناة الأولى أهمية كبرة لدى تسعين بالمائة من شعب مصر، ويجب ألا يزيد مداها الزمنى عن ربع ساعة حتى ينصرف الناس إلى أشغالهم، أو إلى ما يتابعونه هنا وهناك.. أما أن تُثقَل بهذه التقارير الفضفاضة المملة الموغلة فى التفاصيل، وأما أن يستضاَف لها ضيوف يسرفون فى التحليل والتعليق والحوار فى أواسط النشرة، فهذا كله عبثٌ عابث، وافتكاسات غريبة مريبة لا مسوِّغ لها. فمثلا شاهدت فى نشرة التاسعة يوم الشهيد (الجمعة 9 مارس 2012) أحد أعضاء المكتب الفنى لشيخ الأزهر، وقد جىء به ليقرأ صفحة مكتوبة – فى وسط النشرة!! – فتحدث الرجل فأخطأ فى اللغة مرتين حين قال (فى هذا اليوم نَهدى للشهداء .....) قرأها مرتين بفتح النون والمضارع (نهدى) إذا فتحت نونه صار من الهداية، وهو يقصد (نُهدى) بضم النون من الإهداء.. ثم استشهد الشيخ للتدليل على منزلة الشهداء بقوله تعالى (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) [آل عمران / 140] وقصد الشيخ بهذا أن كلمة (شهداء) فى الآية مقصود بها جمع شهيد بمعنى المجاهد حتى الموت.. والسياق أليق به أن تكون جمعا لشاهد، وجاء فى تفسير الألوسى لهذه الآية: "... وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ جمع شهيد وهو قتيل المعركة وأراد بهم شهداء أحد كما قاله الحسن وقتادة وابن إسحاق، و«من» ابتدائية أو تبعيضية متعلقة- بيتخذ- أو بمحذوف وقع حالا من شُهَداءَ، وقيل: جمع شاهد أى ويتخذ منكم شهودا معدلين بما ظهر من الثبات على الحق والصبر على الشدائد وغير ذلك من شواهد الصدق ليشهدوا على الأمم يوم القيامة، و«من» على هذا بيانية لأن تلك الشهادة وظيفة الكل كما يشير إليه قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] "وبائقة أخرى من بوائق الفضائيات فى فشراتها الإخبارية، وهى بائقة شديدة الوطأة على نفوس الشرفاء من كل أنحاء مصر، فحين يراد أخذ رأى الناس فس موضوع من الموضوعات أو موقف من المواقف أو قضية من القضايا، يخرج المراسلون بآلات التصوير فيعمدون إلى عينة من البشر تضم الفئات المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ممن يستسهل المراسلون مقابلتهم، ثم يتركون أولئك يتحدثون ولا يظهر لنا سؤال المراسل ولا كيف سأله فتنفجر تلك الفئات منفعلة مرة ومنفلتة مرة فيكون منظرها مضحكا حينا ومبكيا حينا آخر، فهل ظهور المراسلين عورة يجب أن تُستَر؟ وهل هذه الفئات – فى كل مرة- هى كل المجتمع المصرى؟ إنهم جميعًا من سكان القاهرة، ومن سكان قطعة من شارع واحد بالقاهرة؟ أفهذه هى مصر؟ أم أن هذا تدليس خائب، وجهل وراءه مصائب؟ لماذا يجب أن نضحك؟: إذا كانت اجتهادات العلماء فى محاولة تفسير الضحك قد باءت بالازدراء، فإن الحجج التى قدموها لإقناعنا بأهمية الضحك والفكاهة فى حياتنا حظيت بالقبول لأنها تلبى الحاجات النفسية والفسيولوجية للإنسان، ولا حاجة بنا هنا لاستعراض "الحجج" الطبية التى قدمها علماء الصحة فى هذا الصدد من حيث فائدة الضحك فى تنشيط الدورة الدموية، وما يتصل بذلك من انقباض وانبساط عضلات الوجه فى حالتى السرور والحزن فكل ذلك مبسوط فى المقالات والأبحاث العلمية المتخصصة. ولكننا هنا نتوقف أمام تفسيرين غريبين لأهمية الضحك: الأول: مستقى من الفلكلور الصينى الذى يحتفظ بأقصوصة ملخصها أن أحد العلماء بعد أن بلغ السبعين من عمره رزقه الله تعالى بطفل فكأنه رأى فيه مكافأة له على جهاده طوال عمره المديد فأسماه (العمر) وفى العام التالى رزق بمولود آخر تبدو عليه أمارات الذكاء فأسماه (التعليم) ولم يكد العام يمر حتى رزق بمولود ثالث فضحك كثيراً من عجائب القدر الذى أتاح له أن يكون أباً لثلاثة أطفال وهو فى مرحلة توديع الحياة وخطرت له – وهو يضحك – خاطرة عجيبة هى أن يسمى ابنه الثالث هذا (الفكاهة). وتقدمت السن بالعالم الكبير حتى كبر أولاده، وذات يوم خرجوا جميعاً إلى الجبال ليحتطبوا فلما عادوا سأل الرجل زوجته عن كمية الحطب التى أحضرها كل منهم فقال زوجته: “لقد عاد "العمر" بحفنة من الحطب، أما "التعليم" فلم يعد بأى شىء، ولكن "الفكاهة" عاد بكومة كبيرة من الحطب”. ومغزى هذه القصة/الأسطورة واضح فهى تشير إلى أن الحياة العادية الرتيبة (العمر) ذات عائد قليل، وأن (التعليم) فى ذاته لا طائل من ورائه وأن الحياة المرحة (الفكاهة) هى الأكثر جدوى وحيوية. وبتعبير العالم السويدى كريستوفر شبير أستاذ الدراسات الصينية الشعبية بجامعة باريس، فإن هذه القصة الصينية "تصوير للحكمة الصينية الشعبية، التى تنادى بأن قليلاً من الفكاهة فى الحياة يمكن أن يكون أكثر فائدة من الخبرة أو من التعليم". والتفسير الثانى لأهمية الضحك للعالم السوفيتى يورى بورييف الذى يقول: "فى عصرنا الحاضر – عصر الطاقة الذرية – يعتبر الضحك السلاح الوحيد النافع المفيد، وذلك لأنه سلاح للبناء والتعمير، لا التدمير والتخريب". والقارئ العربى الذى يتابع أى صحيفة عربية اليوم يجدها مكتظة بأخبار الحروب والنزاعات والزلازل والفيضانات والكوارث الطبيعية كالسيول والبراكين، والكوارث المفاجئة كحوادث تصادم القطارات وسقوط الطائرات وجنوح السفن والاغتيالات والإرهاب.. إلخ. ولا يوجد فى أية صحيفة عربية من المحيط إلى الخليج صفحة للفكاهة تخفف من عناء بقية صفحاتها التى تزرع الكآبة فى الصفحة الأولى وترويها ببقية الصفحات فإذا وصل القارئ إلى الصفحة الأخيرة ارتفع عنده ضغط الدم واختلت نسبة السكر، وبدأت علامات السعال ومقدمات الإمساك بصفحة الوفيات ورسوم الكاريكاتير التى تمثل – غالباً – النافذة الوحيدة التى تطل على عالم المرح.. وماذا يبتغى المواطن من صحافته غير أن تُضحكه على نفسه حين يرى من اختارهم لتمثيله ليصلحوا الشأن العام قد تفرغوا لإصلاح أنوفهم؟؟؟ [email protected]