تعالوا نعود إلى أصل المسألة. كيف تتخذ القرارات الكبرى فى الدول الديمقراطية بما فيها قرار من يكون رأس الدولة؟ بثلاث طرق أساسية على الأقل. أولا هناك ديمقراطية الإجماع (consensus-based democracy) أو شبه الإجماع والتى يتخذ فيها الناس قرارهم بأغلبية كاسحة قد تصل إلى مستوى الإجماع. وعادة هذه هى أفضل الصيغ إن كان إجماعا حقيقيا قائما على اقتناع بأن شخصا أو حزبا ما هو الأولى بأن يفوز بالمقاعد موضع التنافس. وهذا ما كان عليه إجماع الولايات الثلاث عشرة حين اختارت جورج واشنطن رئيسا للولايات المتحدة، وهذا هو الدور التاريخى لنهرو وحزب المؤتمر الهندى الذى ضمن للهند استقرارها على قاعدة من المواطنة عكس ما حدث فى باكستان حيث غاب الإجماع (بل وحتى التوافق) بعد موت محمد على جناح مؤسس باكستان، وهو نفسه ما قام به الحزب الليبرالى فى اليابان، وقام به نيلسون مانديلا فى جنوب إفريقيا حيث فاز هؤلاء بأغلبية شبه إجماعية فى الانتخابات. ولكن عادة ما يكون من المستحيل استمرار هذا النمط لاستحالة بقاء هذه النوعية من القيادات فترة طويلة واستحالة استمرار الظرف التاريخى الذى برر وجودها. ثانيا، هناك ديمقراطية التنافس (competitive democracy): وهى الشكل التقليدى للتنافس الانتخابى بين المرشحين والأحزاب؛ والفائز يتقدم بإحدى صيغتين: صيغة الأكثرية (plurality) حيث الفائز بأكثر الأصوات يفوز بالمنصب البرلمانى أو التنفيذى حتى لو لم تكن هذه الأصوات أكثر من خمسين بالمائة من الأصوات أو بصيغة الأغلبية (majority) والتى تتطلب أن يكون الفائز حاصلا على نسبة أعلى من نسبة الخمسين بالمائة حتى لو احتجنا أن تُجرى جولة انتخابية ثانية بين من حصل على أكثر الأصوات. وخطورة هذا التنافس فى مراحل تأسيس الدول أنه قد يكون تنافسا استقطابيا لاسيما حين يصيب مجتمع ما آفة الشك المتبادل المبنى على الانقسام المجتمعى بأسبابه الخمسة المعروفة: العرقى، الدينى، اللغوى، الجهوى، الأيديولوجى. ثالثا، هناك الديمقراطية التوافقية (consociational democracy) والتى تعنى وجود صيغة مؤسسية لتقاسم السلطة (power sharing) على أساس غير تنافسى وغير قائم على حكم الأغلبية خوفا من تسييس الانقسامات الحادة المشار إليها وصولا إلى الحرب الأهلية فى بعض الحالات. وهى صيغة نجحت فى المجتمعات ذات المستوى العالى من التعليم والرفاه الاقتصادى والنضج السياسى لدى النخب السياسية التى تمثل الفئات المختلفة التى انقسم على أساسها المجتمع (سويسرا، النمسا، بلجيكا ثلاثة أمثلة ناجحة)، ولكن هناك أمثلة لاقت إخفاقا واضحا حين انخفض مستوى التعليم وارتفعت النعرات الانقسامية بما أدى إلى شلل الدولة أو الحروب الأهلية (العراق، لبنان، نيجيريا كأمثلة غير موفقة). أين مصر من كل ذلك؟ مصر لن تصل فى اختيار رئيسها للإجماع، والانقسامات الأيديولوجية الاستقطابية فيها تجعل الديمقراطية التوافقية فيها بعيدة نسبيا عن الواقع المعاش. إذن لابد من التنافس، ولكن لابد ان يكون واضحا أن التنافس، مع غياب الكثير من آداب الديمقراطية عنا، يمكن أن يجعل التنافس استقطابيا اقصائيا حادا، وهو ما يقتضى «التوافق على الآداب» طالما يستحيل الإجماع أو التوافق على الأشخاص. ومن هنا فأنا أهيب بمؤسسات المجتمع المدنى المهتمة سواء كان «بيت الحكمة» أو «دار الشروق» أو غيرهما أن تبادر بوضع ميثاق شرف أخلاقى لعملية التنافس وليكن هذا هو معنى «الرئيس التوافقى» الذى جاء وفقا للآداب المتوافق عليها وليس بالخروج عليها. ما يحدث فى شوارعنا وملاعبنا ومياديننا يعنى أن هناك خللا كبيرا فى أخلاقنا قد استبد منا. وانتخابات الرئاسة مناسبة استثنائية كى ينطق ويتصرف كل فرد بما اعتاد عليه. وربنا يستر.