شهد القرن التاسع عشر حياة عدد وافر من أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، وعلى الرغم من تنوعهم في التخصص، وتعدد اهتماماتهم نظريا وحركيا وتنظيميا، اتفقت رؤيتهم على أهمية الإصلاح الديني والفكري والتربوي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.. وقد عاودتنا في هذه الأيام ذكرى وفاة أحد كبار الأعلام في تاريخ النضال التحرري العربي والإسلامي المعاصر.. وهو المصلح الكبير عبد الرحمن الكواكبي الذي توفى في الرابع عشر من يونيو 1902م.. ولد الكواكبي إبان منتصف القرن التاسع عشر حوالي عام 1855 في بيت علم وفضل وأدب وسؤدد يعود نسبه من والديه كليهما إلى الحسين بن علي، رضي الله عنه وعن أبيه وأمه وصلى الله وسلم على جده المصطفى، كما يرتبط نسب العائلة الكواكبية بالأسرة الصفوية التي حكمت إيران منذ بداية القرن السادس عشر وحتى الثلث الأول من القرت الثامن عشر، علما بأن الكواكبي وخلافا للصفويين كان سنيا حنفيا. توفيت والدة الكواكبي وهو في السادسة من عمره فاحتضنته خالته وعلمته في سنيه الأولى في أنطاكية حيث أخذ عن عم أمه السيد (نجيب النقيب) مؤدب الأمير المصري الخديوي عباس حلمي الثاني، ثم لم يلبث أن انتقل إلى حلب والتحق بالمدرسة الكواكبية حيث كان أبوه مديرا ومدرسا بها، فظهر نبوغه وبراعته وتخرج في المدرسة ونال إجازة التدريس وهو في العشرين من عمره (1875)، وحدث عن نديمه الأنطاكي عن أول يوم دخل فيه المدرسة الكواكبية أستاذا حيث تلقاه أبوه على مصطبة الجامع وقبل جبهته فرحا، وقال له: "إنني مسرور بهذا النجاح الظاهر عليك، والذكاء المنبعث من عينيك، ولكنني أقرأ على جبهتك ما لا يسرني من مستقبلك." اشتغل الكواكبي بالتدريس عامين قبل أن ينتقل محررا في صحيفة "الفرات" الرسمية، والتي لم يجد فيها مساحة كافية من الحرية التي يطمح إليها لعرض أفكاره ونشر آرائه، فأنشأ مع هشام العطار جريدة "الشهباء" (1877)، كأول صحيفة حلبية باللغة العربية، ولكنها توقفت بعد ستة عشر عددًا بأمر السلطات العثمانية.. ثم أصدر صحيفة "الاعتدال" (1879) ولم تلبث أن توقفت بعد عشرة أعداد، تحول بعدها الكواكبي لدراسة القانون وعمل بعد وظائف رسمية في حلب حتى عين رئيسا لبلدية حلب عام 1892، ولما شعر بوقوف السلطة في وجه طموحاته اتجه للعلم بالمحاماة حيث دافع عن المظلومين وساعد المحتاجين حتى اشتهر بلقب "أبو الضعفاء." وفي عام 1898 رحل إلى مصر كاتبا ومجاهدا رحالة تجول في مدن العالم الإسلامي يجمع المفكرين للتشاور حول نهضة الأمة حيث سجل مقررات مؤتمر النهضة الإسلامية في مكة (ذو القعدة 1316/مارس 1899) في كتابه "أم القرى" الذي نشره باسم مستعار هو "السيد الفراتي.." ثم الكواكبي نشر مقالاته حول الاستبداد في كتابه ذائع الذكر "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" الذي صار من أهم أدبيات الاستبداد في اللغة العربية.. وربما دفع الكواكبي حياته ثمنا لما جاء في هذا الكتاب، فقيل إنه مات مسموما بأمر من السلطات التركية بعد نشر كتابه هذا. يقوم المشروع الإصلاحي للكواكبي على نظام متسق أساسه العلم وعماده الحرية والعدالة وغايته القضاء على داء الأمة العضال وهو الاستبداد. لاحظ الكواكبي بناء الإسلام على العقل واهتمامه بالعلم ونشره التعاليم والمباديء التي بها إماتة الاستبداد وإحياء العدل، فالعلم طريق الحرية بل بالعلم يتحقق الناس أن الحرية أفضل من الحياة، ورأى الكواكبي أنه لا لذة في الحياة إلا بالعدالة والحرية؛ ففي ظل العدالة والحرية يحيا الإنسان يومه عاملا وليله متفكرا؛ إن طعم تلذذ، وإن تلهى تروح وتريض.. وإذا كان العلم رأس الإصلاح، فالاستبداد أس الفساج، ومن ثم آمن الكواكبي أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان؛ فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل، والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحيانا في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس، والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم.. والعلم الذي يقصده الكواكبي ليس علم اللغة ولا علم الدين، وإنما علم الحكمة النظرية، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ، لذلك كان حث النظرية الإسلامية على العلم، وكان أول ما نزل من القرآن الأمر بالقراءة طلبا لهذا المقصد العظيم بإحياء العلم وإماتة الاستبداد.. وأقبح أنواع الاسبتداد استبداد الجهل على العلم، والاستبداد شر كله لأنه مفسد للدنيا والدين؛ فهو يفسد الدين في أهم أقسامه وهو الأخلاق فيدفع الناس إلى استباحة الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل وإلى مراغمة الحس وإماتة النفس ونبذ الجدّ وترك العمل... والمستبد يتخذ من أهل العلم والمجد سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن أو توسيع المملكة أو تحصيل منافع عامة... والحقيقة أن كل هذه الدواعي ما هي إلا تخييل وإيهام. أما الحكومة المستبدة، في عند الكواكبي مستبدة طبعا في كل فروعها من المستبد الأعظم، إلى الشرطي، إلى الفرَّاش، إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا، لأن الأسافل لا يهمهم طبعا الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشرا أم خنازير، من آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه. وإذا كان العلم ينبت الحرية فإن الحرية لا بد لها من تربية راشدة ولم ينس الكواكبي أهمية الحرية في العملية التعليمية، فنقل إجماع علماء الاجتماع والأخلاق والتربية على أن التعليم مع الحرية بين المعلم والمتعلم أفضل من التعليم مع الوقار بل طالب أن يكتب كل ناشئ على جبهته: أنا حر وسأموت حرا.. والتربية عند الكواكبي ضالّة الأمم وفقدها هو المصيبة العظمى، وفي العملية التربوية اجتماع عمل المربي على التعليم والتمرين مع هدي الدين لتحقيق تربية متكاملة بغية الإصلاح، ففي عملية الإصلاح لم ير الكواكبي تفرقة بين الدين والعلم بل الدين عنده علم، وإصلاح الدين عنده أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السياسي، ولا بد للإصلاح من تربية صحيحة، وهي لا تحصل إلا بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس، وأهم أصولها وجود المربين، وأهم فروعها وجود الدين لأن الدين علم لا يفيد العمل إذا لم يكن مقرونًا بالتمرين. ومن اللافت للنظر هنا ملاحظة الكواكبي المبكرة للحاجز النفسي الأوربي الذي صنع أساس النظام العلماني وفصل الدين عن الدولة،فقد رأوا الدين كما صوره الكواكبي عائقا لتحضر الأمم وعائقا للنور، ووافقهم الكواكبي على ذلك فيما يتعلق بالديانات التي تقوم على الخرافة أما الإسلام فمبناه على العقل، ولا شك في أن الدين إذا كان مبنيٍّا على العقل، فإنه يصرف الفكر عن الوقوع في مصائد المخرفين ويضبط النفس عن الشطط ويهذب الأخلاق ويعين على تحمل مشاق الحياة، وينشط على الأعمال المهمة ويثبت على المبادئ الشريفة، فيكون أصح مقياس للاستدلال به على الأحوال النفسية في الأمم والأفراد رقيٍّا وانحطاطًا. لقد كانت حياة الكواكبي حياة للروح العربية الغافية ولحظة بعث في تاريخ العرب الحديث، نبههم فيها للحرية والعلم وحذرهم من بطش الله فقال: "لولا حلم الله لخسف الأرض بالعرب".. وعاب على المنافقين طمسهم على العقول حتى جعلوا الناس ينسون لذة الاستقلال، وعزة الحرية.. ومما يؤخذ على الكواكبي قوله بالشورى الأرستقراطية ومناداته بخليفة قرشي، بل رأى البعض في بعض آرائه سعيه لطلب الخليفة لنفسه، وهذه الأفكار وإن كان لها بعض سند في التراث فليس الأمر فيها بقاطع، والاجتهاد فيها مفتوح، ولم يعد القول بها مما يلائم مقتضيات العصر الحاضر.. وبعد حياة مترعة بالنشاط والترحال والكتابة والنضال، رحل الكواكبي عن عالمنا في يونيو 1902.