قبيل إجراء المرحلة الرابعة من الانتخابات البلدية الفلسطينية يوم 15ديسمبر، صدر تصريح عن وزارة الخارجية الأمريكية يرفض مشاركة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) فيها ، حيث وصف الناطق باسم الخارجية شون ماكورماك الحركة بأنها "متناقضة في مواقفها، فهي منظمة إرهابية وتسعى في الوقت نفسه للمشاركة في العملية السياسية". وكانت حماس قد حققت نتائج جيدة في المراحل الثلاثة الأولى من الانتخابات البلدية. وفي المرحلة الأخيرة التي جرت منذ أسبوعين إكتسحت حماس غالبية دوائر الضفة الغربية ، وهو ما أثار ذعر الكثيرين في عواصم الغرب، على ضوء ما تؤشر إليه إنعكاسات هذا الفوز على نتائج الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في الخامس والعشرين من يناير القادم . فقد رد مجلس النواب الأمريكي في اليوم التالي مباشرة (16/12/2005) بتبني قرار ضد (حماس) بأغلبية 387 صوتًا مقابل معارضة 17 جاء فيه أن: "المنظمات الإرهابية مثل حماس يجب ألا يسمح لها بالمشاركة في الانتخابات الفلسطينية قبل أن تعترف بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية، وتتوقف عن التحريض، وتدين الإرهاب، وتتخلى عن أسلحتها بصفة دائمة، وتفكك بنيتها الأساسية الإرهابية". وحذر القرار السلطة الفلسطينية من وقف المساعدات المالية الأمريكية التي تقدم للفلسطينيين في حال مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية. كما دعا القرار الرئيس محمود عباس إلى "الإعلان صراحة عن عزمه على اتخاذ تدابير للقضاء على المنظمات الإرهابية". بعد يومين أعلن الاتحاد الأوربي يوم 18/12 موقفًا مماثلاً، وهدّد بقطع مساعداته للسلطة الفلسطينية في حال فوز حماس في الانتخابات التشريعية. وقال خافيير سولانا منسق السياسات الخارجية والأمن بالاتحاد الأوربي خلال اجتماع مع شيمون بيريز في القدسالمحتلة : "إن جميع الأطراف السياسية يحق لها المشاركة في الانتخابات الفلسطينية.. لكن من الصعوبة بمكان أن تصبح أطراف لا تدين العنف ولا يزال ميثاقها ينص على القضاء على دولة إسرائيل دون أن تغير تلك المواقف، شريكة في المستقبل.. أقول هذا اليوم لأنكم تعلمون أن الاتحاد الأوربي مانح بالغ الأهمية للسلطة الفلسطينية وسيكون صعبًا جدا إذا أسفرت نتيجة تلك الانتخابات عن وصول طرف لم يتحدث بوضوح عن هذه الأمور إلى الحكم أن تستمر المساعدات والأموال في التدفق على السلطة". بعد خمسة أيام أخرى كشف الإعلام الأمريكي عن خطاب موقع من 73 عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي موجه إلى الرئيس الأمريكي يدعونه فيه إلى مطالبة السلطة الفلسطينية بنزع سلاح حماس قبل الانتخابات البرلمانية ، ويحذرون من أنه "إذا حصلت الجماعات الإرهابية على موطئ قدم كبير في المجلس التشريعي الفلسطيني، فإن هذا سوف يجعل الأمر في غاية الصعوبة - إن لم يكن مستحيلا- فيما يتعلق بأي تقدم في خريطة الطريق، أو تحقيق حل مبني على إقامة دولتين". وأضاف الخطاب: "سوف تكون هناك تداعيات سياسية خطيرة إذا دخلت أيّ من هذه الجماعات إلى السلطة الفلسطينية". لم تمرثلاثة أيام أخرى حتى صدر بيان عن اللجنة الرباعية التي ترعى "عملية السلام" (28/12) تعلن فيه: "إن اللجنة الرباعية تعارض وجود أعضاء في الحكومة الفلسطينيةالجديدة لا يتعهدون باحترام مبدأ حق إسرائيل في الوجود بسلام وأمن، ولا يعلنون نبذهم للعنف والإرهاب". وأردف البيان أن الرباعية المؤلفة من الولاياتالمتحدة وروسيا والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة- تعتقد أن مجلس الوزراء الفلسطيني القادم "يجب ألا يضم أي عضو لم يلزم نفسه بمبادئ حق إسرائيل في العيش في سلام وأمن ونهاية قاطعة للعنف والإرهاب". ودعا البيان السلطة الفلسطينية إلى وقف الهجمات على إسرائيل من قبل المجموعات المسلحة المعارضة لعملية السلام. وأوضح مسئولون بالأمم المتحدة أن بيان اللجنة الرباعية صدر بعد يوم من المشاورات أجراها كوفي عنان مع وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس. هذه الهجمة الشرسة المنظمة على الديمقراطية الفلسطينية الوليدة لم تقع بدون تنسيق على أعلى المستويات. بل والأخطر أنها تؤكد تبعية غربية كاملة لرأس المؤسسة الصهيونية العالمية بغض النظر عن موقعها وطبيعة المهيمنين عليها كمصدر واحد يوجه إملاءات عند الضرورة يمتثل لها الآخرون دون نقاش (صدور الإعلانات الأربعة من مجلس النواب ثم الاتحاد الأوربي ثم مجلس الشيوخ ثم اللجنة الرباعية في فترة زمنية ضيقة يدلل على الجدية الفائقة التي يوليها صناع القرار في عواصم الغرب لمسألة وصول أحد أهم رموز الممانعة العربية والإسلامية إلى مواقع السلطة). تؤكد الحملة أيضا على أن كل مايقال عن خلاقات بين الأمريكيين والأوربيين هو محض هراء وتوزيع أدوار بين "الشرطي الطيب والشرطي الشرس" ، وهي خلافات حول شكليات لا تصل إلى خطوط حمر يتفق الجميع على عدم تجاوزها. وأهم هذه الخطوط الحمر هو ما يتعلق بإقصاء التيارات المقاومة ، وبالذات الإسلامية عن مواقع التأثير واتخاذ القرار، وهو ما يتطلب تجفيف منبع هذا الأمر بمنعها من ممارسة النشاط السياسي أصلا (لاحظ مثلا في مصر أن التجليات الثلاثة للتيار الإسلامي المعتدل ممنوعة قسرا من حق مزاولة النشاط السياسي : جماعة الإخوان محظورة ، وحزب العمل مجمد ، وحزب الوسط معلق). يقول المفكر السوري الكبير ميشيل كيلو في صحيفة (الخليج) ، تعليقا على الموقف من مشاركة حماس في الانتخابات ، أن "أمريكا تعتبر الديمقراطية ورقة سياسية وترفض أن ترى فيها خيارا تاريخيا وإنسانيا، وأنها تقبل بها عندما تخدم مصالحها، وترفضها حين تخدم مصالح الشعوب الفقيرة والمضطهدة التي تعتبرها وسيلتها إلى تغيير أوضاعها، بالتخلص من نظم بلدانها الفاسدة أو من سيطرة وهيمنة أمريكا على أقدارها ومصيرها. كان موقف أمريكا من الديمقراطية في فلسطين متوقعا، فهي تكذب عندما تعلن إيمانها بالديمقراطية، وتصدق عندما ترفض أن تكسب حماس انتخابات ديمقراطية، لأن نجاحها يعزز خطا سياسيا/ عسكريا يرفض احتلال فلسطين، ويؤمن بالصراع المسلح سبيلا إلى تحريرها منه، ويعني وصوله إلى السلطة تعاظم مأزق السياسة الأمريكية في عموم المنطقة العربية، بينما جيش الاحتلال غارق في وحل العراق. لكن موقف أوروبا لم يكن متوقعا بالقدر نفسه، ليس فقط لأن سلوكها تجاه المنظمات الإسلامية يختلف عن سلوك أمريكا، ولكن أيضا بسبب اختلاف فهمها للديمقراطية عن الفهم الأمريكي، واختلاف خططها تجاه الإرهاب في هذه النقطة أو تلك عن خطط واشنطن. هل لهذا الموقف الأوروبي طابع تكتيكي يستهدف الضغط على المواطن الفلسطيني كي لا يعطي صوته لممثلي حماس؟ ربما. في حال فازت حماس في انتخابات المجلس التشريعي، وصار بوسعها تشكيل حكومة تمسك بالقرار الوطني الفلسطيني، وتطبق استراتيجية إسلامية ستنفذ، لأول مرة في تاريخ الصراع الإسرائيلي ضد فلسطين والعرب، سياسات تختلف عن كل ما سبق للعدو الإسرائيلي أن واجهه خلال قرن من الصراع الدامي. نجاح حماس سيقلب معادلات محلية وإقليمية ودولية، وسيؤذن ببدء حقبة جديدة في تاريخ المنطقة، سمتها الرئيسة صعود الإسلام السياسي إلى الحكم في فلسطين." ولكن ما هو هدف الحملة الغربية على الديمقراطية الفلسطينية ، وكيف لحماس أن تتعامل معها للحد من أضرارها ؟ وهل تصمد الأطراف المستهدفة كما تصمد إيران (التي تسعى لتجاوز خط أحمر آخر) منذ شهور أمام حملة أشد شراسة ضد برنامجها النووي؟ هذا ما سنطرحه الأسبوع القادم بإذن الله. [email protected]