يتداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي صورة المنشور الذي وزعته الجماعات الإسلامية يوم 27 يوليو للعام 2011 عن مليونية "جمعة هوية مصر الإسلامية" والتي تصدرها شعار بالعنوان البارز "نعم للمجلس العسكري" وتوقيعها باسم الدعوة السلفية والإخوان المسلمين ، وبعض الأسماء المشهورة للدعاة ، وهي مليونية شهيرة وضخمة ، وقد وصفها خصوم الإسلاميين وقتها بأنها "مليونية قندهار" تنديدا بها ، باعتبارها حراكا دينيا متطرفا من وجهة نظرهم ، والحقيقة أنها لم تكن كذلك ، ولكنها كانت تعبيرا من قطاع من الشعب مهتم بقضية الشريعة وهوية مصر وكانت اللحظة التاريخية تتفهم ذلك ، في عنفوان نهوض شعبي فجرته ثورة يناير ، وأصبحت كل خلايا المجتمع تنتفض وتتحرك وتقدم مطالبها وتستعرض قوتها أيضا ، حتى ضباط الشرطة وأمناء الشرطة والنقابات المختلفة كانوا يتظاهرون ويستعرضون احتجاجهم ومطالبهم ، كانت لحظة إحساس الناس بأنهم استعادوا وطنهم ويعرضون عليه همومهم ومطالبهم ويحتكمون إليه واثقين أنه وطنهم وأنهم هم الذين يحددون مستقبله ويصنعون تاريخه الجديد . الشاهد من المنشور المتداول هو عبارة "نعم للمجلس العسكري" التي تتصدره ، للرد على الإخوان والإسلاميين الذين يقولون الآن للآخرين كيف وثقتم في المجلس العسكري بعد 30 يونيه ، وهل كنتم تتوقعون أن يأتي لكم المجلس العسكري بالديمقراطية الحقيقية ؟! ، والحقيقة أن الأمور لم تكن سيئة أبدا مع المجلس العسكري والقيادة العسكرية بعد ثورة يناير ولا بعد يونيه ، إلا بعد مرحلة من التجربة والشد والجذب والأحداث في الحالتين ، جعلت قطاعا من شباب يناير يعترضون على سياسات المجلس العسكري ويهتفون ضده في نهاية عام الثورة الأول 2011 ويبتعدون عنه تدريجيا ، بينما كان الإسلاميون وقتها يغتنمون هذه الفرصة ويبدون تأييدهم المطلق والكاسح للجيش والمجلس العسكري ويدعمون إدارته للسلطة العليا في البلاد ، وكانت صحف الإسلاميين على اختلاف أشكالها تعج بالمانشتات الكبيرة عن تأييد المجلس العسكري والدفاع عنه ضد شباب الثورة ، وفي كل الصدامات التي جرت بين شباب الثورة وبين المجلس العسكري كان انحياز الإخوان للجيش والمجلس العسكري الذي يقود البلاد وقتها ، ثم عندما تم وفاء المجلس العسكري بتعهده إجراء انتخابات رئاسية ، وجاءت بإعلان فوز مرشح الإخوان الدكتور محمد مرسي تعززت ثقة الإسلاميين بالمجلس العسكري والجيش بشكل أكثر موثوقية وحصل الفريق عبد الفتاح السيسي وقتها بعد تعيينه على مساحة من الغزل الإسلامي لم يشهدها قائد عسكري من قبله ، سواء من الإخوان أو السلفيين ، حتى قالت فيه صحيفة الإخوان أنه "وزير دفاع بنكهة الثورة" . وعندما جاءت أحداث 30 يونيه ، كان الجميع يتوقع تدخل الجيش لصالحه ويراهن على ذلك ، الإخوان ظلوا حتى اللحظة الأخيرة ينتظرون تدخل الجيش لصالحهم ، مؤكدين أنه سيحمي الشرعية وأن بياناته هي تحذير لجبهة "الخراب" كما كانوا يسمونها ، وثقتهم كاملة بقائد الجيش و"رجال من ذهب" ، بينما خصومهم من القوى المدنية وعلى رأسها جبهة الإنقاذ وبقايا نظام مبارك كانوا يمنون النفس بتدخل الجيش لإنهاء حكم مرسي كما حدث مع مبارك والسيطرة على الفوضى التي نشرها في البلاد ، ولما كان بيان 3 يوليو ، احتفل به كل القوى الوطنية بنفس أجواء يوم إعلان مبارك تنحيه واستلام الجيش للسلطة في 11 فبراير 2011 ، باستثناء الإخوان وقطاع من الإسلاميين بالطبع لأنهم هنا خسروا سلطة كانت بأيديهم بالفعل ، وكان الجميع مقتنعا بأن المجلس العسكري بقيادة السيسي أعاد البلاد إلى المربع الأول بعد ثورة يناير ، لكي تبدأ خريطة جديدة نبني فيها دستورا جديدا وانتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة ونستعيد ثورة يناير "التي اختطفها الإخوان" حسب الخطاب الذي كان شائعا وقتها ، وعلى النحو الذي جربوه مع المجلس العسكري في العامين اللذين أعقبا ثورة يناير وإسقاط مبارك ، لكن ، مع مرور الوقت ، اتسعت مسافة البعد بين المجلس العسكري وبقية القوى ، وتدريجيا تحولت الثقة إلى شكوك ، ثم تحولت الشكوك إلى اتهامات ، ثم تحولت الاتهامات إلى احتجاجات في الشوارع انتهت إلى قتل البعض واعتقال الآلاف من حلفاء المجلس العسكري في 30 يونيه ، وأدرك الجميع أن الحسابات هذه المرة كانت مختلفة عن حسابات ما بعد يناير 2011 ، وأن الهزال والتمزق الذي أصاب النسيج الشعبي الذي كان يمثل زخم يناير وأيامها ومليونياتها أضعف قدرة الجميع على انتزاع القرار ، وكان ما كان . الشاهد من سرد هذا السياق التاريخي الحي ، هو تذكير من يهتمون بالبحث عن مستقبل أفضل لبلادنا ، أن الجميع أخطأوا التقدير ، في يناير وفي يونيه ، وأن الجميع كانت لهم مواقف متطابقة مع المجلس العسكري ، سواء الإخوان وحلفاؤهم أو القوى المدنية ، فقط موقع الكراسي تغير في هذه اللحظة أو تلك ، فمن كانوا على يمين المجلس العسكري في أعقاب يناير أصبحوا على يساره في يونيه ، ومن كانوا على يساره في يناير أصبحوا على يمينه في يونيه ، ثم خرج الجميع يمينا ويسارا من اللعبة بكاملها في النهاية ، لكن الجميع مارس نفس اللعبة ونفس الأخطاء ، وأحيانا نفس الانتهازية السياسية ، ويبقى أن لا ينشغل الجميع بالبحث عن اتهامات للأطراف الأخرى ، لأن هذا لن يفيد كما يسهل الرد عليه من نفس زاوية النظر والسلوك ، وإنما الأفضل والأهم أن يعترف الجميع بأخطائهم بشجاعة ويتعاملوا مع نتائجها بحكمة ، وينشغلوا بالمستقبل أكثر من الماضي ، لأن المستقبل هو ما يملكونه ، ويقدرون على تشكيله وصياغته ، أما الماضي فقد تحول إلى تاريخ من التاريخ ، وربما يكون لبعض فصوله ومظالمه حضور بعد سنوات أو أجيال في ساحات القضاء وميدان العدالة .